الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والثاني: الإسلام الشرعيُّ، فالإسلام الكونيُّ القَدريُّ، والثاني الإسلام الشرعيُّ الدِّينيُّ.
فمِن الأوَّل قوله سبحانه وتعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران: 83] الإسلام هنا كَونيٌّ؛ لأنه قال: {طَوْعًا وَكَرْهًا} والإسلام الشرعيُّ لا يَكون بالإكراه، والإسلام الشرعيُّ لا يَكون عامًّا لكل شيء، فالإِسْلام هنا كَوْنيٌّ قَدَريٌّ، وهنا قوله:{أَنْ أُسْلِمَ} المُراد به الإسلام الشرعيُّ الدِّينيُّ، يَعنِي:{أَنْ أُسْلِمَ} ؛ أي: أَستَسْلِم تَعبُّدًا وتَذلُّلًا لله عز وجل.
وقوله: {لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} نَقول فيها ما قُلْنا في مِثل الآيات السابِقة، لكن لو قال قائِل: لماذا لم يَقُل: أن أُسلِمَ لله؟ قُلنا: ليَكون ذلك دليلًا على وجهِ الإِسلام يَعنِي: لماذا أَسلَمْت؟ لأن الله ربُّ العالمَين، وربُّ العالمَين أحَقُّ أن يُسلَم له، وأن يُتعَبَّد له عز وجل، فهو كالدليل للحُكْم السابِق الذي هو الإسلام.
من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:
الْفَائِدَةُ الأُولَى: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم عَبْد مَأْمور مَنهيٌّ، يُؤخَذ ذلك من قوله:{أَنْ أُسْلِمَ} .
ويَتفرَّع على هذه الفائِدةِ: بُطلان دَعْوى مَن يَقول: إن النبيَّ صلى الله عليه وسلم له الأَمْر والنَّهيُ في السمَوات والأرض؛ لأنه لا يُمكِن أن يَكون كذلك وهو مَأمور مَنهيٌّ.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: وجوب الإِخْلاص لله سبحانه وتعالى؛ لقوله: {نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ} ، {وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ} وهذا حَقيقة الإِخْلاص.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: الإشارة إلى القاعِدة المَشهورة، وهي أن التَّخلِية قبلَ التَّحلِية، ليسَت تَحلية الماء، التَّحلية يَعنِي: التَّزيين، التَّخْلية قبل التَّحْلية، تُؤخَذ من قوله:{نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ} فهذه تَخْلية، {وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ} هذه تَحلِية، ووجهُ كون التَّخْلية قبل التَّحْلية أن التَّحْلية إذا ورَدَت على مَحلٍّ غيرِ نَظيف صارَت ناقِصة مُتلوِّثة، فأنت طهِّر المَحلَّ أوَّلًا ثُم حَلِّهِ ثانيًا. وهكذا كلِمة الإخلاص (لا إلهَ) نَفيٌ (إلَّا الله) إثباتٌ، الأوَّل تَخلية والثاني تَحلِية.
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: بُطلان عِبادة ما سِوى الله؛ لأن النهيَ يَقتَفِي البُطلان والفَساد، فلمَّا نُهينا عن عِبادة ما سِوى الله دلَّ ذلك على أنها باطِلة.
الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: أن النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ كغَيْره يَحتاج إلى العِلْم؛ لقوله: {لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي} .
فإن قال قائِل: في هذا إشكال كبير، وهو كيف يَكون الرسول عليه الصلاة والسلام لم يَعلَم ببُطْلان هذه الآلهةِ إلَّا حين جاءَه النَّهيُ، مع أن بُطلان هذه الآلهِةِ مَركوز في الفِطَر والعُقول؛ أمَّا كونه مَركوز في الفِطَر فلِقوله صلى الله عليه وسلم:"مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلَّا عَلَى الفِطْرَةِ"
(1)
، والفِطْرة هي عِبادة الله وحدَه؛ وأمَّا العَقْل فلأنَّ إبراهيمَ عليه الصلاة والسلام استَدَلَّ على بُطلان الآلِهة بدَليل عَقْليٍّ، حين قال لأبيه:{لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم: 42]؟
قُلنا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم يَعلَم هذه الآلهِةَ، لكنه أَسنَد هذا العِلْم إلى
(1)
أخرجه البخاري: كتاب الجنائز، باب إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه، رقم (1358)، ومسلم: كتاب القدر، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة، رقم (2658) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
الآيات البَيِّنات؛ لإثبات الرِّسالة، فتَكون الرِّسالة مُؤيِّدة لما تَقتَضيه الفِطْرة، ويَدُلُّ عليه العَقْل.
الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: أن ما جاء به الرسولُ عليه الصلاة والسلام فهو آياتٌ بيِّناتٌ ليس فيها خَفاءٌ؛ لقوله: {الْبَيِّنَاتُ} ، والعجَب أن المُشرِكين كانوا يَتَردَّدون إلى مَنزِل الرسول عليه الصلاة والسلام خِفْية يَستَمِعون القُرآن؛ لأنه أَخَذ بألبابهم وعُقولهم، لكِنهم -والعِياذ بالله- يُنكِرون استِكْبارًا ومُكابَرة.
الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ: التَّحذيرُ من خَفاء ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام، بمعنى أن الذي لا يَرَى ما جاء به الرسولُ مُتضَمِّن للآيات البيِّنات فلْيَعلَم أن على قَلْبه غِشاوة؛ لأن القَلْب النَّظيف النَّزيهَ لا بُدَّ أن يَعرِف أن ما جاء به الرسول حقٌّ بيِّن، لكن قد تَتَراكَم الذُّنوب -والعِياذ بالله- على القُلوب، فلا تَعرِف الحقَّ، قال الله تعالى:{إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 13 - 14]، فصاروا يَرَوْن هذا القُرآنَ الكَريمَ يَرَوْنه أساطيرَ الأوَّلين، نَسأَل الله أن لا يُعمِيَ قُلوبَنا وقلوبَكم، فالمَسأَلة خطيرة، إذا لم تَجِد قلبَك مُستَنيرًا بهذا القُرآنِ، أو بعِبارة أعمَّ بما جاء به الرسولُ، فاعلَمْ أن في القَلْب بَلاءً، فداوِ القَلْب ما دام في أوَّل المرَض، حتى لا يَستَشرِيَ المرَض فتقضِي على القَلْب، فلا تَتَمكَّن من إصلاحه بعدُ.
الْفَائِدَةُ الثَّامِنةُ: عِناية الله تعالى برسوله محمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ، وذلك في إثبات رُبوبيته الخاصَّة في قوله:{مِنْ رَبِّي} .
الْفَائِدَةُ التَّاسِعَةُ: وُجوب الإسلام لله عز وجل؛ لقوله: {وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ} .
الْفَائِدَةُ الْعَاشِرَةُ: الإشارة إلى أنه لا بُدَّ للقَلْب من حرَكة، فإمَّا إلى باطِل وإمَّا
إلى حَقٍّ؛ لقوله: {نُهِيتُ} ، وهذا تَفريغ، فهذا الفَراغ لا بُدَّ أن يَكون له ما يَملَؤُه وهو الإسلام؛ لأن كل شيء إذا لم يَكُن له بَديل سيَبقَى الأمر خاوِيًا، فإذا خَلا المَكان من الباطِل وجَبَ أن يُملَأ بالحَقِّ، وهكذا أيضًا إذا تَأمَّلت وجَدْت كل شيء باطِلًا، إذا لم يَخلُفه حقٌّ بَقِيَ الأمر خاوِيًا فيتَذبذب الإنسان، لمَّا قال الله تعالى:{لَا تَقُولُوا رَاعِنَا} ماذا قال؟ {وَقُولُوا انْظُرْنَا} [البقرة: 104] فلا بُدَّ من قول، فإذا أُبطِل الباطِل فلا بُدَّ أن يَخلُفه حقٌّ.
الْفَائِدَةُ الحَادِيَةَ عَشْرَةَ: أن ما سِوى الله لا يَستَحِقُّ أن يُسلَم له؛ لقوله: {لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} فمَن كان ربَّ العالمَين فهو الأحَقُّ بالإسلام له، ولا يُوصَف بربِّ العالمَين إلَّا الله عز وجل.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: إثبات عُموم الرُّبوبية لله؛ لقوله: {لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} .
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: مُراعاة الوَصْف المُناسِب وإن كان فيه عُدول عن الأشهَرِ؛ لقوله: {لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} عُدولًا عن (لله) مع أن الله هو الأَشهَر، لكن اعتِبار الوَصْف المُناسِب أَوْلى، والله أَعلَمُ.