الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفدية للكبير العاجز عن الصوم
يقول ابن عباس ف قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} : «ليست بمنسوخة هي للكبير الذى لا يستطيع الصوم» . صحيح
«تنبيه» : استدل المؤلف رحمه الله تعالى بحديث ابن عباس هذا على أن العاجر عن الصيام لكبر أو مرض مزمن يطعم عن كل يوم مسكينا، وهذا صحيح يشهد له حديث ابن عمر وأبى هريرة. غير أن فى قول ابن عباس فى هذه الآية:{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ .. } ليست منسوخة، وأن المراد بها الشيخ الكبير، والمرأة الكبيرة لا يستطيعان الصيام، إشكالا كبيرا، ذلك لأن معنى {يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} أى يستطيعون بمشقة، فكيف تفسر حينئذ بأن المراد بها من لا يستطيع الصيام، لا سيما وابن عباس نفسه يذكر فى رواية عزرة أن الآية نزلت فى الشيخ الكبير والعجوز الكبيرة وهما يطيقان أى يستطيعان الصوم ثم نسخت، فكيف تفسر الآية بتفسيرين متناقضين «يستطيعون» و «لا يستطيعون»؟ ! وأيضا فقد جاء عن سلمة بن الأكوع رضى الله عنه قال:«لما نزلت {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} كان من أراد أن يفطر، ويفتدى [فعل] حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها» . أخرجه الستة إلا ابن ماجه. وفى رواية عنه قال:
«كنا في رمضان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من شاء صام ومن شاء
أفطر فافتدى بطعام مسكين، حتى نزلت هذه الآية:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} » أخرجه مسلم.
ويشهد له حديث معاذ المتقدم.
فهذا يبين لنا أن في حديث ابن عباس إشكالا آخر، وهو أنه يقول: أن الرخصة التي كانت في أول الأمر، إنما كانت للشيخ أو الشيخة وهما يطيقان الصيام، وحديث سلمة ومعاذ يدلان على أن الرخصة كانت عامة لكل مكلف شيخا أو غيره، وهذا هو الصواب قطعا لأن الآية عامة، فلعل ذكر ابن عباس للشيخ والشيخة لم يكن منه
على سبيل الحصر، بل التمثيل، وحينئذ فلا اختلاف بين حديثه والحديثين المذكورين.
ويبقى الخلاف فى الإشكال الأول قائما لأن الحديثين المشار إليهما صريحان فى نسخ الآية. وابن عباس يقول ليست بمنسوخة ويحملها على الذين لا يستطيعون الصيام كما سبق بيانه! فلعل مراد ابن عباس رضى الله عنه أن حكم الفدية الذى كان خاصا بمن يطيق الصوم ويستطيعه ثم نسخ بدلالة القرآن، كان هذا الحكم مقررا أيضا فى حق من لا يطيق الصوم ولا يستطيعه، غير أن الأول ثبت بالقرآن، وبه نسخ، وأما الآخر فإنما ثبتت مشروعيته بالسنة لا بالقرآن، ثم لم ينسخ، بل استمرت مشروعيته إلى يوم القيامة، فأراد ابن عباس رضى الله عنه أن يخبر عن الفرق بين الحكمين: بأن الأول نسخ، والآخر لم ينسخ، ولم يرد أن هذا يثبت بالقرآن بآية «وعلى الذين يطيقونه» ، وبذلك يزول الإشكال إن شاء الله تعالى.
ويؤيد ما ذكرته أن ابن عباس ـ فى رواية عزرة ـ بعد أن ذكر نسخ الآية المذكورة قال: «وثبت للشيخ الكبير، والعجوز الكبيرة إذا كانا لا يطيقان الصوم، والحبلى والمرضع إذا خافتا أفطرتا، وأطعمتا كل يوم مسكينا» .
ففي قوله: «ثبت» إشعار بأن هذا الحكم فى حق من لا يطيق الصوم كان مشروعاً، كما كان مشروعا فى حق من يطيق الصوم، فنسخ هذا، واستمر الآخر، وكل من شرعيته، واستمراره إنما عرفه ابن عباس من السنة، وليس من القرآن.
ويزيده تأييدا، أن ابن عباس أثبت هذا الحكم للحبلى والمرضع إذا خافتا ومن الظاهر جدا أنهما ليسا كالشيخ والشيخة فى عدم الاستطاعة، بل إنهما مستطيعتان ولذلك قال لأم ولد له أو مرضع:«أنت بمنزلة الذى لا يطيق» كما سبق.
فمن أين أعطاهما ابن عباس هذا الحكم مع تصريحه بآن الآية «وعلى الذين يطيقونه» منسوخة، ذلك من السنة بلا ريب.
ويشهد لما سبق ذكره حديث معاذ، فإنه بعد أن أفاد نسخ الآية المذكورة بقوله تعالى:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} قال: «فأثبت الله صيامه على المقيم
الصحيح، ورخص فيه للمريض والمسافر، وثبت الإطعام للكبير الذى لا يستطيع الصيام».
فقد أشار بقوله «وثبت الإطعام» إلى مثل ما أشار إليه حديث ابن عباس. وبذلك يلتقى الحديثان حديث معاذ وسلمة مع حديث ابن عباس، ويتبين أن فى حديثه ما يوافق الحديثين، وفيه ما يوافق حديث معاذ ويزيد على حديث سلمة وهو ثبوت الإطعام على العاجز عن الصيام، فاتفقت الأحاديث ولم تختلف والحمد لله على توفيقه.
وإذا عرفت هذا فهو خير مما ذكره الحافظ فى «الفتح» «4/ 164» : «أن ابن عباس ذهب إلى أن الآية المذكورة محكمة، لكنها مخصوصة بالشيخ الكبير» لما عرفت أن ابن عباس صرح بأن الآية منسوخة، لكن حكمها منسحب إلى العاجز عن الصيام بدليل السنة لا الكتاب لما سبق بيانه، وقد توهم كثيرون أن ابن عباس يخالف الجمهور الذين ذهبوا إلى نسخ الآية وانتصر لهم الحافظ ابن حجر فى «الفتح» فقال «8/ 136» تعليقا على رواية البخارى عن ابن عمر أنه قرأ «فدية طعام مسكين» ، قال:«هو صريح فى دعوى النسخ، ورجحه ابن المنذر من جهة قوله: «وأن تصوموا خير لكم» قال: لأنها لو كانت فى الشيخ الكبير الذى لا يطيق الصيام، لم يناسب أن يقال له «وأن تصوموا خير لكم» مع أنه لا يطيق الصيام».
قلت: وهذه حجة قاطعة فيما ذكر، وهو يشير بذلك إلى الرد على ابن عباس، ومثله لا يخفى عليه مثلها، ولكن القوم نظروا إلى ظاهر الرواية المتقدمة عن ابن عباس عند البخارى الصريحة فى نفى النسخ، ولم يتأملوا فى الرواية الأخرى الصريحة فى النسخ، ثم لم يحاولوا التوفيق بينهما، وقد فعلنا ذلك بما سبق تفصيله، وخلاصته: أن يحمل النفى على نفى نسخ الحكم لا الآية، والحكم مأخوذ من السنة، ويحمل النسخ عليها، وبذلك يتبين أن ابن عباس رضى الله عنه ليس مخالفا للجمهور.
وهذا الجمع مما لم أقف عليه فى كتاب، فإن كان صوابا، فمن الله، وإن كان خطأ فمن نفسى، وأستغفر الله من كل ما لا يرضيه.
[إرواء الغليل تحت حديث رقم (912)]