الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال المفَسِّر رحمه الله: [أي: ادْعُوني أُثِبْكم بقَرينة ما بعدَه، وهذا التَّفسيرُ بِناءً على تقدَّم يُعتبر تَفسيرًا قاصِرًا، وأمَّا ما بعده فليس قَرينة لتَخصيص هذا، بل نَقول:{إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِيَ} تَدُلُّ على أن الدُّعاء عِبادة؛ لأنه قال: {ادْعُونِي} ، ثُمَّ قال:{إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} ولا شَكَّ أن الذي يَستكبِر عن دُعاء الله ويَرَى أنه غَنيٌّ عن الله وليس محُتاجًا إليه لا شَكَّ أنه مُستَحِقٌّ لهذا الوَعيدِ، وهو أنه سيَدخُل جَهنَّمَ صاغِرًا.
قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} هذا من جُملة المَقول {سَيَدْخُلُونَ} قال المفَسِّر رحمه الله: [بفَتْح الياء وضَمِّ الخاء وبالعَكْس]"يُدخَلون" وهُما قِراءَتان سَبْعيتان صَحيحتان.
{جَهَنَّمَ} اسمٌ للنار، وهو اسمٌ مُعرَب وأَصلُه -على ما قيل- كهَنَّام، وقيل: بل هو عرَبيٌّ، والنون فيه زائِدة وأَصلُه من الجهمة يَعنِي: الظُّلْمة، وأيًّا كان فهو علَمٌ على النار، أَجارَنا الله وإيَّاكُم منها.
وقوله: {دَاخِرِينَ} قال المفَسِّر رحمه الله: [صاغِرين] الداخِر: الصاغِر.
من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:
الْفَائِدَةُ الأُولَى: إثباتُ القَوْل لله سبحانه وتعالى، وهذا القولُ هل هو قولٌ نَفسيٌّ لا يَظهَر أو هو قَوْل ظاهِر؟
الثاني قول ظاهِر؛ لأن القولَ النَّفسيَّ إذا أُريد قُيِّد كما في قوله تبارك وتعالى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} [المجادلة: 8]، {يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ} [آل عمران: 154]، فإذا أُطلِق القولُ صار المُراد به الكَلامَ المَسموعَ، وهذا
قول السلَف، وأَئِمَّة الخلَف أن الله يَتكَلَّم، ويَقول بقَوْل مَسموع وبحَرْف: أنك إذا ادْعُوني سأَستَجِب لكم؛ وهذه كلِماتٌ مُركَّبة من حروف، إِذَنْ يَتكَلَّم بحرف وصوت عز وجل.
وقول مَن قال: إن كَلام الله هو المَعنَى القائِم بالنَّفْس، وإن ما يُسمَع عِبارة عن كلام الله، خلَقه الله ليَسمَعه الناس، وإلَّا فإن كلامه في نَفْسه فقَطْ، باطِل؛ أي: هذا قول باطِل؛ لأنَّنا إذا فسَّرْنا القول بهذا صار مَعناه العِلْم وليس القول.
والآنَ نُريد أن نُقارِن بين قولَيْن، قول يَقول: الذي في المُصحَف فهو كَلام الله مخَلوق. وقول آخَرُ يَقول: الذي في المُصحَف فهو عِبارة عن كلام الله مخَلوق. أيُّهما أقرَبُ إلى الصَواب؟
الجوابُ: الأوَّل، الأوَّل قول الجَهمية والمُعتَزِلة، والثاني قول الأشاعِرة، فتَبيَّن الآنَ أن قول المُعتَزِلة والجهْمية في كلام الله خير من قول الأشاعِرة، مع أنهم يَدَّعون؛ أي: الأشاعِرة أنهم من أهل السُّنَّة والجَماعة، وكيف يَكون هذا؟ !
إِذَنْ: نُثبِت من هذه الآيةِ القولَ لله تعالى، والقول لا يَكون إلَّا بنُطْق مَسموع وبحُروف.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: بَيان عظَمة الربِّ وتَعاظُمه من قوله: {وَقَالَ رَبُّكُمُ} ، فإن هذا الصِّيغةَ تَدُلُّ على عظَمة القائِل عز وجل.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: إثبات الرُّبوبية لله، وهي تَنقَسِم إلى قِسْمَيْن عامَّة وخاصَّة، فالعامَّة: الشامِلة للخَلْق، وهي تربية الخَلْق بالنِّعَم وتَغذيتهم بالنِّعَم، والخاصَّة: هي تربية عِباد الله المُؤمِنين؛ حيث ربَّاهم الله عز وجل على ما يُحِبُّ، وقدِ اجتَمَع النَّوْعان
في قوله تعالى عن السَّحَرة آل فِرعونَ: {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف: 121 - 122] فالعامَّة {بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} ، والخاصة:{رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} .
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: وُجوب دُعاء الله تعالى، تُؤخَذ من قوله:{ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} ؛ لأنها تَتضَمَّن: لا تَدعوا غَيري.
الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: أن الله تَكفَّل ووعَد الداعِيَ بأنه يُجاب؛ لقوله: {أَسْتَجِبْ لَكُمْ} .
فإن قال قائِلٌ: نَدعو كثيرًا ولا نرى إجابةً ونَعمَل كثيرًا، ولا نُحِسُّ بقَبول، فما الجَوابُ؟
الجوابُ أن نَقول: الأسباب لا تُؤثِّر إلَّا إذا وَجَدت مَحَلًّا قابِلًا، أَرَأَيْتم السِّكِّين إذا قَدَدْت بها اللَّحْم فإنه يَنقَطِع، وإذا قدَدْت بها الحَديد لا يَنقَطِع مع أنها في اللَّحْم بتَّارة، وفي الحَديد لا تَعمَل شيئًا، فالسبَب لا بُدَّ أن يَكون له مَحَلٌّ قابِل، وإلَّا فلا أثَرَ له.
ففي العِبادة يَعبُد الإنسان ربَّه ولا يَشعُر بقَبول؛ لوجود سبَب يَمنَع ذلك، إمَّا فواتُ شَرْط أو رُكْن أو واجِب، أو حُدوث مُفسِد، وإلَّا لو أنَّا أَقَمْنا العِباداتِ على ما طُلِب منا لوجَدْنا لها أثرًا، قال الله تعالى:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45] مَن مِنَّا يَشعُر إذا صلَّى بكَراهة الفَحشاء والمُنكَر؟ والصلاة تَنهَى عن الفَحْشاء، فلِماذا لا نَشعُر بهذا؟
الجواب: لأنَّنا مُقصِّرون.
ففي الدُّعاء دائِمًا نَدعو الله سبحانه وتعالى ولا نَرَى إجابة؛ فنَقول فيها كما قُلْنا
في الأوَّل-: أن السَّبب لا بُدَّ له من محَلٍّ قابِل، فإذا دعا الإنسانُ ربَّه لكن قد فاتَه شيء من آداب الدُّعاء الواجِبة أو المُستَحبَّة، أو وُجِد مانِع يَمنَع من قَبول الدُّعاء، فليس الخلَل في الدُّعاء، بل الخلَل في الداعِي والمَحَلِّ.
ولْنَضرِب مثَلًا بإنسان دعا وهو لا يَشعُر بالافتِقار إلى الله عز وجل ولا يَشعُر بالفِرار إلى الله، فهذا دُعاؤُه ناقِص جِدًّا، إذا قلت: رَبِّ اغفِرْ لي. مثَلًا لا بُدَّ أن تَشعُر أن هُناك ذُنوبًا تَحتاج إلى المَغفِرة، وأنك في أشَدِّ ما يَكون من الضَّرورة إلى مَغفِرة هذه الذُّنوبِ؛ لأن هذه الذُّنوبَ إذا لم تُغفَر فيا وَيلَكَ! ذَنْب مع ذَنْب يَكون كبيرة؛ ولهذا نَهَى الرَّسول صلى الله عليه وسلم عن محُقَّرات الذُّنوب، وقال:"إِنَّ مَثَلَهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ نَزَلُوا أَرْضًا، فَأتَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِعُودٍ فَجَمَعُوا حَطَبًا كَثِيرًا وَأَضْرَمُوا نَارًا كَبِيرَةً"
(1)
مع أن الواحِد منهم أتَى بعُود واحِد.
فالمُهِمُّ: أنك لا بُدَّ أن تَشعُر حين الدُّعاء أنك في غاية الضَّرورة إلى الله عز وجل.
ثانيًا: من الآداب التي فَقْدُها سببٌ لمَنْع الإجابة أن يَكون عندك شَكٌّ في قَبول الله عز وجل لدُعائك، أو في استِجابة الله لدُعائِك، مِثْل أن تَستَعظِم المَدعوَّ به، تَقول: هذا لا يَحصُل. هذا غلَط هذا مِمَّا يَمنَع الإجابة، ولهذا نَهَى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن قول القائِل: اللهُمَّ اغفِرْ لي إِنْ شِئْتَ. وقال: "لِيَعْزِمِ المَسْألةَ وَلْيُعْظِمِ الرَّغْبَةَ، فَإنَّ الله لَا يَتَعَاظَمُ عَلَيْهِ شَيْءٌ أَعْطَاهُ"
(2)
.
(1)
أخرجه الإمام أحمد (1/ 402)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(2)
أخرجه البخاري: كتاب الدعوات، باب ليعزم المسألة فإنه لا مكره له، رقم (6339). ومسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب العزم بالدعاء ولا يقل إن شئت، رقم (2679)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
كذلك أيضًا من أَسْباب مَنْع الإجابة أن يَدعوَ الإنسان بإثمٍ أو قَطيعة رَحِم، فيَدعو بإِثْم، مثل أن يَدعوَ على شخص لا يَستَحقُّ الدُّعاء عليه، فهذا إِثْم، كأَنْ يَدعوَ على ولِيِّ أَمْر أَساء في مَسأَلة من المَسائِل فتقول: اللَّهُمَّ لا تُوفِّقْه. وما أَشبَه ذلك اعتِداء في الدُّعاء، إذا رأَيْت ولِيَّ أَمْر صغيرًا كان أم كبيرًا أَخطَأ فليس عِلاجه: اللَّهُمَّ لا تُوفِّقْه. عِلاجه أن تَقول: اللَّهُمَّ وَفِّقْه. يُصلِح ويُصلِح الله به، هذا من الاعتِداء في الدُّعاء الذي لا يُقبَل.
من الاعتِداء في الدعاء قَطيعة الرحِم أن تَدعوَ بقَطيعة الرحِم أيضًا لا يُقبَل. دُعاء الظالِمِ على مَظلومه لا يُقبَل؛ لأنه إِثْم.
ومثال الاعتداء في الدعاء: لو قال: اللَّهُمَّ إني أَسأَلُك أن تَجعَلني من الرُّسُل الكرام. هذا مُعتَدٍ في الدعاء، اللَّهُمَّ اجعَلني لا أُذنِبُ ذنبًا. عُدوان في الدُّعاء، أما أن يقول: اللَّهُم إني أَسأَلُك أن تَقلِب هذا المَسجِدَ من ذهَب وزُمُرُّد. فهذا الله على كل شيء قديرٌ: كُنْ فيَكون، لكن هذا خِلاف العادة، وهو أيضًا في الغالِب لا فائِدةَ منه.
وممَّا هُو مُمكِن لا شيءَ فيه: الله يَجعَلُك كسِيبَوَيْهِ في النَّحْو، وكابن تَيميَّةَ في العِلْم، يقولون: إنه سُمِع واحِد يَطوف في الكعبة فسمِعه شخص وهو يَقول: اللهُمِّ إني أَسأَلُك نَحوًا كنَحْو ابن هِشام، وفِقهًا كفِقْه شيخ الإسلام. فالله على كل شيء قَديرٌ لعله يُعلِّمك.
رابِعًا: أَكْل الحرام من مَوانِع القَبول؛ لأن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم ذكَر الرجُل يُطيل السفَر أَشعَثَ أَغبَرَ يَمُدُّ يَدَيْه إلى السَّماء يا ربِّ يا ربِّ. كلُّ هذه الوجوهِ الأَرْبعة من أسباب إجابة الدُّعاء ومَطعَمه حرام ومَلبَسه حَرام وغُذِّيَ بالحرام قال النَّبيُّ
- صلى الله عليه وسلم: "فَأنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ"
(1)
هذه كلُّها تَمنَع، أو تَحول بين الإنسان وبين قَبول دُعائه واستِجابة الله له، فإذا لم يُوجَد المَوانِع، وكان المَحلُّ صالِحًا وقابِلًا بَقِيَ، لكن بَقِيَ شيء وراءَ ذلك، وهو مَشيئة الله عز وجل قد يَدفَع الله عن الإنسان من الشَّرِّ ما هو أَعظَمُ مِمَّا طلَب، وقد يُجيب ما طلَب، وقد يَدَّخِر ذلك له أَجْرًا يوم القيامة كما جاء في الحديث، وإلَّا فنحن واثِقون غاية الثِّقة من صِدق قوله تعالى:{أَسْتَجِبْ لَكُمْ} وأنه لا بُدَّ أن يَكون.
فإن قال قائِلٌ: هل ما يَقول به بالقَلْب أو بالنَّفْس يُسمَّى قولًا؟
فالجَوابُ: لا، إلَّا إذا قُيِّد.
فإن قال قائِل: إذا نطَقْنا به؟
فالجَوابُ: لا، إلَّا إذا قُيِّد فقيل: قال في نَفْسه ما حَدَّثت به أَنفُسنا.
فإن قال قائِل: قول الأشاعِرة: ما يَقول بالنَّفس. هل هذا صَحيح؟
فالجوابُ: لا، ليس صحيحًا، هذا كلام باطِل؛ ولهذا الآنَ وازَنَّا بين قولهم وبين قول المُعتَزِلة فصار قول المُعتَزِلة أقرَبَ إلى الصواب منهم؛ لأنهم يَقولون: هذا الذي في المُصحَف كلام الله مخَلوق، وهو كَلام الله حَقيقةً، ولكنه مَخلوق، وأُولَئِك يَقولون: مخَلوق وعِبارة عن كلام الله.
فإن قال قائِل: قول عُمرَ بنِ الخَطَّاب رضي الله عنه: لا أَحمِل هَمَّ الإجابة، ولكن أَحمِل هَمَّ الدُّعاء
(2)
هل يَقصِد أن الإنسان قد لا تَتَوفَّر له أسباب القَبول؟
(1)
أخرجه مسلم: كتاب الزكاة، باب قبول الصدقة من الكسب الطيب، رقم (1015) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
ذكره ابن تيمية في مجموع الفتاوى (8/ 193).
فالجوابُ: نعَمْ؛ يَقصِد أن الإنسان قد لا تَتَوفَّر له أسباب القَبول، وأنتم الآنَ حاسِبوا أَنفُسكم هل أنت إذا كنت في الصلاة وقُلت: ربِّ اغفِرْ لي وارْحَمْني بين السَّجْدتَيْن، هل تَشعُر بأن هناك ذُنوبًا ثَقيلة تَسأَل الله الخَلاصَ منها، أو أنها كلِمة تَقولُها لتَأتِيَ بالواجِب؟ الواقِع أننا إذا حاسَبْنا أنفُسنا وجَدْنا عِندنا نقصًا عظيمًا، الإنسان إذا دعا الله عز وجل بمُجرَّد دعاء الله يَستَنير قلبه؛ لأن الدُّعاء عِبادة، ولكن نَسأَل الله أن يُعينَنا وإيَّاكم على ذِكْره وشُكْره وحُسْن عِبادته.
الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: أن الذين يَستكبِرون عن عِبادة الله سيَدخُلون جَهنَّمَ على وجهِ الذُّلِّ والصَّغار؛ لقوله: {سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} .
الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ: أن الجَزاء من جِنْس العمَل يَعنِي: العُقوبة تُقابِل الجُرْم؛ لأنهم لمَّا استكْبروا في الدنيا أُدخِلوا النار صاغِرين، وفي الآخِرة سيَدخُلون جَهنَّمَ داخِرين.
الْفَائِدَةُ الثَّامِنَةُ: إثبات النار؛ لقوله: {جَهَنَّمَ} .
الْفَائِدَةُ التَّاسِعَةُ: أن الدُّعاء من العِبادة؛ لقوله: {ادْعُونِي} ، ثُم قال:{إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} .