الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
221 - رسالة الشكر لأحمد بن يوسف
ولما قتل الفضل (1) بن سهل (سنة 202)، استوزر المأمون بعده أخاه الحسن (2) ابن سهل جبرا لمصابه بقتل أخيه، فأمر الحسن أحمد بن يوسف فكتب عن لسانه رسالة يشكر فيها للمأمون صنعه، وهى:
«أما بعد، فالحمد لله القاهر القادر الخالق الرازق، فاطر السموات والأرض، الذى أحاط بكل شىء علما، ونطق به خبرا، وأتقنه حكمة وعلما، وألّف بين مختلفه ومتّفقه، ليدلّ بقوام بعضه على بعض على اتّصال تدبير مشيئته ومبتدعه، وأنه أحد صمد (3)، لا ضدّ له ولا ندّ، إذ قدّر له حاجته، ثم شدّها ببلاغها إلى الغاية التى جعلها، فقال الله
(1) وذلك أنه لما ثارت الفتنة ببغداد كما قدمنا، كتم الفضل بن سهل عن المأمون أخبارها مدة، وكان متى علم أن أحدا قد دخل عليه أو أعلمه بخبر سعى فى مكروهه وعاقبه، فامتنع الناس من كلام المأمون، وانطوت عنه الأخبار، فدخل عليه على بن موسى الرضى وقال له: يا أمير المؤمنين، إن الناس ببغداد قد أنكروا عليك مبايعتى بولاية العهد وتغيير لباس السواد، وقد خلعوك وبايعوا عمك إبراهيم ابن المهدى، وأحضر إليه جماعة من القواد ليخبروه بذلك، فلما سألهم المأمون أمسكوا، وقالوا: نخاف من الفضل، فإن أمنتنا شره أخبرناك، فأمنهم وكتب لهم خطه، فأخبروه بحقيقة الحال وعرفوه خيانة الفضل وتعميته الأمور عليه، وستره الأخبار عنه وقالوا له الرأى أن تسير بنفسك إلى بغداد، وتستدرك أمرك، وإلا خرجت الخلافة من يدك، فشخص من مرو إلى العراق، فلما كان بسرخس دس على الفضل جماعة فقتلوه فى الحمام، ثم أخذهم وقدمهم ليضرب أعناقهم، فقالوا له: أنت أمرتنا بذلك ثم تقتلنا! فقال لهم: أنا أقتلكم بإقراركم، وأما ما ادعيتموه على فدعوى ليس لها بينة، ثم ضرب أعناقهم وحمل رءوسهم إلى أخيه الحسن بن سهل بواسط وكتب يعزيه ويوليه مكانه. وتزوج ابنته بوران بنت الحسن، ودس إلى على بن موسى سما فى عنب- وكان يحب العنب- فأكل منه واستكثر فمات من ساعته، وكتب إلى بنى العباس ببغداد يقول لهم: إن الذى أنكرتموه من أمر على بن موسى قد زال، وإن الرجل قد مات، فأجابوه أغلظ جواب، وجد المأمون فى المسير إلى بغداد فبلغها، وقد هرب إبراهيم بن المهدى والفضل ابن الربيع، فلما دخل المدينة (سنة 204) تلقاه العباسيون وكلموه فى ترك لباس الخضرة والعود إلى السواد، فأجاب إلى ذلك وأمر الناس بالعود إلى لباس السواد، ثم إنه عفا عن عمه إبراهيم وأحسن إليه وكذلك فعل مع الفضل بن الربيع.
(2)
توفى الحسن سنة 236 - انظر ترجمته فى وفيات الأعيان 1: 141 والفخرى ص 203 وتاريخ بغداد للخطيب البغدادى 7: 319.
(3)
الصمد: السيد الذى يقصد فى قضاء الحوائج.
عز وجل «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ» وحكى عن نجيّه موسى عليه السلام: «قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى» وقال الله تعالى: «وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا» ثم لم يكلّف العباد من شكره كفاء نعمته، بل رضى منهم باليسير، وقبل منهم العفو، وجعل طاعتهم إياه عائدة عليهم بجزيل الحظّ فى دينهم ودنياهم لغناه عن عبادتهم، واتّساع قدرته بالتطوّل عليهم، مفتتحا وخاتما، وبادئا وعائدا.
والحمد لله الذى اصطفى محمدا صلى الله عليه وسلم، نبيّا لرسالته، وأتمنه على وحيه، وأنزل عليه كتابه العزيز، الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. فأدّى إلى خلقه الرسالة، واستنقذهم من الضلالة، وصدع بأمر ربّه، وجاهد فى سبيله، ونصح لأمته، حتى أتاه اليقين من ربّه، بعد استنارة الحقّ، وظهور الحجّة، فصلّى الله عليه بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، قد تلافى من الهلسكة، وجمع الألفة بعد الفرقة، وأوضح الهدى بعد الدّروس (1)، ومعالم الرّشد بعد الطّموس، وكان بالمؤمنين رحيما.
والحمد لله الذى قفّى على آثار المرسلين، والأئمة الراشدين، الهادى التقىّ، الطاهر الزّكىّ، الإمام المأمون أمير المؤمنين- أعزّ الله نصره- فسدّ ثلمتهم، ورأب صدعهم (2)، وقلّده خلافتهم، وجعله لكافّة المسلمين غياثا ورحمة، وجعل ما ألهمه من العدل والإحسان إليهم، منّة عليه ورحمة ذخرها له دون الخلفاء قبله، فيما أظهر من فضل زمانه على الأزمنة، وسياسة من تقدّمه، ومنح الرعية من عطفه ونظره ما لا يحمل عنهم أوبه (3)، ولا يؤدّى عنهم شكره، إلا هو لا شريك له، وأحسن الله جزاء أمير المؤمنين ومثوبته، على صلة رحم رسول الله صلى الله عليه وسلم التى هى
(1) الدروس: الامحاء.
(2)
الصدع: الشق، ورأبه كمنعه: أصلحه.
(3)
أى ترجيعه وترديده.
رحمه وقرابته، واختياره لولاية عهده الأمير الرضىّ علىّ بن موسى- حفظه الله- حين أحمد سيرته (1)، ورضى محبّته، وعرف استقلاله (2) بما قلّده فى هديه ودينه، ووفاءه بما أكّد الله به عليه من عهد أمير المؤمنين- أيّده الله- فى اعتيامه (3) من آزره وآساه مما شفع رأيه، وأنفذ تدبيره حين همّ لاستصلاح ما استرعاه الله من أمور عباده، لمّا انتضى (4) القائم بدعوته، ورئيس شريعته، الأمير ذا الرياستين- رحمه الله فاتّخذه مكانفا ظهيرا ووزيرا دون من سواه، فاتّبع منهاج أمير المؤمنين- أيده الله- وسار بسيرته شرقا وغربا، وغورا ونجدا، موفيا بعهده، قائما بدعوته، مقتفيا لأثره وسنّته، فحسم الله به الأدواء، وقمع به الأعداء: من عتاة الأمم، وطواغيت (5) الشّرك، وأبار (6) على يده أهل الشقاق والنفاق، فى كل أفق وطرف، بجدّ أمير المؤمنين- أعزّه الله- وبركة سياسته ودولته، ونجح سعى من قام بنصرة من قام بحقه وأنار برهانه، حتى توفّاه الله عز وجل، حين بلغ همّته وغايته، وحمّ (7) أجله وانقطعت مدّته، سعيدا حميدا، شهيدا فقيدا، عند إمامه- أكرمه الله- وعند الخاصّة والعامة.
وكان من إجلال أمير المؤمنين الحادث الذى نزل به، فأحيا آثاره، بوصف محاسنه فى مشاهده ومجامعه، وترّحمه عليه عند ذكره، وحفظه فى لحمته (8) وأهل حرمته، وفيمن كان بحمد الله على طاعته ونصيحته، ما أتمّ به نعمته عندنا وعندكم معشر الشيعة، فقد أصبح أمره بكم متّصلا، وموقعه من جماعتكم [متمكّنا]، يقبضكم ما قبضه، ويبسطكم ما بسطه من لوعة المصيبة، وحسن العقبى، وقد علمتم-
(1) أحمد أمره: صار عنده محمودا.
(2)
أى نهوضه.
(3)
اعتام الشىء: اختاره.
(4)
من انتضى السيف: إذا استله، وربما كان «انتقى» .
(5)
الطواغيت جمع طاغوت: وهو كل رأس ضلال.
(6)
أباره: أهلكه.
(7)
حم: قدر.
(8)
اللحمة: القرابة.
معشر أهل الحجا والنّهى والطاعة لله عز وجل وخليفته، وذوى الغناء (1) والبلاء فى دعوته، من أهل خراسان وغيرهم ممن حضر، ممن امتحن الله قلبه بوفاء العهد، والاستبصار فى حق أمير المؤمنين أبقاه الله، والمجاهدة دونه، والصبر على مواطن الصدق والّلأواء (2)، والذبّ عن البيضة والحريم، والمتحمّلين للنّصب والمصائب التى انجلت حتى كأن لم تكن، وبقى أجرها على الله عز وجل، ومحمود ذكرها شائعا فى الناس- أنّ نعم الله قد جلّت ولطفت، وخصّت وعمّت، وعلت وسمقت (3)، وتمّت ودامت، حتى قصّرنا عن موازينها، والإحاطة بأدائها، فإذا لم يكن لنا معشر إخواننا سبب إلى مكافأة بلائه بالعمل، فنحن جدراء أن نجتهد فى القول، ونطنب فى الوصف إن شاء الله جل وعز، ففد جعل ذكر النّعم من أسباب الشكر.
وقد جدّد لنا أمير المؤمنين- أيّده الله- من الحباء (4) والكرامة وجزيل الحيطة وسنىّ الرّتبة التى قرئ بها عليكم كتابه، ما يستغرق جهدنا، ويستفرغ وسعنا، فنرغب إلى الله عز وجل ولىّ الرغبة، ومؤتى السّؤل والطّلبة، فى إعانتنا على تأدية ما وجب له، فيما منحنا من فوائده ونحله (5)، ثم نسترفدكم (6) ونستعينكم على شكره، وإمدادنا بما بلغته طاقتكم فى السعى له، فقد آدنا (7) ثقل ما حمّلنا، وثقل ما طوّقنا، وعظمت فاقتنا إلى استعمال القوىّ من الأنفس والحامّة (8)، والخاصّة والعامّة، فى جزاء ما جلّل (9) أمير المؤمنين فينا من سننه، وشملنا من تالد أياديه وطارفها (10)، وقديمها
(1) الغناء: الكفاية.
(2)
اللأواء: الشدة.
(3)
سمق كنصر سموقا: علا وطال.
(4)
العطاء بلا من، أو عام.
(5)
النحل جمع نحلة بالكسر. وهى العطية.
(6)
استرفده استعانه.
(7)
آده الأمر يئوده: بلغ منه المجهود.
(8)
الحامة: خاصة الرجل من أهله وولده.
(9)
جلله: غطاه.
(10)
أى من قديمها وحديثها.
وحديثها، وكيف يوجد إلى موازاة أمير المؤمنين سبيل ببذل جهد، أو بلوغ حشد، فإنما نقتدى بهداه، ونعشو (1) بنوره فى ديننا، وليس عجزنا عن أن نجزى حقّه (2)، بواضع عنا مؤنة الدءوب فى التحرّى لتأديته، فإن الله عز وجل قد أخبر بفضائل الشكر ومناقبه، وجعله من أسمائه «وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ» وقد قال تعالى «ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً» وقال تعالى:«إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ» ولولا أنّ الله عز وجل رضيه لنفسه لأجللناه عن التسمية، إذ كان أكثر ما نستعمله ونعرفه فى مكافأة من منّ وتطوّل، ثم ثنّى بذكر فضله فى العباد، فإن الله تبارك وتعالى افتتح أول ما علّم خلقه بالحمد، وجعله بدء كتابه وخاتمة دعوة أهل جنّته، فقال عز وجل:«وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» وخلق الله السموات والأرض ومن برأ وذرأ فى الحياة ليبلو عباده بشكره، وأعدّ الجنة فى الآخرة لمن شكره، والنار لمن كفره، وقال الله تعالى:«وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ» ، وقال الله تعالى «وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» ، فجعل التّقوى واقعة (3)، والشكر مرجوّا، ليدلّ على ارتفاع رتبته، وعلوّ درجته عنده، وقال لنجيّه موسى عليه السلام:«إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ» فلم يكلّفه إلا أخذ ما أعطاه، والشكر على ما آتاه، وأخبر بعزّته فى العباد فقال تعالى:«وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ» .
(1) عشا النار وإليها: رآها ليلا من بعيد فقصدها مستضيئا، كاعتشاها، وبها.
(2)
فى الأصل «وليس علينا بأنا لن نجزى حقه» .
(3)
أى واجبة.
فأيّة نعمة أجلّ قدرا، وأسنى أمرا- معشر الشيعة- من نعمة أمير المؤمنين- أيّده الله- عند الأمير ذى الرياستين، ومراتبه التى رتّبه بها، فإنه أعطاه رياسة الحرب ورياسة التدبير، وعقد له على رأسهما علما فى راية دعوته، وقلّده سيفهما، وختّمه بخاتم الخلافة وخاتم الدولة، وجعل صلاته بين صاحب حرسه وصاحب شرطته، ومسيره بين أمير المؤمنين وبينهما أمامه وخلفه- وصيّر له الجلوس على الكرسى بحضرته فى صدر كل مجلس جلسه- إلا أن يؤثر به من أحبّ من أبناء الخلفاء- وقدّمه فى دخول داره (1) راكبا إلى أقصى مكان ينتهى إليه أحد من بنى هاشم، لأنه منهم، وأعظمهم غناء عنهم، فسمّاه صاحب دعوته، وسيفه على عدوه، وبابه الذى يدخل إليه منه، وولّاه خيوله فى أقطار الأرض، ومقدّمته بحضرته، وقلّده من الثغور ما قد علمتم، بما أفرده فى عهده، إلى ما أنفذه من أمره، فى جميع سلطانه وملكه، من مشارق الأرض ومغاربها، وأين يأتى الوصف على ما فضّله به وقدّمه وشرّفه على الناس كافّة؟ ولكنا نخطر بذكره ثم نكل السامعين إلى ما يرجعون إليه من المعرفة التى لا تبلغها الصّفة.
ثم لم يكن ما أكرمه به فى حياته، بأعلى مما أكرمه به فى وفاته: تولّى غسله وتكفينه ومباشرته لجهازه إلى حفرته بيده، وقاسى من الغصص، وبرحاء (2) الحزن، وإذراء (3) العبرة، وإراقة الدّمعة، ما حال بينه وبين الكلام، وكاد يمنعه من القول، والدعاء فى صلاته عليه، من الحكم وحفظ أهل الحرمة به، رعاية له فيهم، ووفاء بعهده من بعده، وأقرّ خاصّته وقواده وعمّاله وكتّابه على مراتبهم، وحمد بحمده، وذمّ بذمه، وجدّد لجنده وشاكريّته (4) نظرا وعطفا، فلم يبق عليه فى إحياء ذكره، وبلوغ كل ما يحبّه فى حياته، [غاية] إلا أتى من ورائها، وأمر بقراءة فتوحه، كما
(1) فى الأصل «دار الأمير» .
(2)
برحاء الحمى وغيرها: شدة الأذى.
(3)
أذرت العين الدمع: صبته.
(4)
فى الأصل «وشل كريته» وهو تحريف، وأرى أن صوابه «وشاكريته» والشاكرية جمع شاكرى: وهو الأجير والمستخدم معرب جاكر- انظر القاموس المحيط- والمعنى: وأتباعه ورجاله.
كانت تقرأ على عهده، وأضاف كل ما حدث من بعده، إلى ما تقدّم من سعيه، وأخبر أنه كان سببه، والمفتتح به، وولّى محمد بن الحسن خلافته، ونصبه منصبه، وأقامه مقامه إلى أن جدّد العهد لى، فاستخلفته على ما ولى بحضرته، ثم تتابعت كتب أمير المؤمنين- أكرمه الله- بعد مصاب الأمير ذى الرّياستين، بما (1) لا يقارب من التفضيل والإطلاق والتفويض الذى كنتم سمعتم به وبلغكم، فلم يكن يرى وراءه مجازاة (2)، ولا فوقه مصعدا، حتى جدّد لنا من كرامته، ما قد قرئ عليكم فى كتابه، فبلغ بنا ما لم تكن الهمم لتبلغه، والأمانىّ لتحيط به، لولا ما منحنا الله عز وجل من الترقّى فى الفضل إلى ما تنحسر (3) من دونه الأبصار، وتنقطع دونه الآمال، وإنما اقتصصنا وذكرنا ما أبلانا واصطنع عندنا من بلائه، بدعائنا إلى الله عز وجل، وإلى طاعته بالعدل والإحسان إلى رعيته والنظر بالصفح، والأخذ بالفضل، والأمر بالمعروف، وصلة المروءة بالوفاء بالعهد، والشكر للمنن، ورعاية الأخلاق المحمودة، وإحظاء (4) أهلها، وإقامة سوقها، حتى تنافسوها وتشاحّوا (5) فيها، وصارت هى الذرائع إليه، والوسائل عنده، فلو تأمّل متأمّل أهل الزّلفة والأثرة لديه، لوجد الأخصّ فالأخصّ، والأعلى قدرا عنده، الأفضل دينا ومروءة، فلو لم يكن فى الحظوة عنده إلا إيجابها لصاحبها صحّة المحبة، والنزاهة عن كل ظنّة (6)، لكان فيها أعظم الغبطة، وأعدل الشهادة والدلالة.
وسنقصّ عليكم بما خبّرناكم عنه ما لا سبيل إلى جحده وإنكاره، لوضوح معالمه ومنائره، أو ليس المجاهد عن دين الله، والمحامى عن بيضة المسلمين،
(1) فى الأصل «كما» وهو تحريف.
(2)
فى الأصل «مجاراة» وهو تصحيف.
(3)
أى تكل وتنقطع.
(4)
فى الأصل «وإخطاء» وهو تصحيف.
(5)
فى الأصل «وشاحوا»
(6)
الظنة: التهمة.
والمؤاتى (1) لأغلظ عدوّهم شوكة، وأخوفهم عداوة والمبحبح (2) من بلادهم فيما كان لا يرام ولا يحاول، لاستصعابه وشدة مقاساته، حتى أذعن «جيغوية» بالعبوديّة له، ثم أباح حريمه حين تمرّد عليه، حتى بلغ السّبى إلى ولده وحابوناته؟ ؟ ؟ (3)، وتوغّلت خيوله حتى توصلت إلى قبّتة ومنتهى عزّه؟ أو ليس مسكّن الهيج بالمشرق، حتى خبت (4) النيران فيه، وأذعن رؤساؤها وقادتها أو ليس غازى بلاد بابل حين طغى [ملكها] وبدّل ونكث ونقض، حتى اجتثّ أرومته (5)، وأباح حريمه، وأراح المسلمين من معرّته؟ أو ليس سادّ الثغور، ومحصّن عوراتها، والمباشر لتدبيرها، والمسعد المكايدة المنجح فيمن أرادها، وفاكّ العناة (6) من رقّ الإسار، وناشر الرحمة على فقراء المسلمين وضعفائهم وأهل المسكنة والخلّة منهم، وقاسم الصّدقات فى أهلها، وعامر الموسم ومحصّنه من الآفات، حياطة للمسلمين فى حجّهم وما يتقربون به إلى ربهم؟
وهل اقترن لأحد من الأئمة ما اقترن له فى الملك والدين والعز والتواضع والسّعة والبذل والقدرة والعفو والغلظة واللّيان فى مواضعها، والنّسك مع الهمّة، والسّطوة مع الإقالة؟ وهل ترك معشر الأولياء والإخوان فى الدين غاية لم يسم بنا إلى شرفها، وعلىّ مراتبها، ومستزاد الحظّ فى عاجل وآجل لم يبلغناه؟ احتاز لنا خاصّ مكرمته، ومدّخر عاقبته، أرشدنا إلى الدين، وسلك بنا سبل الجنة، حازلنا الملك، فلم يبق وراء ما ملكنا غاية، وورد بنا الحروب وساسها لنا، فلم يدع غاية
(1) آتى فلانا: جازاه.
(2)
فى الأصل هكذا «والمبحبح» وتبحبح الدار، وفى الدار، وبحبح: إذا توسطها وتمكن من الحلول والمقام فيها، وربما كان «والمجتاح» من اجتاحه: إذا أهلكه واستأصله.
(3)
كذا فى الأصل، وقد يكون «وجواريه» .
(4)
خبت النار تخبو: سكنت وطفئت.
(5)
فى الأصل «لدومته» وهو تحريف. الأرومة بالفتح وتضم: الأصل.
(6)
العناة: جمع عان، وهو الأسير.
فى التعلم والدراية، والتقلّد والفقه، إلا سلّطنا عليها بسلطان الله (1) الذى آتاه، علّمنا الفضائل، ثم فضّلنا بها! غلب لنا الأمم، ثم خوّلناها (2)، علّمنا طرائق الشرف، ثم شرّفنا بها، أخبرنا عن الأنباء فكفانا مؤنة التماسها، وأغنانا بما عنده فيها، أخذ على أيدينا الخير للرعية فوهب لنا شكرها، وصدّق مقالتنا عند الشّبهة، وأنفذ أمرنا فى التدبير.
فيأيّها الإمام المنصور المهدىّ الرشيد: حزت فضائل الآباء، واهتديت بهدى الأنبياء، أنشكرك عن الإسلام؟ فأنت القائم به، الداعى له، والناصر لحقه، أم نشكرك عن الأمصار؟ فأنت المفتتح لممتنعها عنوة (3)، والمتطوّل على أهلها بالرحمة، والمنعطف عليهم بحسن الفائدة، بعد ما هيّجت منك سورة (4) الغضب، فأطفأت نارها، وأخمدت لهبها، وعدت على من سفه وأضاع حظّه، أم نشكرك على المساجد؟ فأنت الذى أسّستها على التقوى، وعمرتها بتلاوة القرآن، وطهّرت المنابر وركبتها، تعلوها صائما، وتنطق عليها صادقا، وتدعو إلى الرّشد عليها ناصحا، وتختم القرآن قبل أن تبدأها محسنا، وتتلو من قوارعه (5) ما تصيخ له الأسماع، وتلين به القلوب، أم نشكرك على البيت العتيق، والرّكن والمقام والحجر وزمزم، ومشاعر الحج (6)؟ وأنت ذببت عنها، وأعدت إليها عهدها فى مبعث نبيها صلى الله عليه وسلم، فأمّنت النازع (7) إليها من كل فجّ عميق، والحالّين بها من الركع السّجود،
(1) فى الأصل «فلم يدع غاية التعليم والدراية سلطانا بسلطان الله الذى آتاه فلم يدع غاية فى التقلد والفقه، علمنا الفضائل
…
».
(2)
خوله الله المال: أعطاه إياه متفضلا.
(3)
العنوة: القهر.
(4)
أى حدته.
(5)
أى من آياته الشديدة القرع، وأصاخ له: استمع.
(6)
مشاعر الحج: معالمه التى ندب الله إليها وأمر بالقيام بها، جمع مشعر كمذهب.
(7)
نزع إليه كضرب: اشتاق، والفج: الطريق الواسع.
أم نشكرك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما حظفت فيه من عترته (1)؟ بعفوك عن مجرمهم، ومضاعفتك ثواب محسنهم، وإحيائك من أمرهم، ما كان قد اندرس وانطمس، معدّا للقاء نبى الله صلى الله عليه وسلم، وقد رعيت منه فى قرابته وقرابتك وذوى رحمه ورحمك ما ضيّع الناس، ووصلت منهم ما كان وصله. إذ كان الله عز وجل قد فرض صلة الأرحام، فكان أطوع خلق الله عز وجل فيما فرض عليه، أم نشكرك عن العوامّ؟ فقد ألبست المسلمين ثوب الأمن، وأذقتهم طعم السّعة والرّفاغة (2)، وعدلت بينهم بالإنصاف، وتولّيت دونهم النّصب، وآثرتهم بالرّاحة، أم نشكرك عن الملوك والقواد والأجناد؟ فأنت الذى رفعت منازلهم، ووفّرت عددهم، فلم يكونوا فى دهر أحد من الخلفاء أسعد ولا أحظى منهم فى سلطانك، بما بذلت لهم من المعاون، وولّيتهم من الثغور والأمصار، وأدررت عليهم من الأرزاق والخواصّ، أم نشكرك عن الأحكام والسنن؟ فأنت الذى أنهجت (3) سبيلها، فأوجبت فرضها، ونافست فى أهلها، أم نشكرك عن الأعداء؟ فأنت الذى بدأتهم بالحجّة، ودعوتهم إلى الفيئة (4) والإنابة، ثم ثنّيت معقّبا بالعفو، ونعشتهم بعد البؤس، وآنستهم من الوحشة، أم نشكرك على مكارم الأخلاق؟ فأنت الذى ثبّتّ وطاءها (5)، ونفيت عنها أضدادها، ولو نطقت بالفضل لنطقت بشكرك فى إزالتك إياها عن اللئام، وإخطائك من اعتزى (6)(منهم) إليها، أم نشكرك عن الثغور؟ فأنت الذى تمّمتها وحصّنت عوراتها (7)، أم نشكرك عن السّلف؟ فأنت الذى أشدت بفعالهم، وحفظتهم فى أبنائهم، أم نشكرك عن برد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن القضيب الذى (كان) يتخصّر (8)، حتى جعلتهما زينتك، وسموت بهما فى أعيادك
(1) العترة: نسل الرجل ورهطه وعشيرته الأدنون.
(2)
الرفاغة: الرفاهية.
(3)
أى أوضحت.
(4)
الفيئة: الرجوع.
(5)
فى الأصل «وطأتها» .
(6)
أى انتسب.
(7)
فى الأصل «عذراتها» .
(8)
أى يمسكه بيده.
عند حشدك على الطّهر والزكاة والنّسك والتقوى؟ أم نشكرك عن المسلمين؟ فى رعايتك إياهم، وما ترعيهم من جنابك، وتنفى عنهم من الآفات، وتفلّ (1) عنهم من جبابرة الكفر، وتفضّ من جيوش الشرك والنّكث، وتفتح من الحصون المستصعبة، وتسهّل من الطرق الوعرة؟ أم نشكرك عن تواضعك لله عز وجل ولصالح المسلمين طلبا للرّفعة عند الله؟ أم نشكرك عن الدين؟ وقد جعلت السلطان عبدا وقائدا ومنفّذا، وكان مأمورا فجعلته آمرا، وآلة للقوة فجعلت القوة له آلة.
فيامن اتصل شكره بشكر الله عز وجل، ونعمته بنعمة الله تعالى، وطاعته بطاعة الله، فوهب الله لك شرف المنازل، ورقّاك درج الفضائل، وجزاك الله عنا وعن غيرنا، مما شكر من ناطق أو صامت، جزيل الثواب، ورفيع الدرجات، وأمتعك ما آتاك، وأمتع الأمة ما آتاهم منك، والحمد لله ذى الرّغبات، ومتمّم الصالحات، شكرا لربّ العالمين، فإنه مبلغ طاقتنا، ومنتهى جهدنا، وبه نستعين على تأدية فرائضه إنه لا يعين على ذلك إلا هو.
أحببت أن أشكر إليكم أمير المؤمنين- أيّده الله- إذ ورد علىّ من إنعامه وإفضاله ما لا أبلغه بالفعل، وأن يكون ما اقتصصنا عليكم داعيا لكم إلى أن تشكروه عنا وعن أنفسكم وعن الإسلام والمسلمين، ورجوت بما وفّقنا الله له فيما شرحنا وأوضحنا من الدلالة والبيان، أن يكون مجتمعا ينتفع به من حضرنا، ومن عسى أن يؤدّى إليه الخبر عنا، أو حدث بعدنا، وضننت بهذه المكرمة الرائعة والمأثرة البارعة التى ادّخرها الله لأمير المؤمنين- أعز الله نصره- وأفرده بها دون الأئمة والخلفاء، أن تمرّ بالأسماع صفحا، وتجتاز على القلوب سهوا، حتى تؤكّد بالشواهد والبرهان، ليبقى ذكرها ونفعها فى الخلوف والأعقاب.
(1) فل القوم كنصر: هزمهم.