الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أن يكفينى شره، ويصرف عنى كيده، فإنه يرانى هو وقبيله، من حيث لا أراهم (1)، والسلام».
(مفتاح الأفكار ص 273، والمواهب الفتحية 2: 140)
143 - كتاب بشر البلوى إلى إبراهيم بن عبد الله الحجبى
وكتب بشر (2) البلوىّ إلى إبراهيم بن عبد الله الحجبىّ أيضا يستمنحه:
«بسم الله الرحمن الرحيم: أما بعد، فإن الله- وله الحمد- قد كان عرضنى وجوها كثيرة، وخيّرنى فى مكاسب حلال، وكنت- بتوفيق الله عز وجل وإحسانه- قد اخترت منها ناحية الأمير- حفظه الله تعالى- ورضيت به من كل مطلب، واقتصرت على رجائه من كل مكسب، فأثابه الله عز وجل فتحا قريبا ومغانم كثيرة عجّلها، وكان الله عزيزا حكيما (3)، وقد عرف الأمير- أبقاه الله تعالى- طول مودّتى له، وقديم حرمتى، وهجرتى معه، وأنّى ممّن أنفق من قبل الفتح وقاتل (4)، ثم إنى
(1) اقتبسه من قوله تعالى: «يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ» .
(2)
كذا نقل صاحب مفتاح الأفكار، وفى المنظوم والمنثور أن هذا الكتاب لمطرف بن أبى مطرف.
(3)
(4)
اقتبسه من قوله تعالى: «لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا، وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى» والمراد بالفتح فى الآية فتح مكة.
لم أتحرّف (1) - بحمد الله- بعد الهجرة، ولم أنافق بعد النّصرة، ولم أكن كحاطب (2) حين ألقى بالمودّة (3)، ولا كتميم يوم نادوا من وراء الحجرات (4)، بل أقمت على مكانتى، واصطبرت على عسرتى، لا أردّ الجوعة إلا بالبلغة (5) أحيانا، ولا أوارى العورة إلا بالغنية (6) زمانا، حتى جاء الفتح من عند الله (7)، وطلع الأمير- حفظه الله-
(1) فى الأصل «المنظوم والمنثور» «أتعرف» وهو تحريف، وتحرف وانحرف واحرورف: مال وعدل.
(2)
هو حاطب بن أبى بلتعة، وكان من خبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أجمع السير إلى مكة لفتحها (سنة 8 هـ) دعا الله أن يعمى الأخبار على قريش، فكتب إليهم حاطب كتابا يخبرهم بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، وبعثه مع امرأة وجعل لها جعلا، فأعلم الله رسوله ذلك، فبعث أثرها عليا والزبير والمقداد، وقال انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها، فانطلقوا إلى الروضة فوجدوا بها المرأة، فقالوا لها: أخرجى الكتاب، قالت. ما معى كتاب، فقالوا: لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب، فأخرجته من عقاصها، فأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما هذا يا حاطب؟
قال: لا تعجل على يا رسول الله: إنى كنت امرأ ملصقا فى قريش، وكان من معك من المهاجرين لهم قراباث يحمون بها أهليهم وأموالهم بمكة، فأحببت إذ فاتنى ذلك أن أتخذ عندهم يدا يحمون بها قرابتى، ولم أفعله ارتدادا عن دينى، ولا رضا بالكفر بعد الإسلام، فقال عليه الصلاة والسلام: أما إنه قد صدقكم، فقال عمر: دعنى يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق، فقال: إنه قد شهد بدرا، وما يدريك يا عمر! لعل الله قد اطلع على أصحاب بدر يوم بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم- انظر كتب السيرة-.
(3)
اقتبسه من قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ» وقد نزلت هذه الآية فى حاطب بن أبى بلتعة للسبب المتقدم ذكره، وفى مفتاح الأفكار والمواهب الفتحية:«حين ألقى بالمدة» وقال صاحب المواهب الفتحية فى تفسير تلك الرسالة: «والمدة بضم الميم: اسم ما استمددت به من المداد على القلم، وهى المعروفة عند العوام بالملة، أى حين ألقى بالمداد على تلك الصحيفة» .
وعندى أن ذلك التفسير متكلف، وأن كلمة «بالمدة» محرفة عن «بالمودة» ويؤيد ذلك ما جرت به سنة بشر البلوى فى الكتابة من اقتباس آى القرآن كما عرفت.
(4)
يشير إلى قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ. وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» وذاك أنه وفد عليه صلى الله عليه وسلم سنة تسع وفد بنى تميم، قجلسوا ينتظرونه، فلما أبطأ عليهم نادوا من وراء حجراته بصوت جاف: أن يا محمد اخرج إلينا، فآذى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم من صياحهم، فنزلت فيهم الآية.
(5)
البلغة: ما يتبلغ به من العيش.
(6)
الغنية بالضم والكسر: اسم من الاستغناء.
(7)
اقتبسه من قوله تعالى: «إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ»
فلما ظهر وتمكّن، ورجونا الغنى منه حين أيسر وأثخن (1)، والعزّ تماما على الّذى أحسن (2)، وأن يشفى الله به صدور قوم مؤمنين (3) ويذهب غيظ قلوبهم ركن إلى الظالمين، وأصغى إلى المداهنين، واستمع من المنافقين، وعفا عن المرجفين (4)، وتجاوز عن المستهزئين، وخفض جناحه للمتكبّرين، وصعّر (5) خدّه للمستضعفين، وعبس فى وجوه المقلّين، وجفا عشيرته الأقربين، وأقصى شيعته الأوّلين والآخرين، وحرم إخوانه الأقدمين، «فما تنفعهم شفاعة الشّافعين» ثم تأوّل الكتاب، فتعدّى الصواب، وقرّب الأحزاب، وآوى المتخلّفين (6) من الأعراب، وآثر بالفىء من لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب (7)، فأصبحت أياديه عند المؤلّفة قلوبهم، ومن كان يسرّ النفاق فيهم، ويلمزه فى الصّدقات منهم (8)، وصنائعه عند المعذّرين من
(1) أثخنه: غلبه؛ أى حين غلب أعداءه وقهرهم.
(2)
أخذه من قوله تعالى: «ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ» .
(3)
اقتبسه من قوله تعالى: «قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ» .
(4)
أرجف القوم: خاضوا فى أخبار الفتن ونحوها.
(5)
صعر خده: أماله كبرا.
(6)
فى مفتاح الأفكار «وأوفى المخالفين» .
(7)
اقتبسه من قوله تعالى: «وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ» ووجف البعير والفرس وجفا: عدا، وأوجفته: أعديته.
(8)
اقتبسه من قوله تعالى: «وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ» واللمز: العيب، وأصله الإشارة بالعين ونحوها، وفعله كضرب ونصر.
الأعراب (1)، والذين جاءوا من بعدهم، ظاهرة فى الآفاق وفى أنفسهم (2)، وأصبح نقباء العقبة (3)، وفقراء الهجرة، ومساكين الصّفّة (4) تفيض أعينهم من الدّمع حزنا ألّا يجدوا ما ينفقون (5)، وأصبح السابقون الأوّلون منا ومن أهل النّصرة (6) مرجين لأمر الله (7)، والتائبون العابدون موقوفين لحكم الله، وأصبح الفقراء المستضعفون محصورين فى سبيل الله، فإن رأى الأمير- حفظه الله تعالى- أن يميرنا
(1) اقتبسه من قوله تعالى: «وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ» والمعذر: إما من عذر فى الأمر: إذا قصر فيه موهما أن له عذرا ولا عذر له، فمعناه: المقصرون الذين لا عذر لهم، وإما من اعتذر، فأصله المعتذرون، ألقيت فتحة التاء على العين وأبدل منها ذالا وأدغمت فى الذال التى بعدها، ومعناه: الذين يعتذرون، كان لهم عذر أو لم يكن، وقرأ ابن عباس «المعذرون» بسكون العين، وهم الذين لهم العذر، وكان يقول: والله لكذا أنزلت، وقال: لعن الله المعذرين «بالتشديد» .
(2)
اقتبسه من قوله تعالى: «سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ» .
(3)
العقبة: بين منى ومكة، بينها وبين مكة نحو ميلين، ومنها ترمى جمرة العقبة، ونقباؤها: هم الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عندها، وذلك أنه كان فى بدء أمره يوافى الموسم، ويتتبع القبائل فى رحالها يدعوهم إلى أن يمنعوه ليبلغ رسالة ربه، فلا يجد من ينصره، حتى كانت سنة إحدى عشرة من النبوة، لقى ستة نفر من الأوس عند هذه العقبة فدعاهم إلى الإسلام وعرض عليهم أن يمنعوه فقالوا: هذا والله النبى الذى تعدنا به اليهود، يجدونه مكتوبا عندهم فى التوراة، فآمنوا به وصدقوه، ثم انصرفوا إلى المدينة، وذكروا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجابهم ناس وفشا فيهم الإسلام، ولما كانت سنة اثنتى عشرة من النبوة وافى الموسم منهم اثنا عشر رجلا، هؤلاء الستة وستة أخر، فآمنوا وأسلموا، فلما كانت سنة ثلاث عشرة من النبوة أنى منهم سبعون رجلا وامرأتان.
(4)
أهل الصفة. هم فقراء المهاجرين ومن لم يكن له منهم منزل يسكنه، فكانوا يأوون إلى صفة مسجده صلى الله عليه وسلم، وهى موضع مظلل من المسجد يبيتون فيه.
(5)
اقتبسه من قوله تعالى: «تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ» .
(6)
اقتبسه من قوله تعالى: «وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ» .
(7)
اقتبسه من قوله تعالى: «وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ» .
فإنا قد سغبنا (1)، وأن يعطف علينا من قبل أن يزيغ قلوب فريق (2) منّا، فعل، ف «إنّ الإنسان خلق هلوعا (3)، إذا مسّه الشّرّ جزوعا، وإذا مسّه الخير منوعا» ولست أدرى ماذا أعتذر به اليوم إلى الناس فى أمرى عن الأمير! وهم يعلمون أنى قد رأيت فيه ثلثى أملى، ولم أبلغ فى نفسى ربع رجائى، أم ماذا ينتظر الأمير- حفظه الله- فىّ؟
بعد أن آتاه الله الملك، وعلّمه الحكمة (4) ومكّنه من خزائن الأرض (5)، وجعله فى الدنيا وجيها (6)، وفى الإسلام مكينا. وعند الخليفة- أبقاه الله تعالى- مطاعا امينا (7)، فمن يفر (8) الأمير بعد هذه النعمة؟ أم من يعذره مع هذه الكرامة؟ ومن يرضى منه بأقلّ من جبره (9)، إلا من سفه (10) نفسه، ولست آمن أن يتطاول علينا الجزع،
(1) مار أهله كباع: أتاهم بالميرة بكسر الميم وهى الطعام، وسغب كفرح ونصر: جاع، وفى الأصل «المنظوم والمنثور» «فإنا قد استعنا» .
(2)
اقتبسه من قوله تعالى: «لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ» .
(3)
الهلع: أشد الجزع.
(4)
اقتبسه من قوله تعالى: «رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ» ، وقوله تعالى:
«وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ» .
(5)
اقتبسه من قوله تعالى فى قصة يوسف: «قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ. وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ» .
(6)
اقتبسه من قوله تعالى: «يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ» .
(7)
اقتبسه من قوله تعالى: «مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ» .
(8)
أى يحفظ عرضه من النقد.
(9)
فى الأصل «جبرانه» والذى فى كتب اللغة: «جبر العظم والفقير واليتيم كنصر جبرا بالفتح وجبورا بالضم، وجبارة بالكسر» .
(10)
أخذه من قوله تعالى: «وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ» .