الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (4)
* * *
قَالَ اللهُ عز وجل: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4)} [غافر: 4].
* * *
ثُمَّ قال الله عز وجل: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} [غافر: 4]؛ "ما": نافِية، و"إلَّا": أداة حَصْر، والجملة هنا جملة خبَرية حَصْرية، فهي خبَرية لأنها مَنفِيَّة، وحَصْرية لأنه حَصَر الجِدال في الذين كفَروا:{مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} ، أمَّا الذين آمَنوا فلا يُجادِلون في آيات الله.
والمُجادَلة: المُنازَعة والمُخاصَمة، مَأخوذة من الجَدْل وهو: فَتْل الحَبْل حتى يَشتَدَّ ويَقوَى هكذا، هذا أَصْل الجَدْل: المُنازَعة، وهي مَأخوذة من الجَدْل أي: فَتْل الحبْل؛ لأن كلَّ واحِد من المُتنازِعَيْن كأنَّما يَفتِل حَبْلًا لمُنازِعه، فيَكون ذلك أشَدَّ في الإحكام.
وقوله: {فِي آيَاتِ اللَّهِ} قال المفَسِّر رحمه الله: [القرآن]، وَينبَغي أن نُفسِّر الآياتِ بما هو أعَمُّ، وهذا الذي فسَّر المفَسِّر به الآياتِ يُعتَبر قُصورًا، ولا يَنبَغي أن نُفسِّر العامَّ بأَخصَّ منه إلَّا إذا دلَّتْ قَرينة قوية على ذلك، وهنا لا دَلالةَ، فالمُنازِعون في آيات الله منهم مَن يُنازع في القرآن، ومِنهم مَن يُنازع في السُّنَّة، ومنهم مَن يُنازع في الخَلْق.
فمثَلًا: الكسوف من آيات الله، وخُسوف القمَر من آيات الله، ومن الناس
مَن يُجادِل فيه، وَيقول: ليس هذا من باب تَخويف العِباد، وأيُّ رابِطة بين هذا وبَيْن التخويف، وسبَبه طبيعيٌّ مَعلوم يُدرَك بالحِساب؟ ! فيُجادِل في شَرْع الله، وفي آيات الله، فتقول مثَلًا: لماذا كان كذا، وكان في مَوْضِع آخَرَ كذا وكذا؟ كقِصَّة المَعرِّيِّ الذي جادَل في كون اليَدِ تُقطَع في ربُع دِينار ودِيَتُها خَمسُ مِئة دِينار
(1)
، وكقول بعضِهم: لماذا يَنتَقِض الوُضوء بالريح من أسفَلُ، ولا يَنتَقِض بالرِّيح من أَعْلى؟ والريح من أَعْلى هو: الجُشاء، وما أَشبَه ذلك من المُجادلات في الآياتِ الشرعية! .
ومِنهم مَن يُجادِل في القُرآن، يَقول: القُرآن فيه تَناقُض! قال الله تعالى: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23]، وقال في آية أُخرى:{وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء: 42]، هذا تَناقُض! فيُجادِل.
فالمُهِمُّ: أن الجدَل يَكون في الآياتِ الشرعية الثابِتة في القُرآن والسُّنَّة، ويَكون أيضًا في الآيات الكونية، فيَنبَغي أن نُفسِّر الآياتِ بما هو أعَمُّ مِمَّا ذكَر المفَسِّر، فنَقول:{مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ} الكَوْنية أو الشَّرْعية {إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} ، وأمَّا المُؤمِنون فلا يُجادِلون، المُؤمِنون يَقولون:{كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7]، ولا يُجادِلون، عرَفْنا ذلك من كَوْنه حَصَر المُجادَلة في الذين كفَروا.
قال رحمه الله: [{إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} من أهل مَكَّةَ] وهذا تَخْصيص آخَرُ، فالله عز وجل يَقول:{إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} والمفَسِّر يَقول: من أهل مكَّةَ، سُبحانَ الله! القُرآن يُعَمِّم، ونحن نَخُصُّ، فهذا خطَأ وقُصور في التَّفْسير، فنَقول:{فِي آيَاتِ اللَّهِ} أعَمُّ من القُرآن، {إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} أعمُّ من أهل مكَّةَ، فالذي يُجادِل في آيات الله: الذين كفَروا من أهل مكَّةَ ومن غير أَهْل مكَّةَ، من أهل المَدينة، من أَهْل الطائِف، من أهل جُدَّةَ،
(1)
انظر: شرح اللزوميات لأبي العلاء المعري (2/ 203)، والذخيرة للقرافي (12/ 185).
من أهل القَصيم، مِن كل مَكان، كلُّهم يُجادِلون في آيات الله، إذا كانوا كُفَّارًا. فإن قال قائِل: كيف تَجمَع بين هذه الآيةِ وبين قوله تعالى: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] فأمَرَ بالمُجادَلة؟ هنا أَمَر: {وَجَادِلْهُمْ} وهنا قال: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} ؟
فالجوابُ: مجُادَلة الكُفَّار تَكون بالباطِل لإِبْطال الحَقِّ، أمَّا الذين آمَنوا فمُجادَلتهم تَكون لبيان الْحَقَّ. إِذَنِ: المُجادَلة هنا غيرُ المُجادَلة هناك.
قوله تعالى: {فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ} الفاء: للتَّفْريع على ما سبَق، والخِطاب في قوله:{فَلَا يَغْرُرْكَ} إمَّا للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنه الذي نزَلَ عليه القُرآن، وإمَّا لعُموم المُخاطَبِين؛ لأن القُرآن نزَل للجميع، وأَوْلاهما الثاني؛ لأنَّ القاعِدة التَّفْسيرية عِندنا: أنه إذا دار الأَمْر بين كون المَعنَى عامًّا أو خاصًّا؛ فإنَّه يُحمَل على العامِّ؛ لأن الخاصَّ يَدخُل في العامِّ ولا عَكْسَ.
إِذَنْ: فلا يَغرُرْك أيُّها المُخاطَب، وأوَّل مَن يَدخُل في ذلك الرسولُ صلى الله عليه وسلم، و {يَغرُرْكَ} يَعنِي: لا يَخدَعك، ولا تَغتَرَّ به.
وقوله تعالى: {تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ} التَّقلُّب هو: التَّردُّد من شيء إلى شيء، ومنه تَقلُّب الإنسان في فِراشِه من جَنْب إلى جَنْب، المعنى: لا يَغُرك تَردُّدهم في البلاد يَمينًا وشِمالًا، وشَرْقًا وغَرْبًا، للتِّجارة ولغير التِّجارة.
قال المفَسِّر رحمه الله: [{تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ} للمَعاش سالِمين فإن عاقِبَتهم النار]، ولكن لو قال: فإنَّ عاقِبَتهم البوارُ لكان أحسَنَ؛ لأنَّ الله تعالى ضرَبَ مثَلًا بمَن كان على حالهم بأنَّ الله أَهلَكَهم، فقال:{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} إلى آخِره.