الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[حكم الضمير الرابط من جواز حذفه أو بقائه]
قال ابن مالك: (وقد يحذف إن علم ونصب بفعل أو صفة، أو جرّ بحرف تبعيض أو ظرفيّة، أو بمسبوق مماثل لفظا ومعمولا، أو بإضافة اسم فاعل، وقد يحذف بإجماع إن كان مفعولا به والمبتدأ كلّ أو شبهه في العموم والافتقار، ويضعف إن كان المبتدأ غير ذلك، ولا يخصّ جوازه بالشّعر خلافا للكوفيين).
قال ناظر الجيش: حاصل ما تضمنه كلام المصنف أن الضمير العائد على المبتدأ من الجملة الواقعة خبرا عنه - إما مرفوع أو منصوب أو مجرور.
أما المرفوع: فلا يحذف أصلا، ويدل على ذلك أنه طوى ذكره، فيكون واجب الذكر على الأصل.
أما المنصوب: فلا يجوز حذفه إن كان منصوبا بحرف. وإن كان منصوبا بفعل أو وصف جاز حذفه لكنه قليل.
وأما المجرور: فإن كان بحرف جار جاز حذفه في ثلاثة مواضع، وإن كان بإضافة جاز إن كانت الإضافة لفظية (1).
واعلم أن النحاة ذكروا أن حذف العائد من جملة الصلة كثير، ومن جملة الصفة قليل، ومن جملة الخبر أقل، وقد تعرض [1/ 356] المصنف لذلك في باب النعت، فقال: «وحكم عائد المنعوت بها أي بالجملة حكم عائد الواقعة صلة
أو خبرا؛ لكنّ الحذف من الخبر قليل، ومن الصّفة كثير، ومن الصّلة أكثر» انتهى (2).
وكأنهم جعلوا الصفة لقربها من الصلة بين المرتبتين، فكان الحذف من الصفة أكثر من الحذف من الخبر.
واعلم أن ظاهر كلام المصنف في هذا الموضع مخالف لكلام غيره من المغاربة؛ فإنهم ذكروا أن المنصوب لا يحذف إلا في الشعر، وأن المجرور بالإضافة لا يحذف مطلقا، وأن المخفوض بحرف يجوز حذفه نحو: السّمن منوان بدرهم أي منوان منه، إلا أن -
(1) الشواهد والأمثلة على كلامه آتية بعد ذلك قريبا.
(2)
انظر نص كلامه هذا في تسهيل الفوائد (ص 167).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
يؤدي الحذف إلى تهيئة العامل للعمل والقطع عنه، فلا يجوز نحو زيد مررت (1).
وحاصل الأمر: أن الاتفاق بين المصنف وغيره واقع على جواز الحذف في نحو:
السمن منوان بدرهم، والبرّ قفيزان بدرهم، وهو ما لم يكن فيه تهيئة العامل للعمل والقطع عنه، فهم قد نصوا على عدم جواز الحذف فيه إلّا في الشعر، والمصنف لم يقصد جواز الحذف على ذلك، بل أجازه في الكلام أيضا، ولكنه حكم بقلته حيث قال: وقد يحذف إن علم ونصب
…
إلخ. والظاهر أن الحق في ذلك مع المصنف؛ لأن عمدته فيما أورده السماع الذي سنورده.
وقد ذكر سيبويه (2) أن الضمير لا يحذف من خبر المبتدأ إلا في الشعر أو في قليل (3) من الكلام.
وفسر الناس كلامه بأنه إنما أراد أن ذلك قليل حيث يؤدي إلى تهيئة العامل للعمل وقطعه، فظهر بذلك أن الذي ذكره المصنف موافق لما ذكره سيبويه، وإذ قد تقرر هذا فلنرجع إلى لفظ الكتاب وتمثيل المسائل.
فمثال المنصوب بفعل قولك: زيد ضربت، وشاهده قول الراجز:
630 -
ثلاث كلّهنّ قتلت عمدا
…
فأخزى الله رابعة تعود (4)
-
(1) قال ابن عصفور (المقرب 1/ 84): «والضّمير إن كان مرفوعا لم يجز حذفه، وإن كان منصوبا لم يجز حذفه إلّا في الشّعر نحو قول ابن يعفر:
وخالد يحمد ساداتنا
…
بالحقّ لا يحمد بالباطل
التقدير يحمده ساداتنا. وإن كان مخفوضا بالإضافة لم يجز حذفه، وإن كان محفوضا بحرف جر جاز إثباته وحذفه نحو قولك: السّمن منوان بدرهم، أي منوان منه ما لم يؤد إلى تهيئة العامل للعمل وقطعه عنه، لا يقال: زيد مررت».
(2)
انظر الكتاب: (1/ 85). قال سيبويه: «ولا يحسن في الكلام أن يجعل الفعل مبنيّا على الاسم، ولا يذكر علامة إضمار الأول حتى يخرج من لفظ الإعمال ومن حالة بناء الاسم عليه ويشغله بغير الأول حتى يمتنع من أن يكون يعمل فيه، ولكنه قد يجوز في الشعر، وهو ضعيف في الكلام، قال الشاعر:
قد أصبحت أمّ الخيار تدّعي
…
عليّ ذنبا كله لم أصنع
فهذا ضعيف وهو بمنزلته في غير الشعر؛ لأن النصب لا يكسر البيت، ولا يخلّ به ترك إظهار الهاء، وكأنه قال: كله غير مصنوع».
(3)
في الأصل: أو قليل من الكلام.
(4)
البيت من بحر الوافر، قال الأستاذ عبد السّلام هارون (كتاب سيبويه: 1/ 86): «هو من الخمسين التي لا يعرف قائلها» . -
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
أي قتلتهن.
وأما المنصوب بوصف فأنشد المصنف شاهدا عليه قول الراجز:
631 -
غنيّ نفس العفاف المغني
…
والخائف الإملاق لا يستغني (1)
التقدير: العفاف المغنيه أي الذي يغنيه هو غنى نفس.
فالعفاف مبتدأ والمغني مبتدأ ثان وخبره غني نفس، وفي المغني ضميران أحدهما عائد على العفاف، وهو الفاعل باسم الفاعل، والآخر ضمير نصب، وهو المحذوف العائد على أل، والمغني وصف جرى على غير من هو له، ولم يبرز الضمير، ولو برز لقال: المغنيه هو، ومعنى هذا الكلام الذي يغنيه العفاف غني نفس.
قال الشيخ (2): «ويحتمل وجها آخر من الإعراب وهو أظهر وأقلّ تكلّفا» :
وهو أن يكون غنيّ نفس مبتدأ، وسوغ الابتداء به وإن كان نكرة كونه متخصّصا بالإضافة، أو كونه نعتا لمنعوت أي إنسان غني نفس، والعفاف مبتدأ ثان، وخبره المغني وهو وصف جار على من هو له؛ إذ هو خبر عن العفاف، والجملة من قوله: العفاف المغني في موضع خبر [1/ 357] المبتدأ الذي هو غني -
- ومعنى البيت: يجوز أن يريد ثلاث نسوة تزوجتهن فقتلتهن، وأن مصير الرابعة سيكون مصيرهن، أو يريد أنهن هوينه فقتلهن هواه.
والشاهد فيه قوله: ثلاث كلهن قتلت، حيث حذف الرابط، وهو الضمير المنصوب العائد على المبتدأ، وأصله قتلتهن.
والبيت في: شرح التسهيل (1/ 311) وفي التذييل والتكميل (4/ 37) وفي معجم الشواهد (ص 107).
(1)
بيتان من الرجز لشاعر مجهول.
ومعناهما: أن غني النفس الذي يغنيه العفاف وهو القناعة، وأن الذي يجمع المال خوفا من الفقر لا يكون غنيّا أبدا.
الإعراب: غنيّ نفس: مبتدأ ومضاف إليه، وسوغ الابتداء بالنكرة: إضافتها أو كونها صفة لموصوف مقدر أي إنسان غني نفس.
العفاف: مبتدأ ثان. المغني: خبر المبتدأ الثاني، والجملة خبر الأول، والرابط بين المبتدأ وجملة الخبر الضمير المنصوب بالوصف المذكور (على مذهب سيبويه) وتقدير الكلام: غني نفس العفاف المغنيه، ثم حذف الضمير، وهو موضع الشاهد.
والخائف الإملاق: مبتدأ ومضاف إليه، أو مبتدأ ومفعول به، والجملة بعده خبر له.
والبيت في: شرح التسهيل (1/ 312) وفي التذييل والتكميل (4/ 38). وليس في معجم الشواهد.
(2)
التذييل والتكميل (4/ 38).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
نفس، والعائد من الجملة محذوف وهو الضّمير المنصوب؛ إذ التقدير: المغنيه، والمعنى غنيّ النّفس العفاف يغنيه». انتهى.
وإنما حكم في الوجه الأول بأن المغني وصف جرى على غير من هو له؛ لأن أل فيه موصولة ومدلولها الذي يغنيه العفاف، فمدلولها المغني بالعفاف والواقع صلة له وهو مغني هو العفاف نفسه، فاختلفا.
ومثال المجرور بحرف تبعيض قولهم: السّمن منوان بدرهم أي منوان منه، فمنوان مبتدأ ثان، وسوغ الابتداء به هذا الوصف المحذوف وهو منه، وبدرهم خبره، والجملة خبر عن السمن، والعائد هو منه المحذوف، وهو ضمير مجرور بمن وهو حرف تبعيض.
ومثال الظرفية قول الشاعر:
632 -
فيوم علينا ويوم لنا
…
ويوم نساء ويوم نسرّ (1)
أي: نساء فيه ونسر فيه.
ومثال ما جر بمسبوق مماثل لفظا ومعمولا قول الشاعر:
633 -
أصخ فالّذي توصي به أنت مفلح
…
فلا تك إلّا في الفلاح منافسا (2)
أراد: أنت مفلح به، فحذف به لأنه مسبوق بمماثل لفظا ومعمولا، وهو نظير قوله تعالى: أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (55) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ (3). -
(1) البيت من بحر المتقارب من قصيدة للنمر بن تولب العكلي، وقد سبق الاستشهاد به في مواضع الابتداء بالنكرة، وهو في شرح التسهيل (1/ 312).
وأما شاهده هنا فقوله: ويوم نساء ويوم نسر، حيث حذف رابط الجملة المخبر بها، وهو ضمير مجرور بحرف.
والتقدير: نساء فيه ونسر فيه.
(2)
البيت من بحر الطويل وقائله مجهول.
اللغة: أصخ: أمر من أصاخ إليه أي استمع وأنصت. منافسا: متسابقا.
المعنى: يقول الشاعر: لا تأمر إلا بخير، ولا توص إلا بشيء فيه صلاح وفلاح للناس، ولا تتنافس إلا بما فيه ذلك أيضا.
الإعراب: أصخ: فعل أمر. الّذي توصي به: مبتدأ وجملة الصلة.
أنت مفلح: جملة من مبتدأ ثان وخبره وهي خبر الأول، والرابط بينهما الضمير المجرور المحذوف؛ لأنه مسبوق بمثله لفظا ومعمولا والتقدير: أنت مفلح به.
والبيت في: التذييل والتكميل (4/ 39). وليس في معجم الشواهد.
(3)
سورة المؤمنون: 55، 56.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
أي نسارع لهم به.
ومثال ما جر بإضافة اسم فاعل قول الشاعر:
634 -
سبل المعالي بنو الأعلين سالكة
…
والإرث أجدر من يحظى به الولد (1)
أي سالكتها وأنت سالكه، وكان القياس سالكون؛ لأن بني مؤنث نحو قالت بنو عامر.
ثم إن المصنف أشار بقوله: وقد يحذف بإجماع إن كان مفعولا به والمبتدأ كلّ - إلى قراءة ابن عامر وكل وعد الله الحسنى (2) أي وعده (3).
وعلى ذلك قول أبي النجم:
635 -
قد أصبحت أمّ الخيار تدّعي
…
عليّ ذنبا كلّه لم أصنع (4)
أي لم أصنعه. -
(1) البيت من بحر البسيط ولم ينص على قائله.
ومعناه: أن سبل المعالي والشرف والمجد لا يسلكها إلا الشرفاء وبنوهم؛ لأن الولد يجب أن يتبع أباه.
الإعراب: سبل المعالي: مبتدأ ومضاف إليه. بنو الأعلين: مبتدأ ثان ومضاف إليه أيضا. سالكة: خبر الثاني، وذكر سبب تأنيثه في الشرح، والجملة خبر الأول، والرابط بينهما الضمير المجرور بهذا الوصف أي سالكها وهو موضع الشاهد. والبيت في شرح التسهيل (1/ 312) وفي التذييل والتكميل (4/ 39) وليس في معجم الشواهد.
(2)
سورة الحديد: 10.
(3)
قال مكي بن أبي طالب القيسي (355 - 437 هـ): «قرأ ابن عامر: وكلّ - بالرفع، وقرأ الباقون بالنّصب، وحجة من رفع أنه لما تقدّم الاسم على الفعل رفع بالابتداء، وقدر مع الفعل هاء محذوفة اشتغل الفعل بها وتعدّى إليها، والتقدير: وكل وعده الله الحسنى.
وحجة من نصبه أنّه عدّى الفعل وهو وعد إلى كلّ فنصبه به كما تقول: زيدا وعدت خيرا (الكشف عن وجوه القراءات لمكي 2/ 307)، وانظر أيضا الحجة في القراءات السبع لابن خالويه (ص 341).
(4)
البيتان من الرجز المشطور وهما مطلع قصيدة لأبي النجم العجلي أثبتها السيوطي في شرحه.
(شواهد المغني: 2/ 545).
والبيت والقصيدة كلها في عتاب زوجته التي لامته على أنه قد شاب وصار شيخا كبيرا، وهو معنى الذنب الذي ذكره في بيت الشاهد.
الشاهد فيه قوله: كله لم أصنع، حيث حذف الرابط بين المبتدأ وجملة الخبر، وهو الضمير المنصوب بالفعل أصنع، والتقدير: لم أصنعه.
والبيت في شرح التسهيل (1/ 312) وفي التذييل والتكميل (4/ 40). وفي معجم الشواهد (ص 449).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وأشار بقوله: أو شبهه في العموم والافتقار يعني إلى متمم إلى نحو: أيّهم يسألني على جعل أي موصولة، وإلى نحو آمر بخير ولو كان صبيّا أطيع.
وأشار بقوله: ويضعف إن كان غير ذلك إلى أن المبتدأ إذا كان غير كل وغير ما يشبهه في العموم والافتقار يضعف حذف عائده، فأفاد قوله أولا: وقد يحذف إلى أن الحذف قليل، وأفاد قوله هنا: بإجماع، ويضعف، أن القليل منه ما هو قوي وهو ما كان المبتدأ فيه كلّا، ومنه ما هو ضعيف، وهو ما كان المبتدأ فيه غير كل، فهذا الكلام الثاني تفصيل لما أجمل أوّلا.
ثم قال: ولا يخصّ جوازه بالشّعر خلافا للكوفيّين أي جواز الحذف، بل يجوز في الكلام على مثله كما تقدم.
قال المصنف (1): فلو كان المبتدأ غير كل والضمير مفعول به لم يجز عند الكوفيين حذفه مع بقاء الرفع إلا في الاضطرار، والبصريون يجيزون ذلك في الاختيار ويرونه ضعيفا، ومنه قراءة السلمي (أفحكم الجاهلية يبغون) (2) ومثل هذه القراءة قول الشاعر:
636 -
وخالد يحمد أصحابه
…
بالحقّ لا يحمد بالباطل (3)
[1/ 358] هكذا رواه ابن الأنباري برفع خالد وأصحابه. انتهى (4). -
(1) شرح التسهيل (1/ 312).
(2)
سورة المائدة: 50، قال ابن جني (المحتسب: 1/ 210): «إنّها قراءة يحيى وإبراهيم والسّلمي، قال ابن مجاهد: وهو خطأ، وقد ردّ ذلك ابن جني، وذكر أن ذلك جائز في الشّعر. وأنشد بيت أبي النجم السّابق ثم قال: ولو نصب فقال: كلّه لم ينكسر الوزن، فهذا يؤنسك بأنه ليس للضرورة مطلقا بل لأن له وجها من القياس» .
(3)
البيت من بحر السريع نسبته مراجعه إلى الأسود بن يعفر (انظر المقرب: 1/ 84) وهو في المدح.
واختلفت رواياته فروي في المقرب والمغني (2/ 611):
وخالد يحمد ساداتنا
…
...
وفيه الشاهد أيضا.
والشاهد فيه قوله: وخالد يحمد أصحابه، وفيه أيضا حذف الضمير المنصوب من جملة الخبر والمبتدأ غير كل، وهو ضرورة عند الكوفيين ضعيف عند البصريين.
والبيت ليس في معجم الشواهد، وهو في شرح التسهيل (1/ 312) وفي التذييل والتكميل (4/ 40).
(4)
شرح التسهيل (1/ 313).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وذكر أن البصريين هم الذين يجيزون الحذف في الاختيار، وأن الكوفيين لا يجيزونه إلا في الاضطرار، وكلام ابن عصفور يقتضي عكس ذلك.
وقد تقدم النقل عن سيبويه أنه يجيز الحذف في الشعر وفي قليل من الكلام. فالظاهر أن الذي ذكره المصنف من إجازة البصريين ذلك في الكلام هو النقل الصحيح، وفي تقييد المصنف جواز الحذف في قوله: إن علم فالظاهر أنه أراد بذلك أن يكون على حذفه دليل، فعلى هذا لو قيل: زيد ضربت في داره وأريد زيد ضربته في داره لم يجز؛ إذ لا دليل يدل على الضمير لو حذف؛ لأن الربط قد حصل بغيره فجاز ألا يكون هو موجودا في أصل التركيب، وقد ذكر ابن عصفور ذلك في شرح المقرب (1).
ثم قد بقي الكلام في أمور:
الأول:
لما تكلم ابن أبي الربيع على حذف الضمير من جملة الخبر، وأن ذلك قليل إن أدى إلى تهيئة العامل للعمل وقطعه عنه، قال (2): وعلى حسب قوة التهيؤ وضعفه يكون القبح، فإذا كان العامل متقدّما كان التهيؤ قويّا، فلا يجوز في الشعر ولا في غيره.
وإذا كان العامل متأخّرا كان التهيؤ ضعيفا، فهذا يجوز في الشّعر وفي قليل من الكلام وذلك نحو: زيد ضربته، فإنك إذا حذفت الضمير فقلت: زيد ضربت كان الفعل متهيئا للعمل في زيد لعدم اشتغاله بالضمير وجواز عمل العامل فيه مؤخرا، فلم يجز إلّا في الشّعر وفي قليل من الكلام، وجاز لأنه وإن كان العامل ممّا يصح أن يعمل في الاسم، فقد ضعف عن عمله فيه بتأخّره عنه، وإن قلت: ضربته زيد لم يجز حذف الضمير بوجه لا في الشعر ولا في غيره؛ لأن العامل مقدم، فالذي جاز في زيد ضربت على ضعفه معدوم في ضربت زيد، ثم قال: -
(1) بحثت عن هذا الكتاب كثيرا لحاجتي إليه في شرح المقرب، فلم أجده، ووجدت مخطوطة له في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، ففرحت بها ثم صورتها فوجدتها مطموسة جدّا لا يستطيع أحد قراءتها.
(2)
انظر لقطة رقم: 33 من شرح الإيضاح لابن أبي الربيع (ميكروفيلم بمعهد المخطوطات رقم: 220 نحو مصنف غير مفهرس) ويسمى بالملخص لابن أبي الربيع.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فإن قلت: زيد إن أكرمت أكرمتك تريد إن أكرمته أكرمتك كان قبحه دون قبح زيد ضربت؛ لأنّه وإن أشبهه من جهة أن زيدا بعده فعل وفاعل هو متعلقه من جهة المعنى، لكنه لا يصحّ أن يعمل فيه العامل الذي بعد الفعل لأجل حرف الشّرط».
الأمر الثاني:
قد عرفت قول المصنف: وقد يحذف بإجماع إن كان مفعولا به والمبتدأ كلّ أو شبهه في العموم والافتقار، وتمثيل ذلك بقراءة ابن عامر: وكل وعد الله الحسنى (1) وبما تقدم ذكره. لكن قال ابن عصفور بعد التمثيل بهذه الآية الشريفة:
وحكمه بأنّ ذلك يحفظ ولا يقاس عليه (2).
وقوله: فإن جاء شيء منه في الشعر فضرورة، وإنشاده: وخالد يحمد أصحابه - هذا مذهب البصريين. وزعم الفراء ومن أخذ بمذهبه من الكوفيين أن حذفه جائز في الكلام إذا كان المبتدأ اسم استفهام أو كلا أو كلّا، وإن أدى
حذفه إلى التهيئة والقطع، فأجاز أن يقال: أيهم ضربت؟ برفع أي [1/ 359] تريد: أيهم ضربته.
ومما جاء من ذلك في كلا قوله:
637 -
أرجزا تطلب أم قريضا
…
أم هكذا بينهما تعريضا
كلاهما أجد مستريضا (3)
-
(1) سورة الحديد: 10، وقوله: وبما تقدم ذكره يشير إلى قول أبي النجم: قد أصبحت أم الخيار
…
إلخ.
(2)
قال ابن عصفور في كتابه الضرائر الشعرية: «ومن الضرائر حذف الضمير الرابط للجملة الواقعة خبرا بالمخبر عنه إذا كان حذفه يؤدي إلى تهيئة العامل للعمل وقطعه عنه نحو قول أسود بن يعفر: وخالد يحمد أصحابه .. البيت.
وأنشد ابن عصفور عدة أبيات أوضح فيها المبتدأ والخبر، وكيف قطع الخبر عن العمل في ضمير المبتدأ. ثم قال:
فحذف الرابط في هذه الأبيات وأمثالها يحسن في الشعر، ولا يحسن في سعة من الكلام، بل إن جاء منه شيء يحفظ ولا يقاس عليه. ثم قال:
فمما جاء من ذلك قراءة يحيى: (أفحكم الجاهليّة يبغون). برفع حكم والتقدير: يبغونه. هذا مذهب المحققين من البصريين، وأما الكوفيون ومن أخذ بمذهبهم فإنهم يجيزون حذفه في سعة من الكلام بشرط أن يكون المبتدأ كلّا أو اسم استفهام نحو قولك: كل الدراهم قبضت، وأي رجل ضربت؟ والصحيح أنه لا فرق بين اسم الاستفهام وكل وبين غيرهما من الأسماء إذا أدى حذف الرابط إلى تهيئة العامل للعمل وقطعه عنه.
انظر كتاب ضرائر الشعر لابن عصفور (تحقيق السيد إبراهيم محمد)(ص 176 - 178).
(3)
أبيات من الرجز نسبت في اللسان (مادة: روض) إلى حميد الأرقط، وقيل: للأغلب العجلي. -
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
يريد: أجده مستريضا.
وكما جاز الحذف من الصلة جاز الحذف من الجملة الواقعة خبرا لاسم استفهام، وكذلك كل وكلا إذا أخبر عنهما يدخل في الكلام معنى ما، وما من أدوات الصدور، فإذا قلت: كل القوم ضربته فالمعنى: ما من القوم إلا من ضربته، وكذا كلا الرجلين ضربته المعنى: ما من الرجلين إلا من ضربته. واستدل على أن الكلام يدخله معنى ما بقول الشاعر:
638 -
وكلّهم حاشاك إلّا وجدته
…
كعين الكذوب جهدها واحتفاؤها (2)
-
- ومناسبتها أن عمر كتب إلى المغيرة بن شعبة وهو على الكوفة أن يستنشد الشعراء عنده ما قالوه في الإسلام، فلما سأل الأغلب قال له هذا الرجز.
اللغة: القريض: الشعر من غير الرجز. التعريض: ضد التصريح. أجد: من الوجود، وروي في مكانه:
أجيد من الإجادة وهي الإتقان. مستريضا: واسعا ممكنا. ومعناه بعد ذلك واضح.
وشاهده قوله: كلاهما أجد حيث حذف العائد وهو مفعول أجد، والمبتدأ لفظ كلا، وهو جائز عند الفراء والكوفيين كما ذكر في الشرح.
والبيت في التذييل والتكميل (4/ 43) وفي معجم الشواهد (ص 492).
(1)
أي للفراء، وانظر نص ما قاله في التذييل والتكميل (4/ 43) وفي معاني القرآن للفراء (1/ 139) جاء قوله: «وممّا يشبه الاستفهام مما يرفع إذا تأخر عنه الفعل الذي يقع عليه قولهم: كلّ الناس ضربت، وذلك أن في كل مثل معنى: هل أحد إلا ضربت، ومثل معنى أيّ رجل لم أضرب، وأي بلدة لم أدخل، ألا ترى أنك إذا قلت: كل الناس ضربت كان فيها معنى ما منهم أحد إلا قد ضربت ومعنى أيهم لم أضرب؟.
وأنشد أبو ثروان (من الطويل):
وقالوا تعرّفها المنازل من منى
…
وما كلّ من يغشى منى أنا عارف
رفعا ولم أسمع أحدا نصب كلّا».
(2)
البيت من بحر الطويل وهو في المدح لقائل مجهول.
وشاهده قوله: وكلهم حاشاك إلا وجدته حيث أدخل أداة الاستثناء على ما ولي لفظ كل، فدل على أنّ معناه: ما منهم إلّا من وجدته.
والبيت ليس في معجم الشواهد، وهو في التذييل والتكميل (4/ 44) ومعاني القرآن للفراء (1/ 140).
والخزانة (9/ 250) وضرائر الشعر لابن عصفور (ص 75).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فإدخالهم إلّا على خبر كل دليل على أن المعنى ما منهم إلا من وجدته، فلما دخل الكلام معنى ما - وهي من الأدوات التي لا يتقدم ما بعدها عليها - أشبهت لذلك الموصول؛ لأن الصلة لا تتقدم على الموصول، فساغ حذف الضمير لذلك.
ثم قال ابن عصفور: «والأصح مذهب البصريين، وفرق بين الصلة والخبر بأن الحذف منهما لا يؤدي إلى التهيئة
والقطع؛ إذ الصلة لا تعمل في الموصول، وليس كذلك أسماء الاستفهام وكلّ وكلا؛ لأن ما بعد هذه الأسماء يجوز أن يعمل فيها، وأيضا فالصلة والموصول كالشيء الواحد، فطال بذلك الموصول بصلته، والطول موجب للتخفيف بالحذف، وليست هذه الأسماء مع أخبارها كذلك».
انتهى كلام ابن عصفور (1).
وقد انتقد الشيخ على المصنف دعوى الإجماع في هذه المسألة، وقال كما قال ابن عصفور: إن هذا ليس مذهب البصريين (2).
والعجب من الشيخ؛ كيف وافق ابن عصفور على ما ذكر بعد ثبوت هذه القراءة المتواترة التي لا محيص عنها ولا بد من الاعتراف بها (3) وليس بعد الحق إلا الضلال.
ودعوى المصنف الإجماع في هذه المسألة لا ينكر؛ لأن هذه القراءة ثابتة بالإجماع، وليس لها محمل غير ما ذكره المصنف، فلا يمكن أن يدفع ذلك بصري ولا كوفي.
وإذا كان كذلك فقد صدق أن الضمير حذف من الجملة الواقعة خبر كل بإجماع، يعني أن أحدا لا يسعه المخالفة في ذلك. أما كون ذلك قليلا أو غير قليل فشيء آخر لم يتعرض المصنف إليه، وكيف يجوز أن يقال: هذا مذهب قال به طائفة مع الثبوت الذي لا محيد عنه.
الأمر الثالث:
انتقد الشيخ كلام المصنف في المتن والشرح من وجوه: أحدها: ما تقدمت -
(1) لم أجد هذه النقول المنسوبة لابن عصفور بنصها في كتابيه المشهورين في هذا الباب: شرح الجمل - المقرب، وأقصى ما وجدته له ما نقلته عنه قريبا من كتابه: الضرائر الشعرية.
(2)
قال أبو حيان: «وأين ما ادّعى المصنف من الإجماع في كل وما أشبهه في العموم، ولم يقل به في كل إلّا الفراء في نقل، وإلّا الفراء والكسائي في نقل آخر» . (التذييل والتكميل 4/ 45).
(3)
أي قراءة ابن عامر برفع كل في قوله تعالى: وكلا وعد الله الحسنى [الحديد: 10].
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الإشارة إليه، وقد عرفت ما فيه (1).
ومنها: أنه قال: «إن المنصوب قد يحذف، قال (2): وذلك لا يجوز عند البصريين إلّا في الشعر» . قلت: وقد تقدم أن البصريين [1/ 360] يجيزون ذلك في الكلام؛ لكنهم يحكمون بقلته، وتقدم النقل عن سيبويه بأنه يجيزه في قليل
من الكلام (3).
قلت: الحذف عند المصنف في نحو: زيد أكرمت - جائز وإن حكم بقلته، وقد تقدم أن سيبويه يجيزه أيضا، وتقدم قبل ذلك كلام ابن أبي الربيع وهو الصحيح.
ولا شك أن في نحو: زيد أكرمت التهيئة والقطع، فكما جاز ذلك هنا جاز في:
الرغيف أكلت إذا دل دليل على المحذوف. أما إذا لم يدل دليل فلا يجوز لما يؤدي إليه من اللبس، وذلك لتوهم أن يكون أصل الكلام: الرغيف أكلته، ثم حذفت الهاء المفعولة.
ومنها: أنه إذا كان منجرّا باسم الفاعل فإنه ذكر أنه يحذف، قال: وذلك لا يجوز عند أصحابنا (5). -
(1) أي مسألة حذف الضمير الرابط المنصوب إذا كان المبتدأ كلّا أو كلا أو اسم استفهام، وقول المصنف: إن هذا جائز بإجماع محتجّا بقراءة: وكل وعد الله الحسنى.
قال أبو حيان: إن هذا ليس مذهب البصريين.
قال ناظر الجيش: «الإجماع في هذه المسألة لا ينكر؛ لأن هذه القراءة ثابتة بالإجماع» .
(2)
القائل الأول هو ابن مالك، والقائل الثاني هو أبو حيان، وانظر التذييل والتكميل (4/ 47).
(3)
قال الشارح: وقد ذكر سيبويه أن الضّمير لا يحذف من خبر المبتدأ إلا في الشّعر أو في قليل من الكلام».
وقال: قال المصنف: «فلو كان المبتدأ غير كلّ والضمير مفعول به لم يجز عند الكوفيين حذفه مع بقاء الرفع إلا في الاضطرار، والبصريون يجيزون ذلك في الاختيار ويرونه ضعيفا، ومنه قراءة السلمي:
(أفحكم الجاهلية يبغون) أي بالرفع على الابتداء.
(4)
التذييل والتكميل (4/ 47).
(5)
انظر: التذييل والتكميل (4/ 47). والعجب من الشارح ينتصر لابن مالك:
إن أبا حيان قال في المسألة: وذلك لا يجوز عند أصحابنا، وإن جاء منه شيء فبابه الشعر.
قال الشارح: وقد استدل ابن مالك على جواز ذلك بما تقدم ذكره. -