الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سكن غضبه، ثم قال: يا أمير المؤمنين إن محمدا إنما قتل هذا الرجل على الزندقة، فإن كان قتله صوابا فهو لك، وإن كان خطأ فهو على محمد، فأمر أبو جعفر بالكتب فمزقت وأقرّ على عمله- وكان ذلك سنة 155 هـ. (تاريخ الطبرى 9: 287)
73 - رسالة غسان بن عبد الحميد فى العتاب
قال ابن طيفور:
ومن الرسائل المفردات رسالة غسّان (1) بن عبد الحميد المدائنى كاتب جعفر بن سليمان فى العتاب:
«أما بعد: فإن الله جعل العباد أطوارا فى أخلاقهم، كما جعلهم أطوارا فى صورهم، وجعل بينهم أمورا يتآلفون عليها، ويعملون أحلامهم (2) فيها من حرم يتجاملون بها، وحقوق يتنازعونها، ومودّة يتعاطونها، وأخوّة يتداولونها، ترعى بوفاء، وتؤدّى بأمانة، وتضيّع بتقصير، وتنتقص بخيانة، ليس من أدّيت إليه فيما يحفظ منها بأسعد من المؤدّى لها فيما يأخذ به من الفضل لنفسه، وليس من ضيّعت منه بأشقى ممن ضيّعها فيما يدخل من التقصير عليه، فإنه من أخطأه الوفاء من أخيه، فإنما يدخل عليه تقصير غيره، ومن ضيّع الوفاء لإخوانه فقد أدخل النقص فى خاصّة نفسه، والمرء يجد من أخيه إذا خانه بدلا، ولا يجد عن نفسه إذا قصّرت به متحوّلا، فليس نقص يستبدل به كنقص لا يستطيع مزايلته، وقد ألبس الله عبادا من عباده نعما، وجعل لهم فى صلاح الأمور قسما، فكان ذلك عندهم ذريعة يرعونها، لما ألحق عليهم فيها مما يكون صلاحا وتماما لها، لئلا يعملوا بانتقاص لأمر بلّغهم الله إياه، ولا
(1) قال ابن النديم فى الفهرست (ص 183): «كان يكتب لجعفر بن سليمان بن على، وكان بليغا حلو الكلام لطيف المعانى» .
(2)
فى الأصل «أخلاقهم» وأراه محرفا.
بوضيعة لخلق رفعهم الله إليه حتى نسب إليهم ونسبوا إليه، فسمّى لهم فعلا وسموا له فعلا (1) وأولى من ألبسته (2) نعمة، وأجرى لها على الألسن صفة، أن يكون عمله موافقا لما صنع الله به، ولا يكون لما أصلح منه مفسدا، ولا يكون (3) له مخالفا.
ولم أزل أتعرّف من نعم الله عز وجل علىّ، قديما وحديثا، ويافعا ومسنّا، فيما أبلانى (4) وأظهر منى، وأثبت معرفته عند الناس، ما أصبحت أرى استصلاحه والتوقّى لتغيّره حقا علىّ واجبا، فليس (5) من كانت منه فجيعة لأهل الإخاء والحرمة الذين ارتادوا ارتيادا، واختار واختاروا، فوقع رأيه عليهم، ووقع رأيهم عليه، وارتضوه لأنفسهم، وارتضاهم لنفسه، واقتصروا عليه بمودتهم، واقتصر عليهم بمودّته، فحمّلوه أخوّتهم، وحمّلهم أخوّته، واسترعوه الوفاء لهم، حتى ثبّت الله بينهم وبينه ما كان داعيا لكل رأى جميل، نافيا لكل صنيع معيب، وأمر مريب، فأىّ نقص أكثر، وأىّ دناءة أبين، من أن يكون امرؤ بمنزلة ثقة، قد حفظت منه حرمة، واعتقدت بها عليه أمانة، فوجبت منه مصافاة، وانتظرت منه صلة، ثم ينكشف عن خيانة وغدر وقطيعة وفجعة؟ ثم أحقّ من كنت له على الجميل فيما بينى وبينه، أهل الفضل فى المنزلة، والثقة فى المكافأة، والأمانة فى الوفاء، والجمال فى الإخاء، الذين (6) يرغب فيهم إنعامه، ويوثق بحفظهم اليسير من الحرمة، فما كنت لأقطع خاصّتى ممن يرغب فى عامتى، ولا لأضيّع الكثير ممن لا يضيع اليسير، ولا ألقى أخا شاهدا، بغير ما أكون عليه غائبا، فأكون قد لقيته بدلّ (7)، وغبت
(1) جمع فعول كصبور.
(2)
فى الأصل «السنة» وهو تحريف.
(3)
فى الأصل «ولم يكن» .
(4)
أبلاه الله: أنعم عليه وأحسن إليه.
(5)
تنبه إلى أن خبر ليس لم يرد بعد فى الكلام، إلا أن يكون محذوقا لأنه مفهوم من السياق.
(6)
فى الأصل «لا الذين» والكلام على الإثبات لا على النفى، وإنعامه: زيادته.
(7)
الدل (والهدى يفتح فكون والسمت أيضا): الحالة التى يكون عليها الإنسان، من السكينة والوقار فى الهيئة وحسن المنظر والشمائل والسيرة.
عنه بقذر (1)، ويكون قد استودعنى شيئا حفظت ضدّه وسترت سواه، بل أنا لأخى حين يغيب عنى وأرعاه، أحفظ منّى حين يشاهدنى فيعاين ما يكون منى، ولم يكن ليمتّ (2) بالأسباب إلىّ أهل الفضل والأحساب، لا يدعونى إليهم إلا الرغبة فيهم، والتزيّن بأحسابهم، والاستعداد بعددهم، حتى إذا استحكمت حرمتهم وتظاهرت، ووجبت وعظمت وصرت إمّا محافظا يزينه حفاظه، وإما مضيّعا يشينه تضييعه (3) عملت فى ذلك بما يقطع ما أردت صلته، ويشين ما أردت زينه، ويصير علىّ ولا يصير لى، ويزهّد فىّ نظراءهم، إذا مددت بالأسباب إليهم، فأكون عند من اعتقدت إخاءه مقليّا (4)، قد تغيّرت عنده منزلتى، ومن أردت استعارة مودّته مكروها، لا يقبل ذلك منى، إنى إذن إلى نفسى لمسىء، وبحظّى لمخطئ، وما كنت لأختار الإخوان على فضلهم، ثم أسير فيما بينى وبينهم بما يخالف أخطارهم (5) ومنازلهم، لبئس (6) إذن ما خالطت به الأكفاء، وراقبت به الحرم، وأسلمت (7) به المودة التى قد أعطى الله فيها النعم، وأترك (8) مخالطة الأكفاء قبل اعتقادها، وإن كان الفضل فيما بيننا أحسن من إيجاب حقها، ثم الاستخفاف بها، فإن المجانب المستور خير من المحافظ المذموم، ومن ليم على جميل لم يتناوله، أحسن ممن ليم على سمج (9) قد أتاه.
وإنه بلغنى أن غاشّا ظالما أتاك بأمر، لم أكن له أهلا، ولم تكن بقبوله خليقا، لأنى لم أكن لأشباهه معروفا، ولم أكن على استماع مثله مخوفا، فوجد فيك مساغا، وعندك مستقرّا، وكنت أحسن منازل إخوانك عندك، والثقة لهم منك فى حصن
(1) فى الأصل «وعتب عند تعذر» وهو تحريف.
(2)
أى ليتوسل.
(3)
فى الأصل هكذا «يشينه تضيه» .
(4)
قلاه كرماه ورضيه: أبغضه وكرهه غاية الكراهة فتركه.
(5)
الأخطار: جمع خطر بالتحريك: وهو القدر.
(6)
فى الأصل «ليسير» .
(7)
أى خذلت.
(8)
والمعنى: وإنه لجدير بى أن أترك مخالطتهم مادام حالى فى السير معهم على ما ذكر، التقدير: وإنى إذن أترك
…
الخ.
(9)
سمج كشمس وكتف: قبيح.
حصين، ومحلّ مكين، لا يناله أكاذيب الكاذبين، ولا أقاويل المفسدين؛ وذلك أن الكاذب كان بالتّهمة على منزلتى وحرمتى، أحقّ منى بالتّهمة على رأيى وخلقى، وأنا كنت عندك بالثقة فى وفائى، أحقّ منه بالتصديق فى عضيهته (1) إياى، فإن الأخ المخبور (2)، أولى بالثقة من السّاعى بالكذب والزّور، وإذا كان يحفظ الإخوان ما هو مثلوم بأيدى السفهاء (3)، إذا شاءوا سعوا فقبل قولهم، فكيف تبقى على ذلك أخوّة، أو ترعى معه حرمة، أو يصلح عليه قلب، أو يسلم صدر؟ وكنت إذ حذّرت أخاك من أهل الدناءة حقيقا أن تحذرهم فى إخوانك (4) الذين وقع إحسانك عليهم، فلا تقبل سعايتهم بهم، وكيف تسخط على أهل الدناءة لإخائك (5) وترضى قولهم على إخوانك؟ لقد عرفت أن على الأخ من ردّ الكذب عن أخيه (6) ما حسّن الغيب له، فإذا لم تكن لذلك رادّا مكذّبا، فهلّا كنت فيه واقفا متأمّلا حتى تكشفه ويتبين لك حقّه من باطله! فإن وجدته حقا أتيت ما أتيت على بينة لك فيها حجّة، وإن وجدته باطلا كان أن تستخرج أخاك من تهمة، خيرا من أن تقيم له على سخطة ولم يكن منه إساءة، فقد كان إخوانك يرجون إن أساءوا أن يأتى على ذلك فضلك، ولا يخافون إن أحسنوا أن يضيع ذلك عندك، لقد طالت عشرتى، وتردّد خبرك (7) علىّ فى حالات متصرّفة، ومنازل مختلفة، لا يصرف حالى لك حال انصرفت، ولا يقلب رأيى منزلة انقلبت، فكان ذلك منى فى غياب سلطانك، ثم كان فى مؤاتى (8) زمانك، والناس فى ذلك تنصرف عنك حالاتهم، ويختلف عليهم رأيهم، فلم تكن
(1) العضيهة: الكذب والبهتان، عضهه كمنعه عضها وعضيهة: قال فيه ما لم يكن.
(2)
أى المختبر المجرب، وفى الأصل «المحبور» وهو تصحيف.
(3)
أحفظه: أغضبه، وفى الأصل «إذا كان يحافظ الإخوان إنما هو معلوم
…
» وهو تحريف.
(4)
فى الأصل «أن يحذرهم منهم إخوانك» وهو تحريف.
(5)
فى الأصل «لأجابك» وهو تحريف.
(6)
فى الأصل «من» .
(7)
فى الأصل «وترددت خبرك على» .
(8)
آتاه على الأمر: طاوعه ووافقه- وفى لغة لأهل اليمن واتاه- والمعنى وقت أن كان الزمان لك مواتيا ومساعدا، أى إبان سلطانك، وفى الأصل «موان» وهو تحريف.
جاجة كثير من الصديق فى السلطان إلا أن يأكلوك ويأكلوا بك، ويتعجّلوا يومك من غدك، ولا ينظرون لك ولا يبالون ما دخل- إذا أصابوا- فى جنبك، فكانت جاجتى الإبقاء عليك، والادّخار لك، والاستغفار لما يتعجّل المتعجّلون منك مع ما أؤمل فيك، ولم تكن حاجتهم حين نبا بك الزمان إلا أن يخذلوك ويدفنوا مودتك ويميتوا ذكر إخائك، ويتقرب أكثرهم بك، ويسمو بعداوتك، وإن كانوا قد أخلّوا بصداقتك (1)، وكانت حاجتى حفظك وحياطتك، أفما كان فى هذا ما تردّ به عنى بغى باغ، وسعاية ساع؟ ما كنت لأعادى من غشّك، وأعتتب (2) بالغشّ لك! ولا لأوالى من ناصحك وأقطع نصيحتى لك! ولا لأعرّض نفسى فيك وأستخفّ بعد ذلك بحقك! فأكون عونا لمن عاديته فيك، مفارقا لمن واليت فيما واليته عليه، معرّضا فى أمر لأسلّم له ما قبلى، لقد بحمد الله خبرنى الإخوان فى طول هذا الزمان، فبغير هذا عرفونى، وعلى (3) غيره احتملونى، فما (4) كنت لأعايشك بغير ما عايشتهم، ولا لأعمل (5) فى إخائك بغير ما عملت فى إخائهم، وأنت أعظمهم منزلة، وأقدمهم مودة، وأكملهم ثقة، وأزينهم أخوّة، وأجملهم محافظة، فما أعظم عندى أن أنزل منزلة استخفاف بحقك، أو تهمة عندك على براءة فيما بينى وبينك! فإنه إن تكن البراءة أخرجتنى من التقصير عندك فى الظن بك، فغفر الله لك، لقد جرى على لسانك ما لم يجر على لسان أخ قبلك، واضطررتنى فى إخائك إلى معاذير لم يضطرّنى إليها أحد سواك، ولو لم أكن بفضلك عارفا، وعلى نصيبى منك شحيحا، لشححت على ما سلف
(1) فى الأصل «وإن كان قد دخلوا صداقتك» وهو تحريف، وعندى أن هذه الجملة مقحمة فى الكلام، إذ الأولى حذفها.
(2)
اعتتب: رجع عن أمر كان فيه إلى غيره، وفى الأصل هكذا «واعتتب» .
(3)
فى الأصل «ولعل» وهو تحريف.
(4)
فى الأصل «فيما» وهو تحريف.
(5)
فى الأصل «لأتحمل» وهو تحريف.
منى فيما بينى وبينك أن يذهب باطلا، ويصير ضائعا، ويتحول حسنه قبيحا، ومعروفه منكرا، ولو كانت منك إساءة فيما بينى وبينك لرأيت أن قد وجب علىّ من حقك ما يوجب احتمال ذلك، فكيف أهتك حرمتك عن غير إساءة منك؟
ولو أنى قد هجوتك لكنت لنفسى بهجائك، أهجى منى لك، لأنى بذلك لها مكذب فيما سلف من مدحتى إياك، وثنائى عليك، وقولى فيك! فهل يهجو امرؤ غيره بأشدّ من إكذابه نفسه؟ مع قطع الأخوّة، وهتك الحرمة، ولو كنت شاعرا ألتمس بشعرى موضعا، وأطلب له مخرجا، ما جعلت مخرجى فى صديقى، الذى هجاؤه علىّ أشدّ منه عليه، فإن ظهر افتضحت، وإن خفى احتفظت، ولو وجدت من أهل الدناءة والسّفاه من شينه بهم ألصق، وهم به أحقّ، ما أنا بالقول فيهم بحرىّ (1)، وايم الله إنى لأرى الشعر فى جميل الأمور، وحسن الثناء على الصديق قبيحا، فكيف إذا كان فى الظلم العدوان، والفجعة للإخوان؟ فاجتمعت نقيصة الشعر ونقيصة الغدر، ولقد ثقل علىّ ما كان من ذلك وهو باطل، صونا للنفس عنه، فكيف أرضى أن يكون منى ما أستحقّه به؟ وإنى لأرجو أن أكون ممن يصبر للوفاء على بليّة إن نزلت، فكيف أخرج منه بغير اضطرار إلى غيره؟ ، ولو كنت على وقع عليه (2) لكنت بالنقص على نفسى مقرّا، وكيف أسخط على من أساء القول إلىّ، إذا أسأت الفعل إلى نفسى؟ وأسرّ بأن يحسن لى القول وأنا مسىء إلى نفسى فى الفعل؟ فهلّا رغبت بى أن أكون أتيت ذلك، كما رغبت بك عن التصديق به فيما بينى وبينك! ولكنك حبست كتبك عنا وقطعت تعهّدك، ونحن نحسن الظن بك، وبحالنا عندك، لا ننزل ذلك إلا على العذر لك، والشعل منك، ثم إخراجك ما أخرجت إخراج
(1) فى الأصل «ولو وجدت من أهل الدناءة والسفاه فاسدلهم بهم ألصق وهم به أحق وأنا للقول فهم وهم فيه أحرى» وقد أصلحتها كما ترى.
(2)
أى على الاضطرار إلى غير الوفاء.