الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لا زكاة في عروض التجارة ولا المستغلات
قال الإمام: والحق أن القول بوجوب الزكاة على عروض التجارة مما لا دليل عليه في الكتاب والسنة الصحيحة مع منافاته لقاعدة «البراءة الأصلية» التي يؤيدها هنا قوله صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع: «فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد
…
». الحديث.
رواه الشيخان وغيرهما وهو مخرج في «الإرواء» 1458.
ومثل هذه القاعدة ليس من السهل نقضها أو على الأقل تخصيصها ببعض الآثار ولو صحت كقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما:
«ليس في العروض زكاة إلا ما كان للتجارة» .
أخرجه الإمام الشافعي في «الأم» بسند صحيح.
ومع كونه موقوفا غير مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإنه ليس فيه بيان نصاب زكاتها ولا ما يجب إخراجه منها فيمكن حمله على زكاة مطلقة غير مقيدة بزمن أو كمية وإنما بما تطيب به نفس صاحبها فيدخل حينئذ في عموم النصوص الآمرة بالإنفاق كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ
…
} وقوله جل وعلا: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} وكقول النبي صلى الله عليه وسلم:
رواه الشيخان وغيرهما. وهو مخرج في «سلسلة الأحاديث الصحيحة» برقم 920.
وقد صح شيء مما ذكرته عن بعض السلف فقال ابن جريج: قال لي عطاء:
«لا صدقة في اللؤلؤ ولا زبرجد ولا ياقوت ولا فصوص ولا عرض ولا شيء
لا يدار أي لا يتاجر به وإن كان شيئا من ذلك يدار ففيه الصدقة في ثمنه حين يباع».
أخرجه عبد الرزاق 4/ 84 / 7061 وابن أبي شيبة 3/ 144 وسنده صحيح جدا.
والشاهد منه قوله: «ففيه الصدقة في ثمنه حين يباع» .
فإنه لم يذكر تقويما ولا نصابا ولا حولا ففيه إبطال لادعاء البغوي في «شرح السنة» 6/ 53 الإجماع على وجوب الزكاة في قيمة عروض التجارة إذا كانت نصابا عند تمام الحول كما زعم أنه لم يخالف في ذلك إلا داود الظاهري!
وإن مما يبطل هذا الزعم أن أبا عبيد رحمه الله قد حكى في كتابه «الأموال» 427/ 1193 عن بعض الفقهاء أنه لا زكاة في أموال التجارة. ومن المستبعد جدا أن يكون عنى بهذا البعض داود نفسه لأن عمره كان عند وفاة الأمام أبي عبيد أربعا وعشرين سنة أو أقل ومن كان في هذا السن يبعد عادة أن يكون له شهرة علمية بحيث يحكي مثل الإمام أبي عبيد خلافه وقد توفي سنة 224 وولد داود سنة 200 أو 202 فتأمل.
ولعل أبا عبيد أراد بذاك البعض عطاء بن أبي رباح فقد قال إبراهيم الصائغ:
أخرجه ابن زنجويه في كتابه «الأموال» 3/ 946 / 1703 بسند حسن كما قال المعلق عليه الدكتور شاكر ذيب فياض وهو شاهد قوي لرواية ابن جريج المتقدمة.
وجملة القول أن المسألة لا يصح ادعاء الإجماع فيها لهذه الآثار وغيرها مما ذكره ابن حزم في «المحلى» الأمر الذي يذكرنا بقول الإمام أحمد رحمه الله تعالى:
«من ادعى الإجماع فهو كاذب وما يدريه لعلهم اختلفوا» .
وصدق - جزاه الله خيرا - فكم من مسالة ادعي فيها الإجماع ثم تبين أنها من مسائل الخلاف وقد ذكرنا أمثلة منها في بعض مؤلفاتنا مثل «أحكام الجنائز» و
«آداب الزفاف» وغيرها.
وقد أشبع ابن حزم القول في مسألتنا هذه وذهب إلى أنه لا زكاة في عروض التجارة ورد على أدلة القائلين بوجوبها وبين تناقضهم فيها ونقدها كلها نقدا علميا دقيقا فراجعه فإنه مفيد جدا في كتابه «المحلى» 6/ 233 - 240.
وقد تبعه فيما ذهب إليه الشوكاني في «الدرر البهية» وصديق حسن خان في شرحه «الروضة الندية» 1/ 192 - 193 ورد الشوكاني على صاحب «حدائق الأزهار» قوله بالوجوب في كتابه «السيل الجرار» 2/ 26 - 27 فليراجعه من شاء.
وقد رد عليه أيضا قوله بوجوب الزكاة على «المستغلات» «(1)» الذي تبناه بعض الكتاب في العصر الحاضر فقال الشوكاني رحمه الله 2/ 27:
«هذه مسألة لم تطن على أذن الزمن ولا سمع بها أهل القرن الأول الذين هم خير القرون ولا القرن الذي يليه ثم الذي يليه وإنما هي من الحوادث
اليمنية والمسائل التي لم يسمع بها أهل المذاهب الإسلامية عنى اختلاف أقوالهم وتباعد أقطارهم ولا توجد عليها أثارة من علم ولا من كتاب ولا سنة ولا قياس. وقد عرفناك أن أموال المسلمين معصومة بعصمة الإسلام لا يحل أخذها إلا بحقها وإلا كان ذلك من أكل أموال الناس بالباطل. وهذا المقدار يكفيك في هذه المسألة».
وراجع لها «الروضة الندية» 1/ 194 تزدد فقها وعلما.
فائدة هامة: قد يدعي بعضهم أن القول بعدم وجوب زكاة عروض التجارة فيه إضاعة لحق الفقراء والمساكين في أموال الأغنياء والمثرين.
والجواب من وجهين:
الأول: أن الأمر كله بيد الله تعالى فليس لأحد أن يشرع شيئا من عنده بغير إذن من الله عز وجل {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى
(1) كالدور التي يكريها مالكها وكذلك الدواب ونحوها. [منه].
عَمَّا يُشْرِكُونَ} ألا ترى أنهم أجمعوا على أنه لا زكاة على الخضروات على اختلاف كثير بينهم مذكور عند المصنف وغيره واتفقوا على أنه لا زكاة على القصب والحشيش والحطب مهما بلغت قيمتها فما كان جوابهم عن هذا كان الجواب عن تلك الدعوى على أن المؤلف قد جزم أنه لم تكن تؤخذ الزكاة من الخضروات ولا من غيرها من الفواكه إلا العنب والرطب.
فأقول: فهذا هو الحق وبه تبطل الدعوى من أصلها.
والآخر: أن تلك الدعوى قائمة على قصر النظر في حكمة فرض الزكاة أنها لفائدة الفقراء فقط والأمر على خلافه كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ
…
} الآية.
فإذا كان الأمر كذلك ووسعنا النظر في الحكمة قليلا وجدنا أن الدعوى المذكورة باطلة لأن طرح الأغنياء أموالهم ومتاجرتهم بها أنفع للمجتمع - وفيه الفقراء - من كنزها ولو أخرجوا زكاته ولعل هذا يدركه المتخصصون في علم الاقتصاد أكثر من غيرهم والله ولي التوفيق.
وأما الأثر الذي أورده المؤلف في حكم زكاة التجارة عن عمر فهو ضعيف لأن أبا عمرو بن حماس ووالده مجهولان كما قال ابن حزم ولا يخدج فيه توثيق ابن حبان للوالد لما نبهنا عليه مرارا أن توثيق ابن حبان لا يوثق به لتساهله في ذلك ولذلك لم يعتد الحافظ به فصرح في «بلوغ المرام» بأن إسناده لين!
وأما ما نقله المؤلف عقب ذلك عن «المغني» قال:
«وهذه قصة يشتهر مثلها ولم تنكر فيكون إجماعا» !
فيقال: أثبت العرش ثم انقش على أنه لو ثبتت القصة فليس فيها ما يدل على الإجماع البتة يوضحه قول ابن رشد بعد أن أشار إلى هذه القصة وقول ابن عمر المتقدم: