الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مَحدودًا]، والمُسمَّى بمَعنى: المُعيَّن، وهو بمَعنَى: المَحدود {وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ؛ أي: تَكونوا من ذَوِي العُقول، وتَفهَموا حِكْمة الله عز وجل في تَقديره وتشَريعه.
فأَنْتُم تَرَوْن الآنَ أن القَدَر يَكون فيه المُقدَّر شيئًا فشيئًا حتى يَكمُل، وهكذا الشَّرْع تَكون فيه الشرائِع شيئًا فشيئًا حتى تَكمُل، وهذه من سُنَّة الله تعالى الكونية وسُنَّته الشرعية؛ أن الأُمور لا تَأتِي دَفْعة واحِدة، بل تَتَطوَّر حتى تَبلُغ الكَمال، وهذا من حِكْمته البالِغة.
وقوله: {وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ليس المُراد بذلك عَقْل الإدراك، بلِ المُراد بذلك عَقْل التَّدبير والرُّشْد، لأن العَقْل عَقْلان: عَقْل إدراك تَتَوقَّف عليه التَّكاليف الشَّرْعية؛ ولهذا يُقال: من شُروط صِحَّة الصلاة العَقْل، والمُراد به عَقْل الإدراك، وعَقْل التَّدْبير والرُّشْد، وهو حُسْن التَّصرُّف؛ ولهذا نَقول: إن الكُفَّار لا يَعقِلون، مع أنهم بالنِّسبة لعَقْل الإدراك أقوياءُ أشِدَّاءُ أذكياءُ، لكن عَقْل التدبير والتَّصرُّف هم خالون منه.
قوله: {وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} في هَذه الآياتِ بيَّن الله سبحانه وتعالى مَنشَأ بني آدَمَ، وغاية بني آدَمَ.
من فوائد الآيةِ الكريمةِ:
الْفَائِدَةُ الأُولَى: بَيانُ أن الله سبحانه وتعالى هو الذي خلَقَنا وحدَه، وأنه لا خالِقَ إلَّا الله، وقد قال الله عز وجل في سورة الطُّور:{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور: 35] جوابُنا أنه لم يَخلُق من غير شيء، وليس هُمُ الخالِقين، إِذَنْ فلَهُم خالِق.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: بَيان أن أصل بني آدَمَ هو التُّراب، لقوله:{مِنْ تُرَابٍ} والتُّراب
مَعروف أنه يَختَلِف، ومن ثَم اختَلَفَت طبائِعُ بني آدَمَ، واختَلَفت ألوان بني آدَمَ، واختَلَفَت أَلْسِنة بني آدَمَ كما اختَلَف أَصْلُهم، فالتُّراب منه الرَّمْل والطين والسِّباخ، وغير ذلك.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: انتِقال هذا الأصلِ إلى أصل آخَرَ، وهو الماء النُّطْفة المَنيُّ؛ قال تعالى:{فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق: 5 - 7]، وفي آيةٍ أُخرى:{مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} ويَعنِي: غَليظ، لا يَندَفِع ولا يَجرِي؛ لأنه غير سائِل ليس كالماء المائِع الذي يَسيل، بل هو {مَاءٍ مَهِينٍ} أي: ضَعيف لا يَتحرَّك.
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: تَطوُّر خَلْق الإنسان في بطن أُمِّه، وهنا لم يَذكُر الله سبحانه وتعالى إلَّا النُّطْفة والعلَقة؛ لأن النُّطْفة هي الأصل والعلَقة هي الأصل، والعَلَقة هي أصل مادَّة الحَياة، إِذْ إن الحَياة لا تَكون إلَّا بالدَّمِ، وهو أصل المادَّة، ولهذا لو تَفرَّغ دمُ الإنسان لهلَكَ.
الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: بَيانُ قُدرة الله عز وجل أنه بعد هذا الجَنينِ، أو بعد هذه الحالِ في بَطْن أُمِّه يَخرُج طِفلًا مُتكامِلًا.
الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: أن الله تعالى قَسَم الناس بعد خُروجهم أطفالًا إلى أقسام:
القِسْم الأوَّل: أن يَبلُغ الإنسان أَشُدَّه ثُم يَموت.
والثاني: أن يَبلُغ الشيخوخة.
والثالث: أن يَموت قبل ذلك؛ أي: قبل أن يَبلُغ وقبل الشيخوخة، وعلى أيِّ أَساس يَكون هذا؟ نَقول: هذا مَحْض مَشيئة الله سبحانه وتعالى، ليس له أساس مَعلوم، لكنه محَضُ المَشيئة، لكن مع كونه مَحْض المَشيئة قد يُقدِّر الله تعالى أسبابًا كونية
وأسبابًا شرعية بها يَطول العُمر، وتَبقَى الصِّحَّة، وقد يُقدِّر الله أسبابًا على العكس من ذلك.
فمن أَسْباب الشَّرْعية ما ذكَرَه النبيُّ عليه الصلاة والسلام في قوله: "مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ، وَيُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ"
(1)
فهذا دليل على أن صِلة الرحِم من أسباب سَعة الرِّزْق، وطول العُمر، فيُيسِّر الله تعالى لهذا العبدِ أن يَصِل رحمه فيَطول عُمره، وهذا شيء مَكتوب، ولكنَّنا لا عِلمَ لنا به، فحثَّنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم عليه بهذه الطَّريقةِ.
وأمَّا الأسباب الكونية فهو تَوقِّي الأسباب الضارَّة في الصِّحَّة، وهذا شيء لا نِهايةَ له، وهو أَمْر مَعلوم وأكثَرُ مَن يَعرِفه الأطِبَّاء، فيُيسِّر الله تعالى للإنسان من أسباب الصِّحَّة من دواء وغِذاء وهواء ما يَكون به طول العُمر.
الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ: أن الأَجَل مَهما طال بالإنسان فإنه محَدود، له غاية مع أن الإنسان في نَفْسه يَمُدّ أمَلًا بعيدًا جدًّا، يَظُنُّ أنه سيَبقَى عشَرات المِئات، ولكنه في الواقِع مَهما بلَغ فإن الأجَل مَحدود، والشيء المَحدود المعدود غايَتُه النِّهاية؛ لأن كل يوم يَمضِي يَنقُص العُمر، قال الشاعِرُ:
وَالمَرْءُ يَفْرَحُ بِالْأَيَّامِ يَقْطَعُهَا
…
وَكُلُّ يَوْمٍ مَضَى يُدْنِي مِنَ الْأَجَلِ
(2)
(1)
أخرجه البخاري: كتاب الأدب، باب من بسط له في الرزق بصلة الرحم، رقم (5985)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
ذكره الأصمعي في قصة له مع أعرابي، انظر: نثر الدر في المحاضرات (6/ 37)، وزهر الآداب (2/ 456). وقريب منه بيت أبي العتاهية:
تظلّ تفرح بالأيام تقطعها
…
وكلّ يوم مضى يدني من الأجل
انظر: محاضرات الأدباء للراغب الأصفهاني (2/ 396).
وهذا صَحيح، فالمَرْء يَفرَح بالأيام يَقطَعها، يَقول: ما شاء الله عُمري طويل، ومُتِّعْت كثيرًا. لكن كل يوم يَمضِي وكل يوم مضَى يُدنِي من الأَجَل، إِذَنْ يَطول من وَجْه ويَقصُر من وجهٍ آخَرَ، ثُم عند انتِهاء الأجَلِ {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} [النازعات: 46].
وقِسْ ما يُستَقبَل بما مَضَى الآنَ، مِنَّا مَن عُمِّر سِتِّين سَنَةً، أو خَمسين، أو عِشرين سَنَةً، أو ما أَشبَه ذلك، هذه الأيامُ التي مضَت كأنها ساعة. يَعنِي: أنت اليوم كأَنْت بالأَمْس، وأنت بالأَمْس كأَنْت قبل أَمْسِ، كأنها ساعة، كأنها أحلام؛ ولذلك {وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى} .
الْفَائِدَةُ الثَّامِنَةُ: بَيانُ نِعْمة الله علينا بالعِلْم والبَيان؛ لأن ذلك سبَب لبُلوغ الغاية في العَقْل، وذلك لقوله:{وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} .
الْفَائِدَةُ التَّاسِعَةُ: إثبات تَعليل أَحْكام الله؛ أي: أن أحكام الله تعالى مُعلَّلة بحِكْمة، وهل هذا مُقتَصِر على الأحكام الشرعية، أو على الأحكام الشَّرْعية والكَوْنية؟
الجوابُ: الثاني، فكُلُّ أحكام الله الكَوْنية والشَّرْعية كلُّها مُعلَّلة، كلُّها لحِكْمة، لكِنَّ هذه الحِكْمةَ قد تَكون مَعلومة لنا، والناس يَختَلِفون في هذا اختِلافًا عَظيمًا مُتبايِنًا، مِنهم مَن يُطلِعه الله عز وجل على أسرار خَلْقه وأسرار شَرْعه، ومنهم مَن لا يُطلِعه، ومِنهم مَن بَيْنَ ذلك.
وكذلك أحكام الله الشَّرْعيةُ كلّها لحِكْمة، كلّها مُعلَّلة، وما يَذكُره الفُقَهاء من أن هذا الحُكمَ تَعبّديٌّ لا يَعنُون بذلك أنه ليس له عِلَّة، وإنما يَعنون بذلك أن عِلَّته غير مَعلومة لنا، فنحن ليس لنا إلَّا مجُرَّد التَّعبّد؛ ولهذا لمَّا سأَلَتِ المرأة أُمَّ المُؤمِنين عائِشةَ رضي الله عنها قالت: ما بَالُ الحائِضِ تَقفِي الصَّوْمَ ولا تَقْضِي الصَّلاةَ؟ قالَتْ:
كانَ يُصيبُنا ذَلِكَ فنُؤْمَرُ بِقَضاءِ الصَّوْمِ ولا نُؤْمَرُ بقَضاءِ الصَّلاةِ
(1)
. هذه الحِكْمةُ، إِذَنِ الحِكْمة شَرْع الله، شَرْع الله كلُّه حِكْمة، لكن لو أَراد إنسان أن يَلتَمِس لذلك حِكْمة مَعقولة فلا حرَجَ عليه.
الْفَائِدَةُ الْعَاشِرَةُ: الثَّناء على أهل العَقْل؛ أي: على العُقَلاء؛ لأن الله تعالى جعَله غاية فقال: {وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ذكَرْنا الآنَ أن أحكام الله الكَوْنية والشَّرْعية لها حِكمة.
فإن قال قائِل: ماذا تُجيبون عن قوله سبحانه وتعالى: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23]؟
الجَوابُ: إنه لا مُنافاةَ؛ لأن الله لم يَقُل: لا حِكمةَ لما يَفعَل. بل قال: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} ؛ لأن كل ما يَفعَله فهو حِكْمة لا يُسأَل عنه، نَعلَم أنه ما فعَله إلَّا لحِكْمة فلا يُسأَل عنه.
(1)
أخرجه البخاري: كتاب الحيض، باب لا تقضي الحائض الصلاة، رقم (321)، ومسلم: كتاب الحيض، باب وجوب قضاء الصوم على الحائض دون الصلاة، رقم (335).