الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (26)
* * *
* قَالَ اللهُ عز وجل: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر: 26].
* * *
ثُم قال الله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ} أَعوذُ بالله! وقد كانوا اقتَرَحوا أن يَقتُلوا أبناءَ بني إسرائيلَ، وَيستَحوا نِساءَهم، لكِنَّ فِرعونَ قال:{ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ} اترُكوني أَقتُل موسى. وإنما قال هذا؛ لأن موسى هو زَعيم بني إسرائيلَ، ومَعلوم أنَّ قَتْل الزعيم يُوجِب وهَن الأَتباع وضَعْفهم.
وفي قوله: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى} اترُكوني، دليلٌ على تمَويه فِرعونَ، وأنه رجُل مُموِّه كائِد، خَبيثٌ كأنَّه يَقول: إن الناس يُمسِكُونني عن قَتْل موسى، ولولا أن الناس يُمسِكوني لقَتَلته. فتقول: اترُكوني عليه، اترُكوني أَقتُله. مع أنه لا أَحَدَ يَستَطيع أن يَرُدَّه عن مُراده؛ لأنه يَقول لهم:{أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24] ، لكن يُموِّه {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى} و {أَقْتُلْ} مجَزوم على أنه جَوابُ الأمر {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى} وجَوابُ الأمر يَكون مَجزومًا، وهل هو مجَزوم به، أو بشَرْط مُقدَّر؟ على قولَيْن:
القولُ الأوَّلُ: إنه مجَزوم به.
والثاني: إنه مَجزومٌ بشَرْط مُقدَّر، والتَّقدير: إن تَذَروني أَقتُل موسى، والقاعِدة
عِندنا في التَّفسير، وفي الحَديث: أنه إذا دار الكَلام بين التَّقدير وعدَمه فالأصل عدَمُ التَّقدير، وعلى هذا فنَقول:{أَقْتُلْ} فِعْل مُضارع مَجزوم على أنه جوابُ الأمر، وعَلامة جَزْمه السُّكون.
قال المفَسِّر رحمه الله: [{أَقْتُلْ مُوسَى}؛ لأنهم كانوا يَكُفُّونه عن قَتْله] بنَى المفَسِّر رحمه الله قوله هذا على ظاهِر اللَّفْظ، أنهم كانوا يَكُفُّونه، ويَقول: ذَروني أَقتُله، ولكن الذي نرى: أنَّه كَذَّاب لم يَكُفَّه أحدٌ عن قَتْله، ولا يَستَطيع أحدٌ أن يَكُفَّه عن قَتْله أبدًا، لكن هو أَراد أن يُمَوِّه؛ لأنه لا يَستَطيع أن يَقتُل موسى؛ فادَّعى أنه -أو تَظاهَر بأنه- يُكَفُّ عن قَتْله، وَيقول:{ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى} .
قال: {وَلْيَدْعُ رَبَّهُ} تحدٍّ - والعِياذ بالله-، والواو حَرْف عَطْف، واللَّام لام الأَمْر، و"يَدْعُ": فِعْل مُضارع مجَزوم بلام الأمر، وعلامة جَزْمه حَذفُ الواو، والضَّمَّة قبلها دليلٌ عليه، وأصلُ "يَدْعُ":"يَدعو".
وقوله: {أَقْتُلْ} و {وَلْيَدْعُ} هذا تحدٍّ سافِرٌ لموسى ومَن أَرسَله سبحانه وتعالى، يَعنِي: إن كان صادِقًا؛ فلْيَدعُ هذا الربَّ الذي أَرسَله، قال المفَسِّر رحمه الله:[ليَمْنَعه مِنِّي].
وقوله: {وَلْيَدْعُ رَبَّهُ} ذكَرْنا لكم أنَّ اللَّام لامُ الأمر، وهي ساكِنة، فبعد الواو والفاء و (ثُم) تكون ساكِنة، قال الله تعالى:{فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ} [الحج: 15]، وقال تعالى:{ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: 29]، وهنا قال:{وَلْيَدْعُ رَبَّهُ} .
وقوله: {رَبَّهُ} ولم يَقُل: رَبَّنا؛ لأنه لا يَعتَرِف ظاهِرًا برُبوبية الله، وإنَّما أَضاف
الرُّبوبية إلى مُوسى، من أَجْل التَّبكيت، يَعني: كأنه يَقول: هذا رَبُّك الذى زعَمْت، إن كُنتَ صادِقًا فلْيَمنَعْك مِنِّي.
قال تعالى: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} .
قوله: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ} هذا الخوفُ حَقيقيٌّ، هو يَخاف أن موسى بما معَه من الآيات يُبدِّل دِين هَؤلاءِ؛ لأن دِينهم التَّعبُّد لفِرعونَ، وموسى يَقول: اعبُدوا الله؛ فإذا جاءَ بالآيات واتَّبَعه الناس بَدَّل الدِّين، فصَارَ الناس بدَل أن يَتَّجِهوا إلى فِرعونَ وَيعبُدوه، يَتَّجِهون إلى الله عز وجل؛ ولهذا قال المفَسِّر رحمه الله:[{أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ} من عِبادتكم إيايَ فتَتَّبِعونه].
إِذَنْ: دِينهم هو عِبادتهم فِرعونَ، فإذا دعاهم موسى إلى عِبادة الله انصَرَفوا إلى الله، فتَبدَّل الدِّين، واتَّبَعوا موسى.
فقوله: "وَأَنْ يَظهَر فى الأَرْض الفَسادُ" الفَساد على زَعْمه هو: صرف الناس عن عِبادته إلى عِبادة الله، هذا وَجهٌ.
وجه آخَرُ: تَفريق الناس بدَل أن كانوا مُتَّفِقين عليه، ما بين خائِف وراغِب، يَختَلِفون؛ فيَكون بعضُهم تابِعًا لمُوسى، وبعضُهم لفِرْعون، وتَفرُّق الأُمَّة لا شكَّ أنه فَساد، فصار إظهار الفَساد يَدَّعيه من وجهَيْن: الأوَّل: تَغيِير الدِّين. والثاني: تَفريق الأُمَّة.
قال المفَسِّر رحمه الله: ["وَأَنْ يَظهَرَ فى الأَرْضِ الفَسادُ" مِنْ قَتْل وغَيْره]، القَتْل هذا غالِبًا من لازِم الاختِلاف، ولازِم الاختِلاف بين الأُمَّة أن يَصِل بهم النِّزاع إلى حَدِّ المُقاتَلة أو غيره، ومنه تَغيُّر عِبادة الناس من عِبادة فِرعونَ إلى عِبادة الله.