الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
275 - رسالة سهل بن هرون فى البخل
وهذه رسالة سهل (1) بن هرون بن راهبون إلى بنى عمه من آل راهبون، حين ذمّوا مذهبه فى البخل، وتتبّعوا كلامه فى الكتب:
«بسم الله الرحمن الرحيم: أصلح الله أمركم، وجمع شملكم، وعلمكم الخير، وجعلكم من أهله، قال الأحنف بن قيس: «يا معشر بنى تميم لا تسرعوا إلى الفتنة، فإن أسرع الناس إلى القتال أقلّهم حياء من الفرار» وقد كانوا يقولون: «إذا أردت أن ترى العيوب جمّة فتأمّل عيّابا، فإنه إنما يعيب الناس بفضل ما فيه من العيب» ، وأوّل العيب (2) أن تعيب ما ليس بعيب، وقبيح أن تنهى مرشدا، وأن تغرى بمشفق، وما أردنا بما قلنا إلّا هدايتكم وتقويكم، وإلّا إصلاح فسادكم وإبقاء النعمة
(1) هو سهل بن هرون بن «راهبون» كما جاء فى كتاب البخلاء وسرح العيون، وفى حياة الحيوان للدميرى «راهويه» وفى الفهرست لابن النديم «رامنوى الدستميسانى» فارسى الأصل من أهل نيسابور ثم انتقل إلى البصرة، وكان شعوبيا- والشعوبية بضم الشين: فرقة تبغض العرب وتحتقرها وتتعصب للفرس عليها، اقرإ البيان والتبيين 3: 5 والعقد الفريد 2: 70 - وكان أول أمره خاصا بالفضل ابن سهل، فقدمه إلى المأمون، فأعجب ببلاغته وعقله، وجعله صاحب بيت الحكمة. وكان حكيما شاعرا فصيحا، إلا أنه كان نهاية فى البخل، وله فيه حكايات عجيبة. من ذلك ما حكاه دعبل الخزاعى، قال:
كنا عنده يوما فأطلنا العقود حتى كاد يموت جوعا، ثم قال: ويحك يا غلام غدّنا، فأتاه بصحفة فيها مرق تحته ديك هرم لا تحز فيه السكين ولا يؤثر فيه الضرس، فتأمله ثم قال: أين الرأس يا غلام؟ قال: رميت به، قال: ولم؟ قال: لم أظنك تأكله ولا تسأل عنه، قال: ولم ظننت ذلك؟ إنى والله لأمقت من يرمى برجله، فكيف من يرمى برأسه! ولو لم يكن فيما فعلت إلا الطيرة والفأل لكرهته، أما علمت أن الرأس رئيس الأعضاء، وفيه الحواس الخمس، ومنه يصيح الديك، ولولا صوته ما أريد، وفيه عرفه الذى يتبرك به وعينه التى يضرب بها المثل فى الصفاء، فيقال: شراب كعين الديك، ودماغه عجيب لوجع الكايتين، ولم يرقط عظم أهش تحت الأسنان منه. وهب أنك ظننت أنى لا آكله، أو ليس العيال كانوا يأكلونه؟
فإن كان قد بلغ من جهلك أن لا تأكله فعندنا من يأكله، أما علمت أنه خير من طرف الجناح، ومن رأس العنق؟ انظر إلى أين هو؟ فقال والله ما أدرى أين هو، ولا أين رميت به، فقال: لكنى والله أدرى، إنك رميته فى بطنك قاتلك الله، - انظر أخباره فى سرح العيون ص 165 والفهرست لابن النديم ص 174 وص 182 والعقد الفريد 3: 265 وزهر الآداب 2: 201 وحياة الحيوان للدميرى 1: 513.
(2)
وفى العقد الفريد «ومن أعيب العيب» .
عليكم، ولئن أخطأنا سبيل إرشادكم فما أخطأنا سبيل حسن النيّة فيما بيننا وبينكم، ثم قد تعلمون أنّا ما أوصيناكم إلا بما قد اخترناه لأنفسنا قبلكم (1)، وشهرنا به فى الآفاق دونكم، ثم نقول فى ذلك ما قال العبد الصالح لقومه:«وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ، وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ» ، فما كان أحقّكم فى تقديم حرمتنا بكم (2)، أن ترعوا حقّ قصدنا بذلك إليكم، وتنبيهنا على ما أغفلنا من واجب حقكم، فلا العذر المبسوط بلغتم، ولا بواجب الحرمة قمتم، ولو كان ذكر العيوب برّا وفضلا (3) لرأينا أن فى أنفسنا عن ذلك شغلا.
وإن من أعظم الشّقوة، وأبعد من السعادة، ألّا يزال يتذكر زلل المعلّمين، ويتناسى سوء استماع المتعلمين، ويستعظم غلظ العاذلين، ولا يحفل بتعمّد المعذولين.
عبتمونى بقولى لخادمى (4) أجيدى عجنه خميرا كما أحدته فطيرا (5)، ليكون أطيب لطعمه، وأزيد فى ريعه. وقد قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه ورحمه لأهله:
«املكوا العجين فإنه أريع للطّحين (6)» .
وعبتم علىّ قولى: من لم يعرف مواقع السّرف فى الموجود الرخيص، لم يعرف مواقع الاقتصاد فى الممتنع الغالى، فلقد أوتيت من ماء الوضوء بمكيلة (7) يدل حجمها
(1) وفيه «إلا بما اخترناه لكم ولأنفسنا قبلكم» .
(2)
وفيه «فما كان أحقنا منكم فى حرمتنا بكم أن ترعوا حق قصدنا بذلك إليكم على ما رعيناه من واجب حقكم» .
(3)
وفيه «ولو كان ذكر العيوب يراد به فخر» .
(4)
هو خادم وهى خادم وخادمة.
(5)
الفطير: ضد الخمير، وهو العجين الذى لم يختمر، وفى العقد «أجيدى العحين فهو أطيب لطعمه وأزيد فى ريعه. والربع: النماء والزيادة.
(6)
ملك العجين كضرب وأملكه وملكه: أنعم عجنه، وفى العقد «املكوا العجين فإنه أحد الريعين» .
(7)
المكيلة ما كيل به، وفى الأصل «بكيلة» وهو تحريف، والكيلة بالكسر: اسم من الكيل.
على مبلغ الكفاية، وأشدّ من الكفاية، فلما صرت إلى تفريق أجزائه على الأعضاء، وإلى التوفير عليها من وظيفة (1) الماء، وجدت فى الأعضاء فضلا على الماء، فعلمت أن لو كنت سلكت الاقتصاد فى أوائله، ورغبت عن التهاون به فى ابتدائه، لخرج آخره على كفاية أوّله، ولكان نصيب العضو الأوّل كنصيب الآخر، فعبتمونى بذلك، وشنّعتموه بجهدكم وقبّحتموه، وقد قال الحسن (2) عند ذكر السّرف «أما إنّه ليكون فى الماعونين (3): الماء والكلأ» فلم يرض بذكر الماء حتى أردفه بالكلأ.
وعبتمونى حين ختمت على سدّ (4) عظيم، وفيه شىء ثمين من فاكهة نفيسة، ومن رطبة (5) غريبة، على عبد نهم، وصبىّ جشع، وأمة لكعاء، وزوجة خرفاء (6)، وليس من أصل الأدب ولا فى ترتيب الحكم، ولا فى عادات (7) القادة، ولا فى تدبير السّادة، أن يستوى فى نفيس المأكول، وغريب المشروب، وثمين الملبوس، وخطير (8) المركوب، والناعم من كل فن، واللّباب (9) من كل شكل، التابع والمتبوع، والسيّد والمسود، كما لا تستوى مواضعهم فى المجالس، ومواقع أسمائهم فى العنوانات وما يستقبلون به من التحيّات، وكيف وهم لا يفقدون من ذلك ما يفقد القادر، ولا يكترثون له اكتراث العارف؟ ومن شاء أطعم كلبه الدجاج المسمّن، وعلف
(1) الوظيفة: ما يقدر لك من طعام أو رزق ونحوه، ومعناها هنا: المقدر من الماء، وفى العقد «وضيعة» وهو تحريف.
(2)
أى الحسن البصرى.
(3)
الماعون: كل ما انتفعت به.
(4)
السد: سلة من قضبان، والجمع سداد ككتاب وسدد كعنق.
(5)
أى تمر مرطب، ويصح أن يكون «ومن رطبة» بفتح فسكون: أى ومن فاكهة رطبة طرية وفى العقد «من فاكهة رطبة نقية، ومن رطبة غريبة» .
(6)
نهم: شره، وجشع: شديد الحرص شرة أيضا، ولكعاء: نئيمة، وخرقاء: حمقاء، وفى العقد «وزوجة مضيعة» .
(7)
وفى العقد «عدالة» .
(8)
أى عظيم.
(9)
لب كل شىء ولبابه: خالصه وخياره.
حماره السّمسم المقشّر، فعبتمونى بالختم، وقد ختم بعض الائمة على مزود (1) سويق، وختم على كيس فارغ، وقال:«طينة (2) خير من طيّة» فأمسكتم عمن ختم على لا شىء، وعبتم من ختم على شىء».
وعبتمونى حين قلت للغلام إذا زدت فى المرق فزد فى الإنضاج، ليجتمع مع التأدّم باللحم طيب المرق، وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم:«إذا طبختم لحما فزيدوا فى الماء، فإن لم يصب أحدكم لحما أصاب مرقا» .
وعبتمونى بخصف (3) النّعال، وبتصدير القميص، وحين زعمت أنّ المخصوفة من النعل أبقى وأوطأ وأقوى وأنفى للكبر، وأشبه بالنّسك، وأن الترقيع من الحزم، وأن الاجتماع مع الحفظ، وأن التفرق مع التضييع (4)، وقد كان النبى صلى الله عليه وسلم بخصف نعله، ويرقع ثوبه، ويلعق أصابعه، ويقول:«لو أتيت بذراع لأكلت (5)، ولو دعيت إلى كراع (6) لأجبت» ولقد لفقت (7) سعدى بنت عوف إزار طلحة (8)
(1) المزود: وعاء الزاد، والسويق: طعام يعمل من الحنطة والشعير.
(2)
طانه: ختمه بالطين.
(3)
خصف النعل كرقع الثوب، ويقال: صدر كتابه إذا جعل له صدرا، وهو مصدر: أى قوى الصدر، والمراد بتصدير القميص: تقوية صدره برقعة أو ببطانة، وأوطأ: ألين.
(4)
وفى العقد «والتفريط من التضييع» .
(5)
وفيه «لو أهدى إلى ذراع لقبلت» .
(6)
الكراع من البقر والغنم: بمنزلة الوظيف من الفرس، وهو مستدق الساق.
(7)
لفق الثوب كضرب: ضم شقة إلى أخرى فخاطهما.
(8)
هو طلحة بن عبيد الله التيمى القرشى ابن عم أبى بكر الصديق، خرج مع الزبير وعائشة إلى البصرة للطلب بدم عثمان وقتل يوم الجمل سنة 36، وقد قدمنا لك خبره فى الجزء الأول، وكان من أجواد العرب، وعنه أنه قال سمانى النبى صلى الله عليه وسلم يوم أحد: طلحة الخير، ويوم غزوة ذات العشيرة:
طلحة الفياض، ويوم حنين طلحة الجود، وقال فيه عمرو بن العاص حين بلغه مقتل عثمان: من يلى هذا الأمر من بعده؟ إن يله طلحة فهو فتى العرب سيبا (أى عطاء) وحكى عنه أنه فرق فى يوم واحد مائة ألف درهم وقال قبيصة بن حاتم: صحبت طلحة بن عبيد الله فما رأيت أعطى لجزيل من غير مسألة منه.
واستتماما للفائدة تقول: هو أحد مشهورى الطلحات الذين يضرب بهم المثل فى الجود، وكانوا ستة ويسمى هذا طلحة الفياض، وطلحة بن عمر بن عبيد الله بن معمر التيمى أيضا، ويسمى طلحة الجود، وطلحة بن عبد الله بن عوف أخى عبد الرحمن بن عوف الزهرى، ويسمى طلحة الندى، وطلحة بن الحسن ابن على بن أبى طالب رضى الله عنه، ويسمى طلحة الخير، وطلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبى بكر-
وهو جواد قريش، وهو طلحة الفيّاض، وكان فى ثوب عمر رقاع أدم، وقال (1):
«من لم يستحى من الحلال خفّت مؤنته وقلّ كبره. وقالت الحكماء: لا جديد لمن لا يلبس الخلق» وبعث زياد رجلا يرتاد له (2) محدّثا، واشترط على الرائد أن يكون عاقلا مسدّدا، فأتاه به موافقا، فقال: أكنت ذا معرفة به؟ قال: لا ولا رأيته قبل ساعته، قال: أفناقلته (3) الكلام، وفاتحته الأمور قبل أن توصله إلىّ؟ قال: لا، قال: فلم اخترته على جميع من رأيته؟ قال: يومنا يوم قائظ (4)، ولم أزل أتعرّف عقول الناس بطعامهم ولباسهم فى مثل هذا اليوم، ورأيت ثياب الناس جددا، وثيابه لبسا (5)، فظننت به الحزم (6). وقد علمنا أن الجديد فى موضعه دون الخلق (7)، وقد جعل الله عز وجل لكل شىء قدرا، وبوّأ له موضعا، كما جعل لكل دهر رجالا، ولكل مقام مقالا، وقد أحيا الله بالسّم، وأمات بالغذاء، وأغصّ بالماء، وقتل بالدواء، فترقيع الثوب يجمع مع الإصلاح التواضع، وخلاف ذلك يجمع مع الإسراف التكبّر، وقد زعموا أن الإصلاح أحد الكسبين، كما زعموا أن قلّة العيال أحد اليسارين،
- الصديق، ويسمى طلحة الدراهم، وطلحة بن عبد الله بن خلف الخزاعى البصرى، ويسمى طلحة الطلحات، سمى بذلك لأنه كان أجودهم، وقيل: لأنه وهب فى عام واحد ألف جارية، فكانت كل جارية منهن إذا ولدت غلاما تسميه طلحة على اسم سيدها، وقيل سمى بذلك بسبب أمه، وهى صفية بنت الحرث بن طلحة بن أبى طلحة، وأخوها أيضا طلحة بن الحرث، فقد تكنفه هؤلاء الطلحات كما ترى، وقد شهد الجمل مع عائشة، ومات بسجستان سنة 63، وفيه يقول عبد الله بن قيس الرقيات:
نضر الله أعظما دفنوها
…
بسجستان طلحة الطلحات
انظر أسد الغابة 3: 59 وخلاصة تذهيب الكمال فى أسماء الرجال ص 152 وتاريخ الطبرى 5: 234، وغرر الخصائص الواضحة ص 245، وخزانة الأدب للبغدادى 3: 394، ولسان العرب 3: 363، ومعجم البلدان 5: 39، والعقد الفريد 1:89.
(1)
وفى العقد «وقال عليه الصلاة والسلام. «من لم يشبع من الحلال
…
».
(2)
يرتاد: يطلب.
(3)
المناقلة فى المنطق أن تحدثه ويحدثك.
(4)
قاظ يومنا: اشتد حره.
(5)
جمع لبيس: وهو الثوب قد أكثر لبسه فأخلق.
(6)
(7)
وقد جبر الأحنف يدعنز وأمر بذلك النعمان (1)، وقال عمر:«من أكل بيضة فقد أكل دجاجة» ، ولبس سالم (2) بن عبد الله جلد أضحية، وقال رجل لبعض السادة: أريد أن أهدى إليك دجاجة، فقال: إن كان لا بدّ فاجعلها بيوضا، وعدّ أبو الدّرداء العراق (3) جزر البهيمة.
وعبتمونى حين قلت: لا يغترّنّ أحدكم بطول عمره، وتقوّس ظهره، ورقّة عظمه، وهن قوّته، وأن يرى نحوه أكثر ذريته فيدعوه ذلك إلى إخراج ماله من يديه، وتحويله إلى ملك غيره، وإلى تحكيم السّرف فيه، وتسليط الشهوات عليه، فلعلّه أن يكون معمّرا، وهو لا يدرى، وممدودا له فى السّنّ وهو لا يشعر، ولعلّه أن يرزق الولد على اليأس، أو يحدث عليه بعض مخبّآت الدهور، مما لا يخطر على البال ولا تدركه العقول، فيستردّه ممن لا يردّه، ويظهر الشكوى إلى من لا يرحمه، أضعف ما كان عن الطلب، وأقبح ما يكون، به الكسب (4)، فعبتمونى بذلك، وقد قال عمرو بن العاص:«اعمل لدنياك عمل من يعيش أبدا، واعمل لآخرتك عمل من يموت غدا» .
وعبتمونى حين زعمت أن السرف والتبذير: إلى مال القمار، ومال الميراث، وإلى مال الالتقاط، وحباء (5) الملوك، أسرع، وأن الحفظ إلى المال المكتسب، والغنى المجتلب، وإلى ما لا يعرض فيه لذهاب الدين، واهتضام العرض، ونصب البدن واهتمام القلب، أسرع، وإن من لم يحسب ذهاب نفقته لم يحسب دخله، ومن لم
(1) أى أبو حنيفة النعمان بن ثابت، وفى العقد «وأمر مالك بن أنس بفرك النعل» .
(2)
هو سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب.
(3)
قدمنا كلمة عن أبى الدرداء فى الجزء الأول، والعراق كعراب: العظام إذا جردت من اللحم، والجزر بالتحريك: الشياه السمينة، الواحدة جزرة.
(4)
وفى العقد «أصعب ما كان عليه الطلب، وأقبح ما كان به أن يطلب» .
(5)
الحباء: العطاء.
يحسب الدّخل فقد أضاع الأصل، وإن من لم يعرف للغنى قدره، فقد أوذن بالفقر، وطاب نفسا بالذّل.
وعبتمونى بأن قلت: إن كسب الحلال يضمن الإنفاق فى الحلال. وإن الخبيث ينزع إلى الخبيث، وإن الطيّب يدعو إلى الطيب، وإن الإنفاق فى الهوى حجاب دون الحقوق، وإن الإنفاق فى الحقوق حجاب دون الهوى (1)، فعبتم علىّ هذا القول، وقد قال معاوية:«لم أر تبذيرا قطّ إلا وإلى جانبه حقّ مضيّع» وقد قال الحسن:
وقلت لكم: بالشفقة منى عليكم، وبحسن النظر منى لكم، وبحفظكم لآبائكم، ولما يجب فى جواركم، وفى ممالحتكم (2)، وملابستكم، وأنتم فى دار الآفات، والجوائح (3) غير مأمونات، فإن أحاطت بمال أحدكم آفة لم يرجع إلى بقيّة، فأحرزوا (4) النعمة باختلاف الأمكنة، فإن البليّة لا تجرى فى الجميع إلا بموت الجميع، وقد قال عمر رضى الله عنه فى العبد والأمة والشاة والبعير، وفى الشىء الحقير اليسير:
«فرّقوا بين المنايا، واجعلوا الرأس رأسين (5)» وقال ابن سيرين (6) لبعض البحريين:
كيف تصنعون بأموالكم؟ قالوا: نفرّقها فى السفن، فإن عطب بعض سلم بعض،
(1) وفى العقد «وإن الإنفاق فى الهوى حجاب دون الهوى» وعليه فكلمة الهوى الثانية محرفة وصوابها «الهدى» .
(2)
الممالحة: المواكلة.
(3)
الجوائح جمع جاثحة، وهى الشدة المهلكة.
(4)
أى حصنوها.
(5)
أى فرقوا غنمكم فى أماكن مختلفة حتى إذا اخترمت المنية بعضها لسبب ما كان الباقى بمعزل ومنجاة، أو معناه اعملوا على تنميتها حتى يتضاعف عددها.
(6)
هو محمد بن سيرين أحد فقهاء أهل البصرة، وكان معروفا بالورع، وهو صاحب الحسن البصرى، وتوفى سنة 110 هـ.
ولولا أن السلامة أكثر لما حملنا خزائننا فى البحر، قال ابن سيرين: تحسبها خرقاء وهى صناع (1).
وعبتمونى بأن قلت لكم عند إشفاقى عليكم: إن للغنى لسكرا، وإن للمال لنزوة (2)، فمن لم يحفظ الغنى من سكر الغنى فقد أضاعه، ومن لم يرتبط المال بخوف الفقر فقد أهمله، فعبتمونى بذلك، وقد قال زيد بن جبلة: ليس أحد أقصر عقلا من غنىّ أمن الفقر، وسكر الغنى أشدّ من سكر الخمر، وقلتم: قد لزم الحثّ على الحقوق، والتزهيد فى الفضول، حتى صار يستعمل ذلك فى أشعاره بعد رسائله، وفى خطبه بعد سائر كلامه، وقد قال الشاعر فى يحيى بن خالد بن برمك:
عدوّ تلاد المال فيما ينوبه
…
منوع إذا ما منعه كان أحزما (3)
وقال فى محمد بن زياد:
وخليقتان: تقى وفضل تحرّم
…
وإهانة فى حقّه للمال
وعبتمونى حين زعمت أنى أقدّم المال على العلم، لأن المال به يفاد العلم (4)، وبه تقوم النفوس قبل أن تعرف فضل العلم، فهو أصل، والأصل أحقّ بالتفضيل من الفرع، وأنى قلت: إن كنا نستبين الأمور بالنفوس، فإنا بالكفاية نستبين، وبالخلّة نعمى (5)، وقلتم كيف تقول هذا؟ وقد قيل لرئيس الحكماء، ومقدّم الأدباء: العلماء أفضل أم الأغنياء؟ قال: بل العلماء، قيل: فما بال العلماء يأتون باب الأغنياء أكثر مما يأتى الأغنياء أبواب العلماء؟ قال: لمعرفة العلماء بفضل الغنى، ولجهل
(1) خرقاء: وصف من الخرق بالتحريك، وهو أن لا يحسن المرء العمل والتصرف فى الأمور، وامرأة صناع حاذقة بالعمل ماهرة ويقال أيضا امرأة صناع اليدين: أى حاذقة ماهرة بعمل اليدين، وهو مثل يضرب لمن تظن به الغفلة وهو فظن يقظ.
(2)
النزوة: الوثبة والثورة.
(3)
وفى العقد «وهو تلاد المال
…
» والتلاد: المال القديم الذى ولد عندك.
(4)
وفى البخلاء «به يغاث العالم» .
(5)
الخلة: الفقر، ونعمى: فضل.
الأغنياء بفضل العلم، فقلت: حالهما هى القاضية بينهما، وكيف يستوى شىء ترى حاجة الجميع إليه، وشىء يغنى بعضهم فيه عن بعض؟
وعبتمونى حين قلت: إن فضل الغنى على القوت إنما هو كفضل الآلة تكون فى الدار: إن احتيج إليها استعملت، وإن استغنى عنها كانت عدّة، وقد قال الحضين (1) بن المنذر: وددت أنّ لى مثل أحد (2) ذهبا لا أنتفع منه بشىء، قيل:
فما ينفعك من ذلك؟ قال: لكثرة من كان يخدمنى عليه، لأن المال مخدوم، وقد قال بعض الحكماء:«عليك بطلب الغنى فلو لم يكن لك فيه إلّا أنه عزّ فى قلبك، وذلّ فى قلب عدوّك، لكان الحظّ فيه جسيما، والنفع فيه عظيما» ولسنا ندع سيرة الأنبياء، وتعليم الخلفاء، وتأديب الحكماء، لأصحاب الأهواء (3). كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر الأغنياء باتخاذ الغنم، والفقراء باتخاذ الدّجاج، وقال «درهمك لمعاشك، ودينك لمعادك» فقسّموا الأمور كلها على الدين والدنيا، ثم جعلوا أحد قسمى الجميع الدرهم.
وقال أبو بكر الصديق رضى الله عنه: «إنى لأبغض أهل بيت ينفقون نفقة الأيام فى اليوم الواحد» وكانوا يبغضون أهل البيت اللّحمين (4)، وكان هشام (5) يقول:
«ضع الدرهم على الدّرهم يكون مالا» ونهى أبو الأسود الدّؤلى (6) وكان حكيما أديبا، وداهيا أريبا (7) عن جودكم هذا المولّد، وعن كرمكم هذا المستحدث، فقال لابنه:
«إذا بسط الله لك فى الرزق فابسط، وإذا قبض فاقبض، ولا تجاود (8) الله فإن الله
(1) بالضاد المعجمة، وهو صاحب راية الإمام على كرم الله وجهه بصفين، وفيه يقول الإمام:
لمن راية حمراء يخفق ظلها
…
إذا قلت قدمها حضين تقدما
فيوردها فى الصف حتى يزيرها
…
حياض المنايا تقطر الموت والدما
انظر العمدة لابن رشيق 1: 14، ولسان العرب 16:280.
(2)
أحد: جبل بالمدينة.
(3)
وفى العقد «لأصحاب اللهو» .
(4)
اللحم ككتف: الأكول اللحم القرم إليه.
(5)
هو هشام بن عبد الملك، وكان معروفا بالبخل.
(6)
وكان معروفا بالبخل أيضا.
(7)
أى عاقلا.
(8)
أى لا تغالبه ولا تباره فى الجود.