الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يوم الجمعة لا يُصام وحده
[قال رسول الله صلى الله عليه وسلم]: «لا تختصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم» .
و[قال رسول الله صلى الله عليه وسلم]: «لا تصوموا يوم الجمعة إلا وقبله يوم أو بعده يوم» .
[قال الإمام]: واعلم أن قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: «إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم» ينبغي أن يفسر باللفظ الآتي في الحديث الذي بعده .. «إلا وقبله يوم، أو بعده يوم» ، وهو متفق عليه، وبالروايات الأخرى المذكورة تحته، فإنها تدل على أن يوم الجمعة لا يصام وحده، ويؤكد ذلك الشاهد المذكور هناك بلفظ:«لا تصوموا يوم الجمعة مفردًا» ، ومعناه في «صحيح البخاري» من حديث جابر «1984» ، فقول الحافظ في «الفتح» «4/ 234»:«ويؤخذ من الاستثناء جواز صيامه لمن اتفق وقوعه في أيام له عادة يصومها؛ كمن يصوم أيام البيض، أو من له عادة بصوم يوم معين كيوم عرفة فوافق يوم الجمعة» !
فأقول: لا يخفى على الفقيه البصير أن الاستثناء المذكور فيه مخالفتان: الأولى: الإعراض عن الروايات المفسرة والمقيدة بجواز صيامه مقرونًا بيوم قبله أو بعده. والأخرى: النهي المطلق عن إفراد صوم يوم الجمعة، ومن المعلوم أن المطلق يجري على إطلاقه ما لم يأت ما يقيده، فإذا قيد بقيد لم يجز تعدّيه، ولا يصلح تقييد النهي هنا بما جاء من الفضل في صوم يوم معين -كعرفة أو عاشوراء أو أيام البيض- لمخالفته لقاعدة: الحاظر مقدم على المبيح، مثل صيام يوم الإثنين أو الخميس إذا اتفق مع يوم عيد الفطر أو أحد أيام الأضحى، فإنه لا يصام، لا لنهي خاص بهذه الصورة وإنما تطبيقًا للقاعدة المذكورة، وما نحن بصدده هو من هذا القبيل. كتبت هذا -بيانًا وأداءً للأمانة العلمية- بمناسبة أن الحكومة السعودية أعلنت أن يوم عرفة سيكون يوم الجمعة في موسم سنة «1411 هـ» ، فاضطرب الناس في صيامه، وتواردت عليّ الأسئلة من كل البلاد، وبخاصة من بعض طلاب العلم في الجزائر، فكنت أجيبهم
بخلاصة ما تقدم، فراجعني في ذلك بعضهم بكلام الحافظ، ففصلت له القول تفصيلًا على هذا النحو، وذكرته ببعض الروايات التي ذكرها الحافظ نفسه، وأحدها بلفظ:« .. يوم الجمعة وحده، إلا في أيام معه» . وفي شاهد له بلفظ: «إلا في أيام هو أحدها» . فالجواز الذي ذكره الحافظ يخالف القاعدة والقيد المذكورين. وبهذه المناسبة أقول: إن هناك حديثًا آخر يشبه هذا الحديث من حيث الاشتراك في النهي مع استثناء فيه، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:«لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم .. » ،
وهو حديث صحيح يقينًا، ومخرج في «الإرواء» «رقم 960» ، فأشكل هذا على كثير من الناس قديمًا وحديثًا، وقد لقيتُ مقاومة شديدة من بعض الخاصة، فضلًا عن العامة، وتخريجه عندي كحديث الجمعة، فلا يجوز أن نضيف إليه قيدًا آخر غير قيد «الفرضية» كقول بعضهم:«إلا لمن كانت له عادة من صيام، أو مفردًا» ؛ فإنه يشبه الاستدراك على الشارع الحكيم، ولا يخفى قبحه. وقد جرت بيني وبين كثير من المشايخ والدكاترة والطلبة مناقشات عديدة حول هذا القول، فكنت أذكرهم بالقاعدة السابقة وبالمثال السابق، وهو صوم يوم الاثنين أو الخميس إذا وافق يوم عيد، فيقولون يوم العيد منهي عن صيامه، فأبين لهم أن موقفكم هذا هو تجاوب منكم مع القاعدة، فلماذا لا تتجاوبون معها في هذا الحديث الناهي عن صوم يوم السبت؟ ! فلا يُحيرون جوابًا؛ إلا قليلًا منهم فقد أنصفوا جزاهم الله خيرًا، وكنت أحيانًا أطمئنهم وأبشرهم بأنه ليس معنى ترك صيام يوم السبت في يوم عرفة أو عاشوراء مثلًا أنه من باب الزهد في فضائل الأعمال، بل هو من تمام الإِيمان والتجاوب مع قوله عليه الصلاة والسلام:«إنك لن تدع شيئًا لله عز وجل إلا بدلك الله به ما هو خير لك منه» . وهو مخرج في «الضعيفة» بسند صحيح تحت الحديث «رقم 5» . هذا؛ وقد كان بعض المناقشين عارض حديث السبت بحديث الجمعة هذا، فتأملت في ذلك، فبدا لي أن لا تعارض والحمد لله، وذلك بأن نقول: من صام يوم الجمعة دون الخميس فعليه أن يصوم السبت، وهذا فرض عليه لينجو من إثم مخالفته الإِفراد ليوم الجمعة، فهو في هذه الحالة داخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم في حديث السبت:«إلا فيما افترض عليكم» .
ولكن هذا إنما هو لمن صام الجمعة وهو
غافل عن النهي عن إفراده، ولم يكن صام الخميس معه كما ذكرنا، أما من كان على علم بالنهي؛ فليس له أن يصومه؛ لأنه في هذه الحالة يصوم ما لا يجب أو يفرض عليه، فلا يدخل -والحالة هذه- تحت العموم المذكور، ومنه يعرف الجواب عما إذا اتفق يوم الجمعة مع يوم فضيل، فلا يجوز إفراده كما تقدم، كما لو وافق ذلك يوم السبت؛ لأنه ليس ذلك فرضًا عليه. وأما حديث:«كان صلى الله عليه وسلم يكثر صيام يوم السبت» ، فقد تبين أنه لا يصح من قبل إسناده، وقد توليت بيان ذلك في «الضعيفة» برقم «1099» من المجلد الثالث، فليراجعه من شاء الوقوف على الحقيقة. واعلم أن هذا الحديث مع تصحيح من تقدم ذكرهم من الأئمة والحفاظ هناك -وهم الإِمام مسلم وابن خزيمة وابن حبان والحاكم والذهبي، ومن أقر تصحيحهم كالبيهقي في «سننه» ، والنووي في «رياضه» ، والعسقلاني في «فتحه» «4/ 2330» و «تلخيصه» «4/ 215» وغيرهم كثير ممن احتج به على بدعية صلاة الرغائب كما يأتي- مع ذلك كله فقد خالفهم المدعو «حسان عبد المنان» كعادته -فأورده في «ضعيفته» التي سبق الكلام عليها، وبيان بعض الطامات والمخالفات التي فيها تحت الاستدراك «13» - متشبثًا بإعلال أبي حاتم وأبي زرعة إياه بدعوى أن حسينًا الجعفي وهم في ذكر أبي هريرة في روايته عن هشام بن حسان عن ابن سيرين عنه، وإنما هو عن ابن سيرين مرسل ليس فيه أبو هريرة. رواه أيوب وهشام وغيرهما كذا مرسل. كذا وقع في «علل ابن أبي حاتم»:«وهشام» ، وأظنه خطأ؛ لأن رواية هشام مسندة عن أبي هريرة عند مسلم وغيره ممن خرج حديثه كما تقدم، وكذلك ذكرها المزي كما عرفت. ومهما يكن من أمر؛ فتوهيم حسين في إسناده عن أبي هريرة مما لا وجه له؛ لأنه لم يتفرد به، فقد وصله أيضًا عاصم بن سليمان الأحول عن ابن سيرين؛ لكنه قال: «عن أبي الدردا.
وهذا اختلاف شكلي لا يضر؛ لأنه انتقال من صحابي إلى آخر، وكلهم عدول، مع احتمال أن يكون ابن سيرين تلقاه عنهما كليهما، فكان يرويه تارة عن هذا وتارة عن هذا، وليس ذلك بكثير على مثل ابن سيرين الثقة الثبت. أخرجه أحمد «6/ 444» قال: ثنا أسود بن عامر: ثنا إسرائيل عن عاصم به. ومن طريق الأسود أخرجه النسائي في «السنن الكبرى» «2/ 141 - 142» . وهذا
إسناد صحيح على شرط الشيخين.
وذكره الحافظ المزي في «تحفته» «8/ 232/10962» من رواية النسائي فقط، وقال عقبها:«وتابعه معمر عن أيوب عن ابن سيرين» . وهذا ظاهر في أنه يعني أن أيوب قد تابع عاصمًا في روايته عن ابن سيرين مسندًا عن أبي الدرداء، فاحفظ هذا لما يأتي. ثم أشار الحافظ إلى رواية هشام المسندة عن ابن سيرين عن أبي هريرة، ثم قال:«وروي عن هشام عن ابن سيرين عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم» . وقال: «وروي عن أيوب وابن عون ويونس بن عبيد عن محمد بن سيرين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي الدرداء» . قلت: يعني: أنهم أرسلوه لم يذكروا أبا هريرة، ورواية أيوب هذا إنما يرويها عنه معمر، وعنه عبد الرزاق في «المصنف» «4/ 279/7803» ، وعنه الطبراني في «المعجم الكبير» «6/ 267 - 268» ، وهي من رواية إسحاق بن إبراهيم الدبري عن عبد الرزاق، وفيها كلام معروف؛ لأن الدبري سمع من عبد الرزاق وهو ابن سبع سنين، وهي على خلاف رواية معمر الأولى عن أيوب المتابعة لرواية عاصم عن ابن سيرين المسندة كما تقدم عن المزي؛ فتذكر. وأما رواية ابن عون فهي المتقدمة هناك تحت الحديث من رواية ابن سعد بسند صحيح عن ابن سيرين مرسلًا، وفيه سبب الحديث. وأما رواية يونس بن عبيد فلم أقف على من وصلها، وكذا رواية معمر الأولى.
وعلى هذا التحقيق فإني أقول: إذا أسقطنا هاتين الروايتين من عين الاعتبار -لجهلنا بحال الإسناد إليهما- فإنه يبقى لدينا روايتان معروفتان لكل من المسند والمرسل، وإذا تذكرنا أن روايتي المسند صحيحتان، وروايتي المرسل إحداهما فقط صحيحة، والأخرى ضعيفة -وهي رواية أيوب المعلولة بالدبري- يترجح بوضوح لا خفاء فيه أن الحديث مسند عن أبي هريرة وأبي الدرداء، بل أستطيع أن أقول بأرجحية المسند حتى لو فرضنا صحة رواية أيوب المرسلة أيضًا؛ لأن المسند معه زيادة من ثقتين، وهي مقبولة في مثل هذه الحالة اتفاقًا. فلننظر الآن ماذا فعل هذا الجاني على السنة -المضعف للأحاديث الصحيحة- من قلب للحقائق وكتم للعلم؛ ليظهر نفسه أنه محقق غير مقلد في هذا العلم الجليل: أولًا: كتم رواية معمر الأولى عن أيوب التي ذكرها المزي! ثانيًا: كتم ضعف
روايته الأخرى عن أيوب، وهو يعلم أنها من رواية الدبري عنه، وهو يضعف عادة من هو أوثق منه بكثير إذا روى ما لا يهوى! ثالثًا: تجاهل صحة إسناد الرواية المسندة عن أبي الدرداء فنسبها للنسائي وكفى! رابعًا: تغافل عن تصحيح من ذكرنا لرواية أبي هريرة، وعن احتجاج من احتج به من العلماء -كما سبقت الإِشارة إليه- المستلزم لصحة المحتج به كما لا يخفى، فقال الإِمام النووي في «شرح مسلم»:«واحتج به العلماء على كراهة هذه الصلاة المبتدعة التي تسمى الرغائب، قاتل الله واضعها ومخترعها، فإنها بدعة منكرة .. » إلخ كلامه الطيب، ونقله عنه الصنعاني والشوكاني وغيرهما وأقروه. وإن مما يلفت النظر ويسترعي انتباه الباحث أن الرجل في جل الأحاديث التي ضعفها يختم كلامه بذكر موافقة الشيخ شعيب إياه على التضعيف، وقد رابني ذلك منه لكثرة ما رأيت في تعليقات الشيخ خلاف ما ينسب إليه -وقد سبقت الإشارة إلى ذلك في بعض الاستدراكات المتقدمة- ومن ذلك هذا الحديث، فقد علق الشيخ عليه في « .. صحيح ابن حبان» بقوله «8/ 377» . «إسناده صحيح رجاله ثقات .. » .
ثم خرجه برواية مسلم وابن خزيمة وتصحيح الحاكم وموافقة الذهبي، فلا أدري هل تراجع الشيخ عن تصحيحه مسايرة منه لتلميذه؛ أم أن هذا قال على شيخه ما لم يقل تقوية لموقفه؟ ! ذلك ما ستكشف عنه الأيام القادمة إن شاء الله تعالى «1» . وإن من المفارقات العجيبة والأوهام الظاهرة -التي لا يقع في مثلها إلا من كان مبتدئًا في هذه الصناعة- نسبة الشيخ شعيب لحديث ابن سيرين المرسل لرواية البخاري عن أبي جحيفة! فقد ذكر الذهبي هذا المرسل في «السير» «1/ 543» ، فقال الشيخ في تخريجه:«أخرجه أحمد «6/ 444» .. وابن سعد «4/ 1/61» مطولًا، والبخاري نحوه في «الصوم» .. عن أبي جحيفة .. »، وساق لفظه المطول، وليس فيه ولا كلمة مما في المرسل! ومن جهة أخرى أوهم أن الحديث عند أحمد مرسل أيضًا كما هو عند ابن سعد، وإنما هو مسند عن أبي هريرة! ومثل هذا التخريج الواهي يجعلني أعتقد أن كثيرًا من التخريجات التي نراها منسوبة للشيخ شعيب ليست له، وإنما هي بقلم بعض من يتدرب تحت يده ممن لا علم عندهم كحسان هذا، ومثله المعلق على «الإِحسان» ، ففي تعليقاته عليه أوهام كثيرة -تبينت لي أثناء تحقيقي لكتاب «موارد الظمآن» ، وهو وشيك الانتهاء إن شاء الله- استبعدت أن تقع من الشيخ شعيب؛ لأنها