الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهي - أي: "لا" النافية للجِنْس - نَصٌّ في العموم؛ أي: أنها دالَّة على العُموم بالنَّصِّ، فيَكون {لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ}؛ أي: لا ظُلمَ واقِعٌ من الله، ولا ظُلمَ واقِع من الخَلْق بعضِهم لبعض، بل كلُّ واحِد من الخَلْق يَفِرُّ من الآخَر، لا ظُلمَ اليومَ.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} ؛ أي: سَريع مُحاسَبة الخَلائِق على أعمالهم، وبيَّن المفَسِّر رحمه الله هذه السُّرعةَ فقال:[يُحاسِب جميع الخَلْق في قَدْر نِصْف نَهار من أيام الدُّنيا؛ لحَديث ورَد في ذلِكَ] يُحاسِب جميع الخَلائِق كلهم في مِقدار نِصْف يوم، لكن من أيام الدُّنيا. هذا يَحتاج إلى تَحقيق؛ لأنَّ يوم القِيامة يوم مِقْداره خَمْسون ألفَ سَنَةٍ، يَفرَغ الله سبحانه وتعالى من حِساب الخلائِق في نِصْف ذلك اليَوْمِ؛ ولهذا قال الله تعالى:{أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان: 24]، ومَعلوم أن القَيْلولة تَكون في نِصْف النهار، وهذا يَدُلُّ على أنَّه لا يَنتَصِف النَّهار إلَّا وقد فرَغَ الله سبحانه وتعالى من حِساب الخَلائِق، وصار كلُّ واحِد إلى ما آلَ إليه، لكن هل هو كيَوْم الدُّنيا، أو هو يوم القِيامة الذي مِقْداره خَمْسون ألفَ سَنَةٍ؟
فإن قال قائِل: ما هو الدليل على أن الله يُحاسِب الناس في نِصْف يَوْم؟
فالجَوابُ: أوَّله أَحاديثُ ورَدَت في هذا، والثاني قوله تعالى:{أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان: 24] قال: {يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} والمَقيل لا يَكون إلَّا في نِصْف النَّهار بأَطرافه.
من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:
الْفَائِدَةُ الأُولَى: إثبات الجَزاء؛ لقوله: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ} .
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أن كَمال الجَزاء يَكون ذلك اليومَ، وذلك أن الجَزاء قد يَكون
في الدُّنيا قد يُجازِي الله الإنسانَ في الدنيا؛ فيُعطيه بالحَسَنة حَسَناتٍ، ويُؤاخِذ الظالمِ بظُلْمه، وهذا واقِع كثيرًا، قال الله تعالى:{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30]، وهذا يَدُلُّ على أن الإنسان قد يُجازَى في الدُّنيا على عمَله، لكن الجَزاء الأكمَل الأَوْفى يَكون يوم القِيامة.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: أن النَّفْس لا تُجازَى إلَّا بما كسَبت، ويَكون الكَسْب إمَّا بالقَوْل، وإمَّا بالعَمَل، أمَّا مجُرَّد النِّيَّة فليسَتْ كسبًا، أو مجُرَّد حديث النَّفْس فليس بكَسْب، فالكَسْب قول أو عمَل؛ لأنَّ الإنسان لم يَركَن إليه، ودليل ذلك قول النبيِّ - صلى الله عليه وعلى آله وسلم -:"إِنَّ الله تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَتَكَلَّمْ"
(1)
.
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: على قول بعض العُلماء: أن إهداء القُرَب لا يَصِحُّ، يَعنِي: لو عمِلْت عمَلًا صالِحًا وأَهدَيْته إلي غيرك فإنَّه لا يَصِحُّ؛ لأنَّ الغير الذي أَهدَيْته له لم يَكسِبه، إلَّا ما دلَّت السُّنَّة عليه، فهو مُستَثنًى، وإلى هذا ذهَب كثير من العُلَماء أنَّه لا يُهدَى من القُرَب إلَّا ما جاءَت به السُّنَّة، وذهَب آخَرون إلى جَواز إهداء جَميع القُرَب، وقالوا: إن ما ورَدَت به السُّنَّة قضايا أعيان، إذا ثبَتَ الحُكْم فيها ثبَتَ في نَظيرها؛ لأنَّ الشريعة لا تُفرِّق بين مُتماثِلَيْن، وقد ورَدَت السُّنَّة بإجزاء العِبادات المالِية والبدَنية والمُركَّبة من مال وبدَن.
أمَّا العِبادات المالية: ففي قِصَّة الرجُل الذي قال: يا رَسولَ الله، إن أُمِّي افتُلِتَتْ نَفْسُها، وإنَّها لو تَكَلَّمَتْ لتَصَدَّقَتْ. افتُلِتَت يَعنِي: أُخِذت بَغْتة، وإنها لو تَكلَّمت
(1)
أخرجه البخاري: كتاب الطلاق، باب الطلاق في الإغلاق والكره، رقم (5269)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
لتَصدَّقت، أفأَتَصدَّق عنها؟ قال:"نَعَمْ"
(1)
.
وكذلك سَعدُ بنُ عُبادةَ رضي الله عنه كان له مِخرافٌ؛ أي: بُستان يُخرَف، فتَصدَّق به على أُمِّه بإِذْن الرسول - صلى الله عليه وعلى آله وسلم -
(2)
، هذه العِبادة المالِية. أمَّا العِبادة البدَنية: فقول النبيِّ - صلى الله عليه وعلى آله وسلم -: "مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ"
(3)
، وهذه عِبادة بدَنية مَحْضة.
وأمَّا المُركَّبة منهما: فالحَجُّ، وقد قال النبيُّ عليه الصلاة والسلام للمَرْأة التي سأَلَتْه عن أُمِّها أنها ماتَت ولم تَحُجَّ، قال:"حُجِّي عَنْهَا"
(4)
، وهذا مَذهَب الإمامِ أحمدَ
(5)
. أَعنِي: جوازَ إهداء القُرَب إلى الغير بشَرْط أن يَكون المُهدَى إليه مُسلِمًا، أمَّا إن كان كافِرًا فإنَّه لو أُهدِيَ إليه لا تُقبَل؛ لأنَّ الكافِر لا يُقبَل له عمَل، لا من نَفْسه، ولا من غيرِه، وهذا القَوْلُ أَقرَبُ إلى الصواب من القول بالمَنْع.
ولكن مع ذلك لا نُحبِّذ أن الإنسان يُهدِي إلى أمواته شيئًا؛ لأنَّ هذا لم يَكُن من عادة السلَف، ولا سِيَّما الإكثار منه، كما يَفعَله بعض الناس اليوم، تَجِد بعض الناس في رَمضانَ يَختِم القُرآن عِدَّة مرَّات، وكل خَتْمة يَجعَلها لواحِد من أَقارِبه، هذه لأُمِّه،
(1)
أخرجه البخاري: كتاب الجنائز، باب موت الفجأة البغتة، رقم (1388)، ومسلم: كتاب الزكاة، باب وصول ثواب الصدقة عن الميت إليه، رقم (1004)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
(2)
أخرجه البخاري: كتاب الوصايا، باب إذا قال: أرضي أو بستاني صدقة لله، رقم (2756)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(3)
أخرجه البخاري: كتاب الصوم، باب من مات وعليه صوم، رقم (1952)، ومسلم: كتاب الصيام، باب قضاء الصيام عن الميت، رقم (1147)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
(4)
أخرجه البخاري: كتاب جزاء الصيد، باب الحج والنذور عن الميت، رقم (1852)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(5)
انظر: المغني (2/ 423)، والشرح الكبير (2/ 425)، وكشاف القناع (2/ 147).
وهذه لأبيه، وهذه لأَخيه، وهذه لعَمِّه، وما أَشبَهَ ذلك، هذا في الحَقيقة خِلاف عادة السَّلَف.
ونَقول: إن أَرَدْت أن تَنفَع مَيتَك نَفعًا مُحقَّقًا فاعمَلْ بما أَرشَد إليه النَّبيُّ - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - حيثُ قال: "إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ"
(1)
هذا هو الذي نُحبِّذه، ونَقول: أَكثِرْ من الدُّعاء لأمواتك، أمَّا إِهداء القُرَب فاجعَلْها لنَفْسك؛ لأنَّ هذا هو السُّنَّة، وأنت أيُّها الحيُّ سوف تَحتاج إلى هذه الأعمالِ الصالحِة، كما أن الأموات أيضًا يَحتاجون إلى زِيادة الأعمال الصالحِة، كما جاء في الحديث:"مَا مِنْ مَيِّتٍ يَمُوتُ إِلَّا نَدِمَ، إِنْ كَانَ مُحْسِنًا نَدِمَ أَلَّا يَكُونَ ازْدَادَ، وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا نَدِمَ أَلَّا يَكُونَ اسْتَعْتَبَ"
(2)
.
إِذَن نَقول: {بِمَا كَسَبَتْ} استَدَلَّ بها بعض العُلَماء على أن مَن أُهدِيَ إليه شيء من القُرَب فإنَّه لا يَنتَفِع به؛ لأنه ليس من كَسْبه، إلَّا ما جاءَت به السُّنَّة، ولكن الصحيح أنَّه يَنتَفِع به.
فإذا قلت: إن هذا هو الصَّحيح فالجَواب عن الآية أنها تَدُلُّ على أن النَّفْس تُجزَى بما كسَبَت، لكن لا تَدُلُّ على إنها لا تَنتَفِع بعمَل غيرها، الشيء المَضمون تَمامًا هو ما كَسَبت، وأمَّا ما أَهداه الغَيْر لها فهذا شيء آخَرُ، وله أدِلَّة أُخرى.
الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: انتِفاء الظُّلْم في ذلك اليومِ، لقوله:{لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ} ، ولكن الإنسان يُجازَى بحَسَب عمَله، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ
(1)
أخرجه مسلم: كتاب الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته، رقم (1631)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
أخرجه الترمذي: كتاب الزهد، رقم (2403)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} [طه: 112]، قال المفَسِّرون: ظُلمًا في زِيادة سَيِّئاته، وهَضمًا في نَقْص حسَناته.
الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: إثبات المُحاسَبة: أن الله يُحاسِب الخَلائِق، وهذا كما أنَّه مَدلول النُّصوص فهو مُقتَضى الحِكْمة؛ إذ ليس من الحِكْمة أن يُؤمَر الناس ويُنهَوْا ثُم يَذهَب هذا الأَمْر والنَّهيُ هدَرًا لا يُحاسَب عليه العَبْد، هذا في الحَقيقة لو ثبَت لكان عبَثًا، والله تعالى مُنزَّهٌ عنه، كما قال تعالى:{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115]، وقال تعالى:{أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة: 36]، فلابُدَّ من مُجازاة، لابُدَّ من محُاسَبة حتى يَتبَيَّن ما للإنسان وما عليه.
الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ: تَمام قُدْرة الله - جَلَّ وَعَلَا - وقوَّتِه، مَأخوذة من قوله:{سَرِيعُ الْحِسَابِ} ؛ لأنَّ السرعة تَدُلُّ على القُدْرة والقُوَّة، كيف يُحاسِب هذه الخَلائِقَ التي لا يُحصيها إلَّا هو عز وجل في نِصْف يوم؟ ! هذا دَليل على كَمال القُدْرة وكَمال القُوَّة.
فإن قال قائِل: كيف يَكون الحِساب؟
فالجَوابُ: الحِسابُ يَختَلِف باختِلاف المُحاسَب:
أمَّا المُؤمِن: فإن الله تعالى يَضَع عليه كنَفَه؛ أي: سِتْره، ويَخلو به ويُقرِّره بذُنوبه، ويَقول: فعَلْت كذا وكذا في يوم كذا. حتى يُقِرَّ، فإذا أَقَرَّ واعتَرَف، قال الله تعالى: ستَرْتُها عليك في الدنيا، وأنا أَغفِرُها لك اليومَ. فيَذهَب طَليقًا.
أمَّا الكُفَّار: فإنهم لا يُحاسَبون حِساب مَن تُوزَن حَسَناتُه وسَيِّئاته؛ لأنهم ليس لهم حَسَنات، ولكن تُحصَى أعمالهم فيُوقَفون عليها، ويُقرَّرون بها، ويُخزَوْن بها، ويُوبَّخون عليها {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ
إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ} [الملك: 8 - 9]، فيُوبَّخون زِيادة في حَسْرتهم - والعِياذُ بالله - وبَيان أنهم لم يُظلَموا، فالحِساب إِذَنْ يَختَلِف.
الْفَائِدَةُ الثَّامِنَةُ: يُستَفاد من هذه الآيةِ من الناحِية المَسلَكية: تَحذير الإنسان من المُخالَفة، وحَثُّه على المُوافَقة ويُؤخَذ ذلك من قوله:{الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [غافر: 17]، فهذا يُوجِب للإنسان إذا آمَن به أن يَحرِص على مُوافَقة الأَمْر وعلى طاعة الله؛ لأنه يَكسِب.
وأَنا أَسأَلكم كما أَسأَل نَفْسي: هل نحن إذا صلَّيْنا يَكون في نُفوسنا شُعور بأننا سنَأخُذ أجرًا على هذه الصلاةِ، أو الشُّعور السائِد أننا أدَّيْنا ما يَجِب علينا فقَطْ؟ الجوابُ: الثاني، ولهذا لو كان عِندنا الشُّعور الأوَّل؛ إننا سنُجازَى على هذه الصلاةِ وبقَدْر ما أَتْقَنَّا فيها لكنا نُتقِنها جيِّدًا؛ لأننا نَعلَم أن الجَزاء من جِنْس العمَل؛ ابذُلْ دراهِمَ كثيرةً يَأتِك سِلعة طيِّبة، لكِن ابذُلْ قَليلةً يَأتِك سِلعة رَديئة.
لهذا يَنبَغي لنا - ونَسأَل الله أن يُعينَنا ويُعيذَنا من الغَفْلة - أن نَشعُر حين نَعمَل العمَل الصالِح أننا سوف نُجازَى عليه، حتى يَكون ذلك أَشحَذَ لِهمَمِنا في إتقان العمَل؛ لأنَّ الإنسان إذا علِمَ أن عمَله هذا هو جَزاؤُه فسوف يُتقِن العمَل، سوف يَأتِي به على حَسب ما يَرضَي الله سبحانه وتعالى.
* * *