المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌166 - رسالة يحيى بن زياد الحارثى فى تقريظ الرشيد - جمهرة رسائل العرب في عصور العربية - جـ ٣

[أحمد زكي صفوت]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثالث

- ‌مقدمة

- ‌فهرس مآخذ الرسائل فى العصر العباسى الأول

- ‌الباب الرابع الرّسائل فى العصر العبّاسى الأول

- ‌1 - كتاب أبى العباس السفاح إلى الحسن بن قحطبة

- ‌2 - كتاب المنصور إلى ابن هبيرة

- ‌3 - كتاب أبى جعفر المنصور لابن هبيرة بالأمان

- ‌4 - كتب بين أبى مسلم وأبى العباس وأبى جعفر

- ‌5 - كتاب صالح بن على إلى أبى العباس السفاح

- ‌6 - كتاب أبى العباس إلى عامر بن إسمعيل

- ‌7 - كتاب سليمان بن على إلى أبى العباس

- ‌8 - كتاب يوسف بن القاسم عن عبد الله ابن على إلى أبى العباس

- ‌9 - كتاب يوسف بن القاسم إلى عبد الله بن على

- ‌10 - رد عبد الله بن على عليه

- ‌11 - كتب بين أبى مسلم وأبى العباس وأبى جعفر

- ‌12 - كتاب لعمارة بن حمزة عن أبى العباس فى وفاة داود بن على

- ‌13 - كتاب أبى مسلم إلى أبى جعفر

- ‌14 - رد أبى جعفر على ابى مسلم

- ‌16 - كتاب صالح بن على فى السلامة

- ‌17 - كتاب عبد الله بن صالح فى السلامة

- ‌18 - بين أبى مسلم وأبى جعفر

- ‌19 - كتاب أبى جعفر إلى عبد الله بن على

- ‌20 - كتاب الأمان لعبد الله بن على (كتبه ابن المقفع)

- ‌21 - كتاب أبى جعفر إلى أبى مسلم

- ‌22 - كتاب أبى مسلم إلى أبى جعفر

- ‌23 - رد أبى جعفر على أبى مسلم

- ‌24 - كتاب أبى مسلم إلى أبى جعفر

- ‌25 - كتاب أبى جعفر إلى أبى داود

- ‌26 - كتاب أبى داود إلى أبى مسلم

- ‌27 - رسالة عبد الله بن المقفع فى الصحابة «كتبها للمنصور»

- ‌28 - الرسالة اليتيمة لابن المقفع

- ‌29 - تحميد لابن المقفع

- ‌30 - كتاب ابن المقفع إلى بعض إخوانه

- ‌31 - وله فى وصف أحد إخوانه

- ‌32 - كتاب ابن المقفع إلى صديق له يهنئه بمولودة

- ‌33 - كتابه يعزى عن ولد

- ‌34 - كتابه يعزى عن ولد

- ‌35 - كتابه يعزى عن بنت

- ‌36 - كتابه يعزى عن بنت

- ‌37 - كتاب تعزية له

- ‌38 - كتاب آخر

- ‌39 - كتابه إلى صديق له يستقضيه حاجة

- ‌40 - كتاب آخر

- ‌41 - كتاب له فى السلامة

- ‌42 - كتاب آخر إلى ابن الثقفى

- ‌43 - كتاب آخر

- ‌44 - كتاب فى السلامة

- ‌45 - كتاب لابن الثقفى فى السلامة

- ‌46 - كتاب ابن المقفع إلى يحيى بن زياد الحارثى

- ‌47 - رد يحيى بن زياد على ابن المقفع

- ‌48 - كتاب أبى نصر الرقاشى إلى يحيى بن زياد

- ‌49 - جواب يحيى بن زياد

- ‌50 - كتاب حماد عجرد إلى يحيى بن زياد

- ‌52 - كتاب له فى الشكر

- ‌53 - كتاب آخر

- ‌54 - كتاب آخر

- ‌55 - كتابه إلى صالح بن على

- ‌56 - كتاب عبد الله بن الحسن إلى صديق له

- ‌57 - أبو جعفر المنصور وعبد الله بن الحسن

- ‌58 - كتاب أبى جعفر إلى النفس الزكية

- ‌59 - رد النفس الزكية على أبى جعفر

- ‌60 - رد أبى جعفر على النفس الزكية

- ‌61 - كتاب أبى جعفر إلى الحسن بن زيد

- ‌62 - كتب بين أبى جعفر وسلم بن قتيبة

- ‌63 - كتاب المنصور إلى عيسى بن موسى

- ‌64 - رد عيسى بن موسى على المنصور

- ‌65 - كتاب عيسى بن موسى إلى المنصور

- ‌66 - كتاب آخر

- ‌67 - رد المنصور عليه

- ‌68 - كتاب المنصور إلى عيسى بن موسى

- ‌69 - كتاب المنصور إلى عيسى بن موسى

- ‌70 - كتاب عبيد الله العمرى إلى أبى جعفر المنصور

- ‌71 - رد أبى جعفر على العمرى

- ‌72 - كتاب أبى جعفر إلى محمد بن سليمان

- ‌73 - رسالة غسان بن عبد الحميد فى العتاب

- ‌74 - كتاب لغسان بن عبد الحميد فى تهنئة بتزويج

- ‌75 - تحميد له

- ‌76 - تعزية له

- ‌77 - تعزية له إلى خليفة

- ‌78 - تعزية له

- ‌79 - تعزية له

- ‌80 - تعزية له

- ‌81 - رسالة عمارة بن حمزة فى على بن ماهان

- ‌82 - كتاب له فى السلامة

- ‌83 - كتاب له

- ‌84 - كتاب جبل بن يزيد إلى بعض إخوانه

- ‌85 - كتابه إلى بعض إخوانه

- ‌86 - كتابه إلى بعض إخوانه

- ‌87 - كتاب له فى المطر

- ‌88 - تعزية له

- ‌89 - تعزية له

- ‌90 - تعزية له إلى الخليفة

- ‌91 - فصل له فى الذم

- ‌92 - كتاب بشر البلوى إلى يزيد بن منصور

- ‌93 - كتاب أبى جعفر إلى عامله بحضر موت

- ‌94 - فصل من كتاب أبى جعفر إلى الآفاق بالبيعة للمهدى

- ‌95 - كتاب بعض الهاشميين إلى المهدى وهو ولى عهد

- ‌96 - كتاب أبى جعفر عند موته يوصى بالمهدى

- ‌97 - كتاب لجبل بن يزيد تعزية وتهنئة للمهدى

- ‌98 - تعزية لغسان بن عبد الحميد عن خليفة

- ‌99 - فصل من تعزية له

- ‌100 - كتاب له فى المودة

- ‌101 - عهد من المهدى إلى أحد ولاته

- ‌102 - كتاب المهدى إلى محمد بن سليمان

- ‌103 - كتاب بشر البلوى إلى على بن سليمان

- ‌104 - كتاب عيسى بن موسى بنزوله عن ولاية العهد لموسى الهادى

- ‌105 - كتاب المهدى إلى روح بن حاتم

- ‌106 - كتاب أبى عبيد الله إلى المهدى

- ‌107 - تحميد لأبى عبيد الله

- ‌108 - تحميد لأبى عبيد الله

- ‌109 - تحميد لأبى عبيد الله

- ‌110 - تحميد لأبى عبيد الله

- ‌111 - تحميد لأبى عبيد الله فى آخر كتاب

- ‌112 - كتاب إبراهيم بن أبى يحيى الأسلمى إلى المهدى

- ‌113 - جواب تعزية لشبيب بن شيبة

- ‌114 - كتاب فى البيعة لمحمد بن حجر

- ‌115 - رسالة ابن سيابة إلى يحيى بن خالد البرمكى

- ‌116 - بين ابن سيابة وصديق له

- ‌117 - كتاب جعفر بن محمد بن الأشعث إلى يحيى بن خالد

- ‌118 - كتاب آخر

- ‌119 - كتاب آخر

- ‌120 - كتاب يوسف بن القاسم إلى يحيى بن خالد

- ‌121 - رد يحيى عليه

- ‌122 - رد يوسف بن القاسم عليه

- ‌123 - كتاب يوسف بن القاسم إلى محمد بن زياد الحارثى

- ‌124 - بين يوسف بن القاسم ومحمد بن زياد

- ‌125 - كتاب ليوسف بن القاسم عن الفضل بن يحيى

- ‌126 - كتاب يحيى بن خالد إلى ابنه الفضل

- ‌127 - رد الفضل عليه

- ‌128 - كتاب يحيى بن خالد إلى ابنه الفضل

- ‌129 - كتاب أبى العباس بن جرير إلى الفضل بن يحيى

- ‌130 - كتاب للفضل بن يحيى

- ‌131 - كتاب عمر بن مهران إلى الرشيد

- ‌132 - كتاب ابى الربيع محمد بن الليث إلى جعفر بن يحيى

- ‌133 - كتاب له فى السلامة

- ‌134 - كتاب له فى الاعتذار

- ‌135 - كتاب منصور النمرى إلى الرشيد

- ‌136 - كتاب محمد بن عبد الله بن حرب

- ‌137 - كتاب محمد بن على إلى محمد بن يحيى بن خالد

- ‌138 - رد محمد بن يحيى عليه

- ‌139 - كتاب جعفر بن يحيى إلى أحد عماله

- ‌140 - كتاب حميد بن مهران إلى عامل معزول

- ‌141 - تحميد لأنس بن أبى شيخ

- ‌142 - كتاب بشر البلوى إلى إبراهيم بن عبد الله الحجبى

- ‌143 - كتاب بشر البلوى إلى إبراهيم بن عبد الله الحجبى

- ‌144 - كتابه إلى الحجبى

- ‌145 - كتابه إلى يحيى بن خالد البرمكى

- ‌146 - كتابه إلى يحيى بن خالد البرمكى

- ‌147 - كتابه إلى بشار بن رضابة

- ‌148 - كتاب مطرف بن أبى مطرف إلى أحد إخوانه

- ‌149 - كتاب آخر له

- ‌150 - كتاب آخر

- ‌151 - كتاب آخر

- ‌152 - كتاب آخر

- ‌153 - كتاب آخر

- ‌154 - كتاب آخر

- ‌155 - كتاب آخر

- ‌156 - كتاب آخر

- ‌157 - كتاب آخر

- ‌158 - كتاب يحيى بن خالد إلى ابنه جعفر

- ‌159 - كتاب يحيى بن خالد إلى أيوب بن هرون بن سليمان

- ‌160 - كتاب يحيى بن خالد إلى الرشيد

- ‌161 - بين يحيى بن خالد والرشيد

- ‌162 - عهد الأمين على نفسه للرشيد

- ‌163 - صورة أخرى

- ‌164 - عهد المأمون على نفسه للرشيد

- ‌165 - كتاب الرشيد إلى عماله

- ‌166 - رسالة يحيى بن زياد الحارثى فى تقريظ الرشيد

- ‌168 - كتاب نقفور ملك الروم إلى الرشيد

- ‌169 - رد الرشيد عليه

- ‌170 - رواية أخرى

- ‌171 - كتاب الرشيد إلى على بن عيسى بن ماهان

- ‌172 - عهد الرشيد لهرثمة بن أعين وقد ولاه خراسان

- ‌173 - كتاب هرثمة بن أعين إلى الرشيد

- ‌174 - رد الرشيد عليه

- ‌175 - كتاب لهرثمة بن أعين

- ‌176 - كتاب لقمامة بن زيد فى السلامة إلى الخليفة

- ‌177 - كتاب آخر

- ‌178 - كتاب إسحق بن الخطاب إلى الهزبر بن صبيح

- ‌179 - كتاب إسحق بن الخطاب إلى زيد بن الفرج

- ‌180 - كتاب للهزبر فى التنصل

- ‌181 - كتاب محمد بن كثير إلى الرشيد

- ‌182 - كتاب أبى هرون العبدى إلى زبيدة بنت جعفر

- ‌183 - كتاب الأمين إلى أخيه المأمون

- ‌184 - كتاب الأمين إلى أخيه صالح

- ‌185 - كتاب عيسى بن واضح إلى الفضل بن الربيع

- ‌186 - كتاب موسى بن عيسى إلى الأمين

- ‌187 - كتاب المامون إلى الأمين

- ‌188 - رد الأمين على المأمون

- ‌189 - رد المأمون على الأمين

- ‌190 - رد الأمين على المأمون

- ‌191 - كتاب المأمون إلى الأمين

- ‌192 - رد أحد أعيان أهل العسكر

- ‌193 - كتاب رسول المأمون إليه

- ‌194 - رد الأمين على المأمون

- ‌195 - كتاب المامون إلى أعيان أهل العسكر ببغداد

- ‌196 - كتاب المامون إلى على بن عيسى بن ماهان

- ‌197 - كتاب المأمون إلى الأمين

- ‌198 - كتاب الأمين إلى المامون

- ‌199 - رد المأمون على الأمين

- ‌200 - كتاب طاهر بن الحسين إلى المامون

- ‌201 - كتاب الأمين إلى طاهر بن الحسين

- ‌202 - كتاب طاهر بن الحسين إلى المأمون

- ‌203 - كتاب طاهر بن الحسين إلى أبى عيسى بن الرشيد

- ‌204 - كتاب السيدة زبيدة إلى المأمون

- ‌205 - كتاب السيدة زبيدة إلى المأمون

- ‌206 - رد المأمون عليها

- ‌207 - كتاب أحمد بن يوسف فى قتل الأمين

- ‌208 - رسالة الخميس لأحمد بن يوسف

- ‌209 - تحميد لأحمد بن يوسف إلى الولاة عن الخليفة

- ‌210 - تحميد لأحمد بن يوسف

- ‌211 - تحميد لأحمد بن يوسف فى فتح السند

- ‌212 - تحميد لكاتب خزيمة بن خازم فى فتح الصنارية

- ‌213 - كتاب للفضل بن سهل

- ‌214 - كتاب إبراهيم بن إسماعيل بن داود إلى ذى الرياستين

- ‌215 - كتاب إبراهيم بن إسماعيل إلى على بن الهيثم

- ‌216 - رد ابن الهيثم عليه

- ‌217 - كتاب الحسن بن سهل إلى أخيه الفضل

- ‌218 - كتاب الفضل بن سهل إلى أخيه الحسن

- ‌219 - عهد المامون لعلى بن موسى الرضى

- ‌220 - صدر رسالة لإبراهيم بن المهدى فى الخميس

- ‌221 - رسالة الشكر لأحمد بن يوسف

- ‌222 - كتاب المأمون إلى الحسن بن سهل يعزيه بأخيه

- ‌223 - كتاب المأمون إليه يعزيه بأبيه

- ‌224 - كتاب المأمون إليه

- ‌225 - كتاب الحسن بن سهل إلى المأمون

- ‌226 - كتاب الحسن بن سهل إلى محمد بن سماعة القاضى

- ‌227 - رد ابن سماعة عليه

- ‌228 - كتاب الحسن بن سهل إلى الحسن بن وهب

- ‌229 - رد الحسن بن وهب عليه

- ‌230 - كتاب المطلب بن عبد الله بن مالك إلى الحسن بن سهل

- ‌231 - رد الحسن بن سهل عليه

- ‌232 - ومن فصول الحسن بن سهل

- ‌233 - كتاب الفضل بن الربيع إلى المأمون

- ‌234 - كتاب أحمد بن يوسف إلى المأمون

- ‌235 - كتابه إلى المأمون

- ‌236 - كتابه إلى إبراهيم بن المهدى

- ‌237 - كتاب له عن المامون

- ‌238 - كتابه إلى بعض إخوانه يهنئه بمولود له

- ‌239 - كتاب آخر

- ‌240 - كتاب آخر

- ‌241 - كتاب آخر

- ‌242 - كتابه فى تهنئة بإفراق من مرض

- ‌243 - كتاب له

- ‌244 - كتابه إلى بعض أخلائه

- ‌245 - كتاب له

- ‌246 - ومن كلامه

- ‌247 - ومن كلامه

- ‌248 - ومن كلامه

- ‌249 - كتاب له فى الاعتذار

- ‌250 - ومن كلامه

- ‌251 - كتابه إلى بنى سعيد بن مسلم

- ‌252 - كتاب له

- ‌253 - كتاب لأحمد بن يوسف فى العدل والإنصاف

- ‌254 - كتابه فى إنصاف قوم تظلموا

- ‌255 - كتاب له فى السلامة

- ‌256 - وله صدر فى السلامة

- ‌257 - فصل له فى السلامة

- ‌258 - فصل له فى الشكر

- ‌259 - فصل له فى الشكر

- ‌260 - كتاب له فى الشكر

- ‌261 - كتاب له فى الاعتذار

- ‌262 - كتاب آخر

- ‌263 - كتاب آخر

- ‌264 - كتاب آخر

- ‌265 - كتاب له فى حاجة

- ‌266 - كتاب له فى الشوق

- ‌267 - فصل له فى الإخاء

- ‌268 - كتاب له فى العتاب

- ‌269 - كتاب له فى الذم

- ‌270 - كتاب له فى الذم

- ‌271 - كتاب إلى أحمد بن يوسف من صديق له

- ‌272 - كتاب القاسم بن يوسف إلى صديق له

- ‌273 - كتاب أحد غلمان الديوان إلى آخر منهم

- ‌274 - رده عليه

- ‌275 - رسالة سهل بن هرون فى البخل

- ‌276 - كتاب سهل بن هرون إلى صديق له

- ‌277 - كتابه إلى صدق له

- ‌278 - ومن رسالة له يفضل الزجاج على الذهب

- ‌279 - كتاب الحسن بن سهل إلى سهل بن هرون

- ‌280 - كتاب العتابى إلى بعض إخوانه

- ‌281 - كتاب آخر له

- ‌282 - كتاب آخر له

- ‌283 - كتابه إلى بعض أهل السلطان

- ‌284 - كتابه إلى صديق له

- ‌285 - تعزية له

- ‌286 - كتاب له

- ‌287 - فصول للعتابى

- ‌288 - كتاب لابن الكلبى

- ‌289 - كتاب آخر

- ‌290 - كتاب على بن عبيدة إلى ابن الكلبى

- ‌291 - كتاب عنبسة بن إسحق إلى المأمون

- ‌292 - رد المأمون عليه

- ‌293 - كتاب طاهر بن الحسين إلى يحيى بن حماد

- ‌294 - كتاب يحيى بن حماد إلى طاهر

- ‌295 - عهد طاهر بن الحسين لابنه عبد الله

- ‌296 - كتاب إلى طاهر بن الحسين من بعض عماله

- ‌297 - رد طاهر عليه

- ‌298 - كتاب إبراهيم بن المهدى إلى طاهر

- ‌299 - كتاب أحمد بن يوسف إلى عبد الله بن طاهر يعزيه بأبيه

- ‌300 - كتاب عبد الله بن طاهر إلى نصر بن شبث

- ‌301 - كتاب عبد الله بن طاهر إلى نصر بن شبث

- ‌302 - أمان عبد الله بن طاهر لنصر بن شبث

- ‌303 - كتاب عبد الله بن طاهر إلى عبد الله بن السرى

- ‌304 - كتاب المامون إلى عبد الله بن طاهر

- ‌305 - كتاب أحمد بن يوسف إلى عبد الله بن طاهر

- ‌306 - كتاب الهزبر بن صببح إلى عبد الله بن طاهر

- ‌307 - كتاب عبد الله بن طاهر إلى الحسن بن عمرو

- ‌308 - كتاب عبد الله بن طاهر إلى المأمون

- ‌309 - كتاب المأمون إلى قثم بن جعفر

- ‌310 - كتاب أبى العتاهية إلى الفضل بن معن بن زائدة

- ‌311 - كتاب عمرو بن مسعدة إلى المأمون

- ‌312 - رد المامون عليه

- ‌313 - كتاب عمرو بن مسعدة إلى الحسن بن سهل

- ‌314 - كتابه إلى الحسن بن سهل

- ‌315 - كتابه إلى المأمون

- ‌316 - كتابه فى وصاة

- ‌317 - كتابه إلى بعض أصحابه

- ‌318 - كتابه إلى المامون

- ‌319 - كتابه إلى بعض الرؤساء

- ‌320 - كتابه له

- ‌321 - كتابه إلى أبى الرازى

- ‌322 - كتاب إبراهيم بن العباس إلى عمرو بن مسعدة

- ‌323 - كتاب أبى جعفر الكرمانى إلى المأمون

- ‌324 - كتابه إلى بختيشوع

- ‌325 - كتاب العباس بن الحسن إلى جرير بن يزيد

- ‌326 - كتاب العباس بن الحسن إلى المامون

- ‌327 - كتاب لجرير بن زيد البجلى

- ‌328 - كتاب آخر

- ‌329 - كتاب آخر

- ‌330 - كتاب محمد بن سعيد فى السلامة

- ‌331 - كتاب إلى المامون من عامل

- ‌332 - كتاب رجل إلى المأمون

- ‌333 - رد المأمون عليه

- ‌334 - كتاب إحدى جوارى المامون إليه

- ‌335 - الرقعة التى علقت على رأس على بن هشام بعد قتله

- ‌336 - كتاب ثوفيل ملك الروم إلى المامون

- ‌337 - رد المأمون عليه

- ‌338 - كتاب عبد الله بن طاهر إلى إسحاق بن إبراهيم

- ‌339 - رد إسحق بن إبراهيم عليه

- ‌340 - كتاب ابن الحرون إلى أحد إخوانه

- ‌341 - كتاب المأمون إلى إسحق بن إبراهيم

- ‌342 - كتاب المأمون إلى إسحق بن إبراهيم

- ‌343 - كتاب المأمون إلى إسحق بن إبراهيم

- ‌344 - كتاب منصور بن محمد إلى المريسى

- ‌345 - كتاب راشد الكاتب إلى محمد بن عبد الملك الزيات

- ‌346 - رد ابن الزيات عليه

- ‌347 - كتاب المأمون إلى عماله

- ‌فهرس الجزء الثالث من جمهرة رسائل العرب الباب الرابع الرسائل فى العصر العباسى الأول

- ‌فهرس أعلام الكتاب مرتب بترتيب الحروف الهجائية مع إتباع اسم كلّ كاتب بأرقام الصفحات التى وردت فيها رسائله

- ‌فهرس بعض ما ورد فى الهامش من الفوائد التى قد يحتاج القارئ إلى مراجعتها

الفصل: ‌166 - رسالة يحيى بن زياد الحارثى فى تقريظ الرشيد

وكتب إسمعيل بن صبيح يوم السبت لسبع ليال بقين من المحرم سنة ست وثمانين ومائة. (تاريخ الطبرى 10: 77)

‌166 - رسالة يحيى بن زياد الحارثى فى تقريظ الرشيد

«أما بعد: فإنى أسأل الله لأمير المؤمنين فى غابر أموره، أحسن ما عوّده فى سالفها، من السلامة التى حرسه بها من المكاره، والعزّ الذى قهر له به الأعداء، والنصر الذى مكّن له فى البلاد، والهدى الذى وهب له به المحبة، والرّفق الذى أدرّ له به الحلب (1) والاستصلاح الذى اتّسقت له به الرعية، حتى يكون- بما أعطاه من ذلك، وما هو مستقبل به منه- أبعد خلفائه فى الخير ذكرا، وأبقاهم فى العدل أثرا وأطولهم فى العمر مدة، وأحسنهم فى المعاد منقلبا.

ثم نحمد الله الذى جعل نعمته على أمير المؤمنين شواهد منه على منزلته منه، ومكانه عنده، لا يحتاج معها إلى شهادات المثنين، ولا صفات المقرّظين، ثم جعل ذكر نعمته على أمير المؤمنين ومناصحتها والمجاهدة لمن كادها، فريضة أوجبها على العباد، ومحنة امتحنهم بها، وفرقانا ميّز به بينهم، فمن أصبح من رعيته أكثر شغله أن يستعمل لسانه فى صفته، وذكر محاسنه وفضائله، ووجوب حقه وطاعته، فقد أصبح آثرا أولى الأمور وأحسنها مغبّة فى دنياه ودينه، ومن بدّل ذلك عن قدرة عليه، ودفعه بعد معرفة، فلم يدعه إلا عن خذلان حاق به، أو بدعة استمالته، وكانت حجّة الله لأمير المؤمنين عليه هى الكافية لمئونته، وقد كان علماء الناس وجهّالهم يسوّون فى عامّ المعرفة بفضل أمير المؤمنين، فأما الخاصّ فلأهل الفضل فيه فضلهم، غير أنه مهما كان من ذلك فقد أصبحوا وهم فيه على منازل ثلاث: حاسد حجب الحسد

(1) الحلب بالتحريك: اللبن المحلوب.

ص: 209

بصره عن مواقع الصواب أن يراه، والنّعمة أن يشكرها، والحقّ أن يؤدّيه، وكانت معرفته عليه وبالا، وحسده إلى الغير به قائدا، وذو هوى قاده الهوى إلى البدعة، وأخرجته الضلالة من الجماعة، فهو عرضة لسوء الأدب أو سيف النّكال، لم يوحش الله أحدا بفقده (1)، ولم يعزّر (2) أحدا بموالاته، وموثّق معصوم (3) استنقذه الله بموالاة أمير المؤمنين من غلّ الحسد، وبدع الآراء، وجبله على صحّة الهوى، فهو إن نظر فبعينه ينظر، وإن قال فبلسانه يقول، لا يأمن حتى يعلم أن أمير المؤمنين قد استوطأ مهاد الخفض، ولا يزال له طليعة رأى توفى على خطّة حزم، وغامض فطنة تغلغل إلى لطيف منفعة، وسهم مكيدة نحو عورة (4)، قد علم أن يوم أمير المؤمنين يومه، وأن غده غده، فهو إن تعرّض لأداء الحقّ فى نصيحته، ينظر لنفسه نظر من لا يأمل السلامة إلا بسلامته، ولا البقاء إلا ببقائه، وقد رجوت بالقرابة التى جعلها الله لى به، والواجب الذى عرفته من حقه، والعظيم الذى حملته من معروفه، ألّا يكون أحد ينظر إليه بعين الإشفاق أقوم ما جعله الله أهله منى، فإن أبلغ الذى أردت فبتوفيق الله، وإن أقصّر فعن مثل ما حاولت قصّر المجتهد.

فأوّل ما أنا ذاكره من فضله: أن الله قدّم له الصّنع فى سابق علمه، فجعل محتده (5) خير المحاتد عنصرا، ثم اختار له أبا فأبا، لا ينقله من أب إلى أب إلا نقل معه وإليه فضيلة العنصر الذى هو منه، حتى صيره بعد فضائل أبيه إلى أفضل بدنه (6) فكان خير خلف من خير سلف، وأفضل ولد من أفضل أبوّة، وأرضى إمام من أزكى أئمة، ثم اختار له مكارم الأخلاق، وألبسه جمال الصورة، فلا نعلم نحن ولا

(1) فى الأصل «لمن يوحش الله أخذه بفقده» .

(2)

عزره: فخمه وعظمه- أو صوابه «ولم يعزز» أى لم يجعله عزيزا، والمعنى واحد.

(3)

فى الأصل «وموثق معصوم ثم استنقذه بموالاة

».

(4)

العورة: الخلل فى الثغر ونحوه.

(5)

المحتد: الأصل.

(6)

بدن الرجل. نسبه وحسبه.

ص: 210

آباؤنا خليفة أبعد فى حلمه من ذلّ، ولا فى هيبته من تجبّر، ولا فى شدّته من عنف، ولا فى لينه من وهن، ولا فى أناته من غفلة، ولا فى اقتصاده من بخل، ولا فى بذله من إضاعة، ولا أرقّ وجها عند لقاء، ولا أحسن بشرا عند تحيّة، ولا أغزر دمعا عند موعظة، ولا ألين قيادا عند تذكير بالله منه.

ثم أفضت إليه الخلافة، وفى المال ما فيه من القلة، وفى الناس ما فيهم من الاستجراح (1)، فما دفع عن مال يعطيه عن قلّة، ولا قطع عادة توسعة على رعيته، ثم استدرّ الحلب برفقه، فكلما درّ له منه شخب (2) فوّقه طائفة من جنده، حتى سقاهم بعد التفويق ريّا، وبعد النّهل عللا (3)، ثم ساس رعيته بألين السياسة، فعفا عن مذنبها ولو شاء لعاقب، وآمن خائفها ولو طلب لأدرك، ودفع بالحسنة السيئة ولو كافأ لقدر، فما برح صنع الله له يفضّ جموع الضّلالة بلا قتال، ويعزّ له النصر بلا مكاثرة، حتى فرغ- بشغله- من كان لا يفرغ من الوزراء، ونام- بسهره- من كان لا ينام من العامّة، واطمأنت- بمفاءاته (4) للأسفار- دار من كان لا ينال الخفض من الجنود حتى استوطئوا مركب الأمن، فكلهم ضنين بمفارقته.

أمّا ذو النية فركن إلى الخفض (5)، وأمّا من لا يد له (6) ففعل ما كان يؤخذ به من الاستكراه، وأما الحشو من الجند والرّعاع فغلبت عليهم عادة الهوينى، حتى لقد رأيناه يحزبه (7) الأمر، فما يجد له الأمر غناء عنده إن وكله إلى قوّته، ولا نشاطا ولا جدّا، ولا قوّة بماله (8)، فلما رأى ما رأى من تخاذل العامّة، وتواكل

(1) الاستجراح: النقصان والعيب والفساد.

(2)

الشخب بالفتح والضم: ما خرج من الضرع من اللبن إذا احتلب، وفوقه إياه: أعطاه إياه قليلا قليلا.

(3)

النهل: الشرب الأول، والعلل: الشرب الثانى.

(4)

جمع مفاءة، من فاء: إذا رجع.

(5)

الخفض: الدعة، وفى الأصل «النفض» .

(6)

اليد: القوة، وفى الأصل «لا يبدله» .

(7)

حزبه الأمر كنصر: اشتد عليه، وفى الأصل «حتى لو» وهو تحريف، والغناء: الكفاية.

(8)

فى الأصل، «وقواه بماله» يشير بذلك إلى ما كان من البرامكة من استئثارهم بأمور الدولة وتصريف أحوال السلطان واحتجان الأموال.

ص: 211

الجنود، ونزور (1) الفىء، وجمود الحلب، واستكلاب (2) العمّال على الخيانة، وجرأة الرعية على منع الحق، ومال الفراغ بكثير من الناس عن القصد (3)، فتحركت الأهواء واستعرت نيران العصبيّة، وجاشت صدور الحسدة وأشياعهم بالأمانى، وظنوا أن لا شدّة معه، وأن عفوه لا نكير بعده، وأمير المؤمنين يرمقهم بعين بصيرة، وأذن مصيخة (4)، وقلب يقظان، وقد وفّر الحلم أن يخفّ لأول بوادر السفهاء، فهو ينتظر بالمدبر أن يقبل، وبالمائد (5) أن يعتدل، وبالمغلوب على رأيه أن يتذكّر فيبصر، شمّر فى إثرهم تشمير من قدّم الروية قبل العجلة، والعفو قبل العقوبة، والتثبّت قبل الإقدام، فاتخذ روابط (6) انتجبها (7) على الجلد والنشاط، ليست لهم سوابق تدعوهم إلى الإدلال، وتسمو بهم إلى كثير لم ينالوه، إنما همّهم أن يتفاضلوا فى النجدة، ويستوجبوا بالغناء، ثم فرّقهم على خواصّ خدمه، فإذا أراد أن يتناول بهم فرصة ممكنة، أوعدوا غارّا (8)، أو رتق فتق قبل اتّساعه (9)، يغمس يديه إلى أيّهم أراده، فينفذ لأمره، ولم يشركه فيه مشير، ولم يخرج به توقيع، ولم يحص فيه عامة، ولم يطّلع منه على مكيدة، فلم نعلم أننا رأينا جندا أسرع نهضة إذا أمروا، وأحسن إجابة إذا دعوا، وأفضل غناءا إذا استكفوا من جنده، ثم قصد بنفسه حتى مثل بين النواحى إلى أهمّها له فسادا فى البيضة (10)، وانتقاصا من الأطراف، فأتى ناحية الشأم فوطئها وطأة جمع الله بها منهم شتات الفرقة، وأخمد بها بينهم نار الفتنة.

(1) النزور: القلة.

(2)

استكلب الكلب، ضرى وتعود أكل الناس (واستكلب الرجل: نبح فى قفر لتسمعه الكلاب فتنبح فيستدل بها عليه) ويقال أيضا: تكالبوا عليه: أى تواثبوا وحرصوا عليه حتى كأنهم كلاب

(3)

القصد: الاستقامة.

(4)

من أصاخ له: أى استمع.

(5)

من ماد يميد: أى تحرك واضطرب.

(6)

أى جنودا مرابطة.

(7)

أى اختارها.

(8)

الغار: الغافل.

(9)

فى الأصل «قبل الساعة» وهو تحريف.

(10)

البيضة: الحوزة والساحة.

ص: 212

وأما الجزيرة فإنه ألفاها وهى كالجرح النّغل (1)، فاستأصل الله به منها شأفة الداء، وأطفأ به عنها نوائر (2) السفهاء، وخيّر أمير المؤمنين من منزله الذى هو به منزلا جمع من بسطة فى الموضع، ورفاغية (3) فى المعاش، أنه حامل للجنود، جامع للمرافق، فباشر أمره أمرا أمرا، حتى إذا استدبر (4)، له منها مبرم، استقبل بعده جسام (5) منتقض، وإذا أثخن (6) من ثغوره ثغر لم يرض حتى يفتتح من حصون أعدائه حصنا، وإذا قضى الله عنه حجّة، وصل خطوه منها عزّا، ثم رأينا ما عزم الله به عليه من ترك الصوائف (7)، مراقبا للذى كان من غموط (8) أهل الشام لما كانوا فيه من النعمة، فلم نشكك فى أنه توفيق من الله له وافق سخطا عليهم، حتى استباحوا الحرم، وتسافكوا الدماء، ونقضوا ما بينهم من مبرم حبل الإسلام.

ومن ذلك أن أرمينية كانت فيها جنود تخرج عليهم أطماع (9)، وتحمل إليهم- بعد اعترافهم خراجهم- الأموال من كور الشام، فلما رأى ذلك فعل كذا وكذا، فلم يتوكّل على الله فى أمره فوكله إلى نفسه، ولم يكتف به فى حفظ طرف أو قاصية ثغر إلّا كفاه مئونته، وعلم أن ما يدخل منن (10) أضعاف العافية من عوارض العلل، إنما هو تقدير من الله لا يمتنع بعذر، ولا يستطاع دفعه بحيلة، يصيب فيه أقواما بالبلايا والتمحيص، ويقسم فيه لأقوام الأجر والجهاد والسعادة، فرأى أنّ فى عاجل

(1) من نغل الأديم كفرح: إذا فسد فى الدباغ، والشأفة: قرحة تخرج فى أسفل القدم فتكوى فتذهب، والأصل، واستأصل الله شأفته: أذهبه كما تذهب تلك القرحة، أو معناه: أزاله من أصله.

(2)

نوائر: جمع نائرة، وهى العداوة والشحناء، وفى الأصل «بوائر» .

(3)

الرفاغية: الرفاهية، سعة العيش والخصب.

(4)

فى الأصل «استدمج» .

(5)

شىء جسيم وجسام: عظيم.

(6)

أثخنه: غلبه وأوهنه، وفى الأصل «وإذا أشحن من ثغوره ثغرا» وهو تحريف.

(7)

الصوائف: جمع صائفة، وهى غزوة الروم، لأنهم كانوا يغزون صيفا لمكان البرد والثلج.

(8)

غمط النعمة كضرب وسمع: بطرها وحقرها ولم يشكرها (غير أن الوارد فى كتب اللغة أن مصدره غمط كشمش لا غموط).

(9)

أطماع: جمع طمع بالتحريك، وهو رزق الجند.

(10)

المنن: جمع منة بالضم، وهى: القوة.

ص: 213

ما يرفع عن أهل أرمينية من ضرر مئونتهم وحمطهم (1)، نفعا للرعية، وإجمالا للفىء، ورفقا بالعامة، مع اقتصاره (2) فى «الأبواب» على أكناف سجيّتها، وفى سائر أرمينية على المقاتلة من أهلها، ولم يزل منذ أراه الله ذلك، يكفيه مئونة ذاك الثّغر، ويكفّ عنه بوائقه (3) حتى كأنه- فى هدوء الأحداث عنه، وسكون الأفئدة من روعاته- مصر من الأمصار، واسط المحلّة، مأمون النّائرة، فلما اغتنم خاقان (4) ما اغتنم، انتهز الفرصة مبادرا لما قد أيقن من معاجلة أمير المؤمنين إياه، فكأنه حين بلغه ذلك فى إعظامه إياه بسببه له، وما أتعب فيه من بدنه، وأسهر فيه من ليله، وأنصب (5) فيه من نهاره- لم يعلم الذى كان يكون من أشباهه (6) فى الأزمنة الماضية قبله- وإنه بذلك لجدّ عالم- غير أن حميّته للإسلام، وشفقته عليه، وامتعاضه من أن يتناول شىء من أطرافه، قد زاد ذلك عنده قدرا فى العظم، وتفاقما (7) فى الخطب، حتى أكمل البعث بأكثر العدد وأكمل العدّة، واستقلّ (8) أهل الكور والأمصار، وندب له من أهل بيته من لم يترك بعده نهاية فى التخيّر، وكان قد صرف باله إلى هذين الثغرين من الخزر والروم، وإلى هذين العدوّين المحاربين له من المارقة المتعصّبة.

فلما بلغ الله فى إحكام أمرهما ما بلغ، لم يستغن عن إعادة النظر فى أمر غيرهما من نواحيه، ليستبرئ (9) به إرادته فى أقوام يدافع ظنونهم به فى أخرى، وعلم أن لما شمل من بمدينة السلام من الأمن والفراغ نتيجة مكروهة، فشخص عنها عند تحقيق ذلك، مؤثرا لأبغض وطنيه على أحبّهما، وأخشن عيشيه على ألينهما، فلما ظهرت له العورة

(1) حمطه كضربه: قشره، وخمطه كضربه أيضا: شواه.

(2)

فى الأصل «مع اقتصاده» وهو تحريف، وباب الأبواب: مدينة على بحر الخزر (بحر قزوين) من غربيه، والأكناف: النواحى، والسجية: الطبيعة.

(3)

البوائق: جمع بائقة، وهى: الداهية.

(4)

لقب ملك الترك.

(5)

أى أتعب.

(6)

فى الأصل «من اشتباهه» .

(7)

أى شدة.

(8)

أى حمل.

(9)

استبرأه: استنقاه.

ص: 214

أقدم إقدام ذى الحجّة، فلم ير مثلها نارا خبت (1)، وسحابة أقشعت، لم يسفك بها دم امرئ مسلم صبرا، ولم ينتهك فيها حرمة محرّم إباحة، وذلك أنه بسط يده بسط من يريد الاستصلاح لا من يريد الانتقام، فلم يلبث الظالع (2) أن رجع عن ظلعه، والناطق أن صمت عن بدعته، والناكث أن رجع إلى قصده، وازداد البرىء على البراءة فرحا، والسّالم بالسلامة اغتباطا.

ولم نر مثله فيما أفضى الله به إليه من خلافته، وحمّله من أمور عباده، أمّا ليله بمناجاة ربّه فيها واستعانته إياه عليها فساهر، وأمّا نهاره فى جلب فيئها وإحكام أمورها فتعب، وأما صدقاته على فقرائها وأهل الحاجة فجارية، وأما مجلسه من فقهائها وصلحائها فغاصّ (3)، وأما غلظته على ظالمها فعتيدة (4)، وأما إفضاله لمظلومها فمبسوط، ولئن كان الحق لزم أقواما استوجبوا فى أنفسهم وأموالهم، إنّا لنعلم أنّ ما ترك أكثر، وأنه لولا ما خفّف من الوطأة على أقوام لحمّل الواحد منهم مثل الذى حمّله للجميع، ولكنه رضى بالعفو، وسخا نفسا عن الاستقصاء، فأوجب أن يبسط يدا بغلظة، ويتبعها أخرى بلين، فكان من ذلك نظره فى هذه البقايا التى هى فىء المسلمين ومال الله، غير أن الله جعله قيّمه فيه، وفى أخذه وصرفه فى وجوهه، فلما رأى ضراوة (5) العمّال بها، ومصانعتهم دونها، وأن قد صارت كالسّنّة اللازمة، لا يدعها عفيفهم تورّعا، ولا شريفهم تنزّها، أحبّ مع توفيره للمسلمين فيئهم أن يحدث لهم أدبا يفطم به عنهم أهل الضّراوة، ويعرف به ذوو الاستخفاف بالأمانة والأمن (6) للتّبعة، أن لهم من تفقّده وأدبه عينا ترمق، ويدا تقبض، ولو أنه حين همّ بأخذ تلك البقايا حمل على

(1) خبت: انطفأت؛ وأقشع السحاب وانقشع وتقشع: انكشف.

(2)

من ظلع كمنع: إذا غمز فى مشبه، والمراد المنحرف الزائغ.

(3)

منزل غاص بالقوم: أى ممتلئ.

(4)

أى حاضرة مهيأة.

(5)

ضرى به كرضى ضراوة: لهج به وأغرى، والمصانعة، الرشوة والمداهنة.

(6)

فى الأصل «والأمر» وهو تحريف.

ص: 215

الموسر بقدر يساره، وأخذ المعسر بطاعته، كان قد أنصف، كلا! ولكنه أحب أن يستبقى قوة، ولا يبلغ من المكثر جهدا، واقتصر بهم على العشر من ذلك، كرما فى القدرة حين رأى موضع الرّفق، وتجافى عن العلّة حين عرف مكان العذر، فأىّ نعمة أعظم، وأىّ بلاء أحسن من هذه البقايا؟ كانت فى أيديهم جماما (1) فلما اطّلع طلعها (2) أخذ ما أخذ، وترك ما ترك، محلّلا مع ما جعل الله فى ذلك من [كلمات (3)] المقصّر من العمّال المؤذية التى لم تكن تعدو أفواههم، فليس منهم أحدا إلا كان منه له واعظ ألّا يكسر شيئا من الخراج تضييعا، أو يأخذه غلولا (4)، أو ينفقه إسرافا، أو يتركه إرهابا.

فلما فرغ من علاج الداء المخوف فاستأصله، ومن الفىء المتفرق فجمعه، ومن الأمور المعطّلة فأحكمها، استخلف على القيام بذلك من لا يجزئه (5) عقله عن حذر، ولا إضاعة عن حفظ، ولا لين عن تشدّد، ولا يستحل الأكف عن نقض ما أبرم، ولا مزاولة ما أحكم، ولا فتح ما أغلق، ولا إغلاق ما فتح، «فلان»: خيرة أبويه، ومحّ (6) بيضته، وجوهر أرومته، الفائت سبقا، البيّن عنقا (7)، الراسخ عرقا، المتفجر بحرا، المحمود أمرا، القائل فصلا، الحاكم عدلا، ثم انصرف بما أفاده الله من الأجر إلى جناحه الذى كان مدّه على من خلّف من الأهل والأموال والرعايا والجنود، «فلان»:

سليل صلبه، وثمرة قلبه، المحتنك (8) مع فتاء سنّه عقلا، والمأمون مع شدة شكيمته

(1) الجمام بالضم والكسر، أصله ما اجتمع من ماء الفرس.

(2)

يقال، اطلع طلعه: إذا علم أمره.

(3)

محل هذه الكلمة بياض بالأصل، وهى المناسبة للمقام.

(4)

الغلول بالضم، الخيانة.

(5)

أى لا يغنيه، وفى الأصل «يحويه» وأراه محرفا.

(6)

المح: صفرة البيض أو ما فى البيض كله.

(7)

العنق: ضرب من السير فسيح سريع.

(8)

المحتنك، الذى أحكمته التجارب، والفتاء: الشباب.

ص: 216

حملا، والمحصد (1) مع لينه وتعطّفه أمرا، الشبيه بأمير المؤمنين إن نطق لفظا، وإن نظر لحظا، وإن سئل جودا، وإن اهتصر (2) عودا، وإن ساس رفقا، وإن غضب حلما، وإن وصف علما» وإن كلّم فهما، وإن قدر عفوا، وإن لقى بشرا، وإن نازع فلجا (3)، وإن قارع ظفرا، فكان عند ظنه به، رعاية للحرمة، وحزما فى المكيدة، وجلبا للفىء، وحياطة للغائب، ومباشرة للشاهد.

هذا قليل من كثير، مما جعلك الله أهله، وإنما اقتصرت عليه لأنى رأيت المتكلمين من الخطباء تركوه، وأن ما سمعت من الكتب المقروءة لم تنتظمه، فأحببت أن يعلم أمير المؤمنين أن له فى كل أمر عمل به فى رعيته حجة واضحة، وعذرا معروفا، إن قام به متكلّم فى خاصّة حسن موقعه، وإن قرئ به كتاب فى عامّة قويت به حجّته.

والحمد لله الذى جعله وذرّيته أولياء هذه النعم، والمخصوصين بهذه الفضائل، ونسأله أن يبقيه وإياهم للدّين الذى سدّ بهم عورته، والحقّ الذى أقرّ بهم جادّته، والعدل الذى أوضح بهم أعلامه حتى يكونوا ورثة هذه الأمة وخلفاءها فى غابر الدهر وباقيات الأيام، مستقلّين (4) بالعدل، موفّقين للسّداد، معصومين من الشّبهات، مستوجبين مع فضائل الدنيا لأفضل كرامات المعاد، والسلام». (اختيار المنظوم والمنثور 12: 192)

167 -

رسالة أبى الربيع محمد بن الليث التى كتبها للرشيد إلى قسطنطين (5) ملك الروم

«من عبد الله هرون أمير المؤمنين إلى قسطنطين عظيم الروم:

سلام على من اتبع الهدى، فإنى أحمد الله الذى لا شريك معه، ولا ولد له، ولا

(1) المحصد: المحكم أيضا.

(2)

اهتصره: كسره.

(3)

الفلج، الفوز والظفر.

(4)

أى ناهضين به رافعين له.

(5)

هو قسطنطين السادس، ولى ملك الروم سنة 780 م (وقد ولى الرشيد الخلافة من سنة 786 إلى سنة 890 م- سنة 170 إلى سنة 193 هـ).

ص: 217

إله غيره، الذى تعالى عن شبه المحدودين بعظمته، واحتجب دون المخلوقين بعزّته، فليست الأبصار بمدركة له، ولا الأوهام بواقعة عليه، انفرادا عن الأشياء أن يشبهها، وتعاليا أن يشبهه شىء منها، وهو الواحد القهّار، الذى ارتفع عن مبالغ صفات القائلين ومذاهب لغات العالمين، وفكر الملائكة المقرّبين، فليس كمثله شىء، وله كل شىء، وهو على كل شىء قدير.

أما بعد، فإن الله جل ثناؤه، وتباركت أسماؤه، قال لنبيه صلى الله عليه وسلم فيما أنزل من آيات الوحى إليه:«ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ» فرأى أمير المؤمنين من أحسن قوله، وأفضل فعله، أن يكون إلى سبيل ربه داعيا، وبرسوله صلى الله عليه وسلم متأسّيا، ولقوله:«وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ» موافقا، وكنت- من كتب الله المنزّلة، وآياته المفسّرة، وخلقه الكثير- بحيث رجا أمير المؤمنين استماعك لموعظته، وانتفاعك بمجادلته انتفاع بشر كثير وخلق عظيم، قد بؤت بأوزارهم مع وزرك، واحتملت من آثامهم إلى إثمك فأحبّ أن يدعوك ومن رجا أن ينتفع بدعوته معك، إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألّا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتّخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله، فإن تولّيتم عن ذلك رغبة عنه، أو تركتموه زهادة فيه، فاشهدوا بأنّا مسلمون، واستمعوا ما أمير المؤمنين واصف لكم، ومحتجّ به إن شاء الله عليكم، بقلوب شاهدة، وآذان واعية، ثم اتّبعوا أحسن ما تستمعون، ولا قوة إلا بالله.

فإن الله عز وجل يقول فيما أنزل من كتابه، واقتصّ على عباده:«فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ، أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ» إن الله تبارك اسمه، وتعالى جدّه، وصف فيما أنزل من آياته، وشرح من بيّناته، الأمم الماضية، والقرون الخالية، والملل المتفرقة، الذين يجعلون مع الله

ص: 218

آلهة أخرى لا برهان لهم بها، ولا حجة لهم فيها، فقال:«يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ، إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ، انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ، إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ، سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ، لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا. لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ» .

قالت العرب الذين يعبدون الملائكة، وأهل الكتاب الذين يقولون ثالث ثلاثة:

بأيّتما آية يا محمد تزعم أن الله إله واحد! فأنزل الله عز وجل فى ذلك آية تشهد لها العقول، وتؤمن بها القلوب، وتعرفها الألباب، فلا تستطيع لها ردّا، ولا تطيق لها جحدا، ذكر فيها اتصال خلقه، واتّفاق صنعه، ليوقن الجاهلون من العرب، والضالّون من أهل الكتاب، أنّ إله السماء والأرض وما بينهما من الهواء والخلق واحد لا شريك له، خالق لا شىء معه، فقال:«إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» فتفكّر فى تفسير هذه الآية من كلام الرّبّ عز وجل، وما أوضح فيها من بيان الخلق، فإنه ما من مفكر ينظر فيما ذكر الله فيها مما بين السماء والأرض، إلّا رأى من اتصال بعض ذلك ببعض، مثل ما رأى فى تدبيره نفسه، وعرف من اتصال خلقه فيما بين ذوائب (1) شئون رأسه، إلى أطراف أنامل قدمه، وفى ذلك أوضح آية، وأبين دلالة، على أن الذى خلقه وصنعه إله واحد لا إله معه، ولا من شىء ابتدعه، ولا على مثال صنعه،

(1) الذوائب: جمع ذؤابة بالضم، وذؤابة كل شىء، أعلاه: والشئون، مواصل قبائل الرأس (وهى القطع المشعوب بعضها إلى بعض).

ص: 219

قد ترون بعيونكم وتعلمون بعقولكم، أن الله عز وجل خلق للأنام الأرض، وجعلها موصولة بالخلق، فليس يدحوها (1) إلا لهم، ولا يديمها إلا معهم. وجعل ذلك الخلق متصلا بالنّبت، لا يقوم إلا به، ولا يصلح إلا عليه، وجعل ذلك النبت الذى جعله متاعا لكم، ومعاشا لأنعامكم متّصلا بالماء الذى ينزل من السماء بقدر معلوم لمعاش مقسوم، فليس ينجم (2) النبت إلا به، ولا يحيا إلا عنه، وجعل السحاب الذى يبسطه كيف يشاء، متصلا بالريح المسخّرة فى جوّ السماء تثيره من حيث لا تعلمون، وتسوقه وأنتم تنظرون كما قال الله عز وجل:«وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ» ووصل الرياح التى يصرّفها فى جوّ السماء، بما يؤثّر فى خلق الهواء، من الأزمنة التى لا تثبت الهواحر (3) إلا بثباتها، ولا يزول عنه برد إلا بزوالها، ولولا ذلك لظلّ راكدا بالحرّ المميت، أو مائلا (4) بالبرد القاتل، ووصل الأزمنة التى جعلها متصرّفة متلوّنة بمسير الشمس والقمر الدائبين لكم، المختلفين بالليل والنهار عليكم، وجعل مسيرهما الذى لا تعرفون عدد السنين إلا به، ولا مواقع الحساب إلا من قبله، متصلا بدوران الفلك الذى فيه يسبحان، وبه يأفلان، ووصل مسير الفلك بالسماء للناظرين سواء، فهذا خلق الله عز وجل، ما فيه تباين ولا تزايل ولا تفاوت، كما قال سبحانه وتعالى:

«ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ» ولو كان لله شريك أو معه ظهير (5) عليه، يمسك منه ما يرسل، ويرسل منه ما يمسك، أو يؤخّر شيئا من ذلك عن وقت زمانه أو يعجّله قبل مجىء إبّانه، لتفاوت الخلق، ولتباين الصنع، ولفسدت السموات والأرض، ولذهب كل إله بما خلق كما قال عز وجل وكذّب المبطلين- بَلْ أَتَيْناهُمْ*

(1) دحاها يدحوها: بسطها.

(2)

نجم كنصر: طلع وظهر.

(3)

الهواجر: جمع هاجرة، وهى شدة الحر.

(4)

فى الأصل «مايلا» ، أو صوابه «ماثلا» .

(5)

الظهير: المعين.

ص: 220

بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ، إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ».

والعجب: كيف يصف مخلوق ربّه، أو يجعل معه إلها غيره! وهو يرى فيما ذكر الله من هذه الأشياء، صنعة ظاهرة، وحكمة بالغة، وتأليفا متّفقا، وتدبيرا متصلا، من السماء والأرض، لا يقوم بعضه إلا ببعض، متجلّيا بين يديه، ماثلا نصب عينيه، يناديه إلى صانعه، ويدلّه على خالقه، ويشهد له على وحدانيته، ويهديه إلى ربوبيّته «فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ. أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ» حقا ما كرّر هؤلاء الجاهلون بربهم، الضالّون عن أنفسهم، فى خلق الله النظر، ولا رجعوا- كما قال الله عز وجل الفكر، ولو أعملوا فكرهم، وأجهدوا نظرهم، فيما تسمع آذانهم، وترى أبصارهم، من حوادث حالات الخلق، وعجائب طبقات الصّنع، لوجدوا فى أقرب ما يرون بأعينهم: من التأليف لتركيب خلقهم، والأثر فى التدبير بصنعهم، ما يدلّهم على توحيد ربهم، ويقف بهم على انفراده بخلقهم، فإنهم يرون فى أنفسهم بأعينهم، ويجدون بقلوبهم، أنها مخلوقة صنعة بعد صنعة، ومحوّلة طبقة عن طبقة، ومنقولة حالا إلى حال:

سلالة من طين، ثم نطفة من ماء مهين (1)، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظما كساه الله عز وجل لحما ونفخ فيه روحا فإذا هو خلق آخر، فتبارك الله أحسن الخالقين، الذى خلق فى قرار مكين، من ماء قليل ضعيف ذليل، خلقا صوّره بتخطيط، وقدّره بتركيب، وألّفه بأجزاء متّفقة، وأعضاء متّصلة، من قدم إلى ساق إلى فخذ إلى ما فوق ذلك، من مفاصل ما يعلن، أو عجائب ما يبطن، ليعلم الجاهلون، ويوقن الجاحدون، أن الذى صنع ذلك وخلقه، ودبّره وقدّره، وهيّأ ظاهره وباطنه، إله واحد لا شريك معه، فلا يذهبنّ ذكر هذا صفحا عنكم، ولا تسقط حكمته جهلا به عليكم، وفكّروا

(1) المهين: الحقير.

ص: 221

فى آيات الرسل وبيّنات النّذر، فإن فى ذلك فكرا للمبصرين، وبصرا للمعتبرين، وذكرى للعابدين، والحمد لله رب العالمين.

وأمير المؤمنين واصف لكم، ومقتصّ من ذلك إن شاء الله عليكم، ما فيه شهادات واضحات، وعلامات بيّنات، ومبتدئ بذكر آيات نبينا صلى الله عليه وسلم فيما أنزل الله منها فى الوحى إليه، فإنه ما أحد يقرع بآيات النبوّة قلبه، ويحصّن ببيّنات الهدى عقله، إلا قادته حتى يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، لا يجد إلى إنكار ما جاء به من الحق سبيلا، فأردت أن تكونوا على علم ومعرفة ويقين وثقة من أمر محمد صلى الله عليه وسلم وحقّه وما أنزل إليه من ربه عز وجل، فأحضر كتاب أمير المؤمنين فهمك، وألق إلى ما هو واصف إن شاء الله سمعك.

إن الله عز وجل اصطفى الإسلام لنفسه، واختار له رسلا من خلقه، وابتعث كل رسول بلسان قومه، ليبيّن لهم ما يتّبعون، ويعلّمهم ما يجهلون، من توحيد الرب، وشرائع الحق «لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ، وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً» فلم تزل رسل الله قائمة بأمره، متوالية على حقه، فى مواضى الدهور، وخوالى القرون، وطبقات الزمان، يصدّق آخرهم بنبوّة أوّلهم، ويصدّق أولهم قول آخرهم، ومفاتح دعوتهم واحدة لا تختلف، ومجامع ملّتهم ملتئمة لا تفترق، حتى تناهت الولاية والوراثة التى بنى عيسى عليه السلام عليها وبشّر بها، إلى النبى الأمّىّ الذى انتخبه الله لوحيه، واختاره بعلمه، فلم يزل ينقله بالآباء الأخاير، والأمّهات الطواهر، أمة فأمة، وقرنا فقرنا، حتى استخرجه الله فى خير أوان، وأفضل زمان، من أثبت محاتد (1) أرومات البريّة أصلا، وأعلى ذوائب نبعات (2) العرب فرعا، وأطيب

(1) محاتد: جمع محتد كمجلس. وهو الأصل، والأرومة بالفتح وتضم: الأصل أيضا.

(2)

نبعات: جمع نبعة كوردة، والنبع شجر يتخذ منه القسى والسهام، ومعناها هنا الأصول.

ص: 222

منابت أعياص (1) قريش مغرسا، وأرفع ذرى مجد بنى هاشم سمكا (2)، محمد صلى الله عليه وسلم خيرها عند الله وخلقه نفسا، على حين أوحشت الأرض من أهل الإسلام والإيمان، وامتلأت الآفاق من عبدة الأصنام والأوثان، واشتعلت البدع فى الدين، وأطبقت الظلم على الناس أجمعين، وصار الحق رسما عافيا (3)، خلقا باليا، ميّتا وسط (4) أموات، ما إن يحسّون للهدى صوتا يسمعونه، ولا للدّين أثرا يتّبعونه، فلم يزل صلى الله عليه وسلم قائما بأمر الله الذى أنزل إليه، يدعوهم إلى توحيد الرب عز وجل، ويحذّرهم عقوبات الشّرك، ويجادلهم بنور البرهان، وآيات القرآن، وعلامات الإسلام، صابرا على الأذى، محتملا للمكروه، قد ألهمه الله عز وجل أنه مظهر دينه، ومعزّ تمكينه، وعاصمه ومستخلفه فى الأرض، فليس يثنيه ريب، ولا يلويه هيب، ولا يعنّيه أذى، حتى إذا قهرت البينات ألبابهم، وبهرت الآيات أبصارهم، وخصم نور الحق حجتهم، فلم تمتنع القلوب من المعرفة بدون صدقه، ولم تجد العقول سبيلا إلى دفع حقه، وهم على ذلك مكذّبون بأفواههم، وجاحدون بأقوالهم، كما قال الله عز وجل العليم بما يسرّون، الخابر بما يعلنون:«فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ» بغيا وعداوة، وحسدا ولجاجة، افترض الله عليه قتالهم، وأمره أن يجرّد السيف لهم، وهم فى عصابة يسيرة، وعدّة قليلة، مستضعفين مستذلّين، يخافون أن يتخطّفهم العرب، وتداعى عليهم الأمم، وتستحملهم (5) الحروب، فآواهم فى كنفه، وأيّدهم بنصره، وأنذرهم بمقدمة من

(1) الأعياس: جمع عيس بالكسر، وهو الأصل، ومنبت خيار الشجر.

(2)

سمكه سمكا: رفعه، والسمك أيضا، السقف.

(3)

أى ممحوا دارسا.

(4)

جاء فى كتب اللغة: «تقول جلست وسط القوم بالتسكين لأنه ظرف، وجلست فى وسط الدار بالتحريك لأنه اسم، وكل موضع يصلح فيه بين فهو وسط بالتسكين، وإن لم يصلح فيه بين فهو وسط بالتحريك، وربما سكن، وليس بالوجه» .

(5)

استحمله نفسه: حمله حوائجه وأموره.

ص: 223

الرعب، ومشغلة من الحق، وجنود من الملائكة، حتى هزم كثيرا من المشركين بقلّتهم، وغلب قوة الجنود بضعفهم، إبحازا لوعده، وتصديقا لقوله:«وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ» فأحسن النظر وقلّب الفكر فى حالات النبى صلى الله عليه وسلم من الوحى قائما لله، لتجد لمذاهب فكرك، وتصاريف نظرك، مضطربا واسعا، ومعتمدا نافعا، وشعوبا جمة، كلها خير يدعوك إلى نفسه، وبيان يكشف لك عن محضه، وأخبر أمير المؤمنين ما كنت قائلا لو لم تكن البعثة للنبىّ صلى الله عليه وسلم بلغتك، ولم تكن الأنباء بأموره تقرّرت قبلك، ثم قامت الحجة بالاجتماع عندك، وقالت الجماعة المختلفة لك: إنه نجم بين ظهرانى (1) مثل هذه الضلالات المستأصلة، والجماعات المستأسدة (2)، التى ذكر أمير المؤمنين، من قبائل العرب، وجماهير الأمم، وصناديد الملوك، ناجم قد نصب لها، وغرى (3) بها، يجهّل أحلامها (4)، ويكفّر أسلافها، ويفرّق ألّافها، ويلعن آباءها، ويضلّل أديانها، وينادى بشهاب (5) الحق بينها، ويجهر بكلمة الإخلاص إلى من تراخى عنها، حتى حميت العرب، وأنفت العجم، وغضبت الملوك، وهو على حال ندائه بالحق ودعائه إليه، وحيدا فريدا لا يحفل بهم غضبا، ولا يرهب عنتا (6)، يقول الله عز وجل:«يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ، وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ» أكنت تقول فيما تجرى الأقاويل به، وتقع الآراء عليه، إلا أنه أحد رجلين: إما كاذب يجهل ما يفعل، ويعمى عما يقول، وقد دعا الحتف (7) إلى نفسه،

(1) يقال: هو بين ظهريهم وظهرانيهم- ولا تكسر النون- وبين أظهرهم: أى وسطهم.

(2)

أى القوية.

(3)

يقال: غرى به كفرح وأغرى به وغرى مبنيين للمجهول: أى أولع.

(4)

الأحلام: جمع حلم بالكسر، وهو العقل.

(5)

الشهاب: شعلة من نار ساطعة.

(6)

العنت: دخول المشقة على الإنسان.

(7)

الحتف: الهلاك.

ص: 224

وأذن الله لقومه فى قتله، فليست الأيام بمادّة له، ولا الحال بثابتة له، إلّا ريثما تستلحمه (1) أسبابهم، وينهض به حلماؤهم، غضبا لربهم، وأنفة لدينهم، وحميّة لأصنامهم، وحسدا من عند أنفسهم. وإما صادق بصير بموضع قدمه، ومرمى نبله، قد تكفّل الله عز وجل بحفظه، وصحبه بعزّه، وجعله فى حرزه، وعصمه من الخلق، فليست الوحشة بواصلة- مع صحبة الله- إليه، ولا الهيبة بداخلة- مع عصمة الله- عليه، ولا سيوف الأعداء بمأذون لها فيه، ثم ما رأيكم (2) يا أهل الكتاب لو قيل لكم:

إن الرجل الذى يدعى العصمة، وينتحل المنعة، قد نجحت الأمور به على ما قال، وسلمت الحال له فيما ادّعى، حتى نصب لعمارات (3) العرب، وجماعات الأمم يقاتل بمن طاوعه من خالفه، وبمن تابعه من عانده، جادّا مشمّرا، محتسبا واثقا بموعود الله ونصره، لا تأخذه لومة لائم فى ربّه، ولا يوجد لديه غميزة (4) فى دينه، ولا يلفته خذلان خاذل عن حقه، حتى أعزّ الله دينه، وأظهر تمكينه، وانقادت الأهواء له، واجتمعت الفرق عليه، ألم يكن ذلك يزيد حقّه يقينا عندكم، ودعوته ثبوتا فيكم، حتى تقول الجماعة من حلمائكم، وأهل الحنكة من ذوى آرائكم: ما كان الرجل- إذ كان وحيدا فريدا قليلا، ضعيفا ذليلا، معروفا بالعقل، منسوبا إلى الفضل- ليجترئ أن يقول: إن الله عز وجل أوحى إليه فيما أنزل من الكتاب عليه أن يعصمه من العرب جميعا، ويمنعه من الأمم طرّا (5)، حتى يبلّغ رسالات ربه، ويظهره على الدين كله، ويدخل الناس أفواجا فى دينه، إلا وهو على ثقة من أمره، ويقين من حاله.

فسبحان الله يا أهل الكتاب! ما أبين حقّ النبى صلى الله عليه وسلم لمن طلبه، وأسهله لمن قصد له؛ واستعملوا فى طلبه ألبابكم، وارفعوا [إليه (6)] أبصاركم،

(1) استلحم (مبنيا للمجهول) إذا نشب فى الحرب فلم يجد مخلصا.

(2)

فى الأصل «ثم إن آيتكم» وهو تحريف لا يستقيم عليه المعنى، وقد أصلحته كما ترى.

(3)

العمارة بالفتح والكسر: الحى العظيم.

(4)

يقال: فيه مغمز وغميزة: أى مطعن.

(5)

أى جميعا.

(6)

فى الأصل بياض محل هذه الكلمة.

ص: 225

تنظروا بعون الله إليه، وتقفوا إن شاء الله عليه، فإن علامات نبوّته، وآيات رسالته، ظاهرة لا تخفى على من طلبها، جمّة لا يحصى عددها، منها خواصّ تعرفها العرب، وعوامّ لا تدفعها الأمم، فأما الخواصّ المعروفة لدينا، المعلومة عندنا، التى أخذتها الأبناء عن الآباء، وقبلها الأتباع عن الأسلاف، فأمور قد كثرت البيّنات فيها، وتداولت الشّهادات عليها، وثبتت الحجج بها، وتراخت الأيام ببعضها، حتى رأيناه عيانا، وقبلناه إيقانا، فهى أظهر فينا من الشمس، وأبين لدينا من النهار، ولكن غيّبت الأزمان عنكم أمرها، ولم ينقل الآباء إليكم علمها، وما لا يدرك إلا بالسمع موضوع الحجة عن العقل، فليس أمير المؤمنين بمحاجّ لكم، ولا قاصد إليكم من قبلها.

وأما الآيات العوامّ والدّلالات الظاهرة فى آفاق الأرضين، القاطعة لحجج المبطلين، التى لا تنكر عقول الأمم وجوب حقها، ولا تدفع ألباب الأعداء صحة أمرها، فسيولجها أمير المؤمنين مسالك أسماعكم، ويعيد بها حجّة الله فى أعناقكم، من وجوه جمّة وأبواب كثيرة إن شاء الله، منها: أنه لم تزل الشياطين فيما خلا من فترات الرسل، وندرات (1) النّذر، تصعد إلى سماء الدنيا، وتنصت للملإ الأعلى، فتسترق السّمع، وتحتفظ العلم، وتنزل به إلى كل أفّاك (2) أثيم، يبنون أكاذيبهم على واضح صدقه، وينفّقون (3) أباطيلهم بحسب حقه، خلطا للباطل فيه، وثبوتها؟ ؟ ؟ (4) للعباد عليه، فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم، وأنزل آيات القرآن إليه، حرست السماء بالنجوم، ورميت الشياطين بالشّهب، وانقطعت الأباطيل، واضمحلت الأكاذيب، وخلص الوحى فبطلت الكهّان، وضلّت السّحّار، وكذبت الأحلام، وتحيّرت الشياطين، فكانت آية بيّنة، وعلامة واضحة، وحجّة بالغة، تبهر قرائح العقول، وتخرق

(1) أى فترات أيضا، يقال: لقيثه ندرة وفى الندرة: أى بين الأيام.

(2)

الأفاك: الكذاب.

(3)

ينفقون: أى يروجون، مضعف من نفق البيع: أى راج.

(4)

كذا فى الأصل.

ص: 226

حجب الغيوب، فلا يقوم مع ضيائها ظلمة، ولا يثبت عند محكمها شبهة، ولا يقيم معها فى محمد صلى الله عليه وسلم شكّ، لا من أصحابه خاصّة، ولا ممّن جاء بعده عامّة، وإنما جعلها الله عز وجل آية باقية فى الغابرين، وحراسة ثابتة من الشياطين، لأن الله جلّ وعلا جعل نبيّنا صلى الله عليه وسلم آخر النبيين، فليس باعثا بعده نبيا يكذّب أقاويل الكهنة، ويقطع أخابير (1) الجّنة.

وستقول- فيما يذهب إليه الظنّ، ويقع عليه الرأى- أنت ومن عقل من أمتك وأهل ملتك، هذه آية حاسمة، وحجة قاطعة بيّنة قائمة، مستعلية لأمرها، مستغنية بنفسها لا تحتاج إلى ما قبلها، ولا يتّكل على ما بعدها، إن أقرّت العقول بما تقول، أو قامت البينة على ما تدّعى، بلى، ثم تقول: وأنّى لك بالبيّنة؟ ولسنا نقرّ بكتابك، ولا نؤمن برسولك، ولا نقبل قولك فيما قد سبقنا وإياك زمانه، وحجبت الغيوب عنا وعنك علمه، فأرجع إليكم إن قلتم ذلك، فإن وجدان القضاة قبل طلب البيّنات.

وليس يجعل أمير المؤمنين فيما ينازعك ويحاجّك فيه حاكما غير عقلك، ولا قاضيا سوى نفسك، ولكنه يذكّرك الله الذى إليه معادك، وعليه حسابك، لمّا (2) جعلت التفهّم لمسألته من بالك، وركبت حدودها فى جوابك، عادلا بالقسط، قاضيا بالحق، قائلا يالصدق ولو على نفسك، ناظرا بالأثرة لدينك، فلقد وفق الله لك آية، وأهدى إليك بيّنة، لا تستطيع دفعها لحجبها عن عقلك، ولا حجابا لنورها دون بصرك، فلا تدفع الآية بقولك، والبيّنة بلسانك، جحدا يقطع وصول الحجج إليك، ولا تغلق (3) أبواب الفهم عنك، فإن اللسان لك مداول حيث شئت، ومنقاد تصرّفه فيما هويت، ولكن انصب نفسك للفهم وأنت شهيد، وأرد الحق وقبوله فيما تريد،

(1) أخابير: جمع الجمع الخبر.

(2)

أى إلا.

(3)

فى الأصل «ويد تغلق» وهو تحريف.

ص: 227

فإذا تصوّرت البيّنات مجسّدة فى قلبك، وتبيّنت الحجج ممثّلة لنظرك، قد أضاء صوابها لك، وقرع حقّها قلبك، فاجعل القول بها شعارا للّسان به متصلا، وافهم المسألة، فهّمك الله الحقّ، وجنّبك الجحد، ما تقول أنت ومن قبلك فى رجل كان يتيما ضعيفا أجيرا ساهيا لاهيا عائلا (1) خاملا، لم يتل كتابا، ولم يتعلم خطّا، ولم يك فى محلّة علم، ولا إرث ملك، ولا معدن أدب، ولا بيت نبوّة، فتراقت الأيام به، واتصلت الحال بأمره، حتى خرج إلى العرب عامّة، والقبائل كافّة، وحيدا طريدا شريدا، مخذولا مجهولا، مجفوّا مرميّا بالعقوق لآلهتهم، مقذوفا بالكذب على أصنامهم، منسوبا إلى الهجر لأديانهم، وهم مجمعون على دعوة العصبيّة، وحميّة الجاهلية، متعادون متباغون، مختلفة أهواؤهم، متفرّقة أملاؤهم (2)، يتسافكون الدماء، ويتناوحون (3) النساء، ويستحلّون الحرم، لا تمنعهم ألفة، ولا تعصمهم دعوة، ولا يحجزهم برّ، فألّف قلوبها، وجمع شتيتها، حتى تناصرت القلوب، وتواصلت النفوس، وترافدت (4) الأيدى، ثم اجتمعت الكلمة، واتفقت الأفئدة، حتى صار غاية لملقى رحالهم، ونهاية لمنتجع أسفارهم، وصاروا له حزبا متفقين، وجندا مطيعين، بلا دنيا بسطها لهم، ولا أموال أفاضها بينهم، ولا سلطان له عليهم، ولا ملك سلف لآبائه فيهم، ولا نباهة كانت له بين ظهرانيهم، أتقول: إنه ما قال ذلك كله إلا بوحى عظيم، وتنزيل كريم، وحكمة بالغة؟ فإن قلت ذلك فقد أقررت أن محمدا صلى الله عليه وسلم رسول، وتركت ما كنت تقول إنه لم يدركه ولم يبلغه إلا بعقل سديد، ونظر بعيد، ورفق لطيف، ورأى وثيق، استبى به عقول الرجال، واستمال عليه أفئدة العوامّ، فإن قلتم ذلك، فأنا سائلكم بإلهكم الذى تعبدون،

(1) عائلا: فقيرا.

(2)

الأملاء: جمع ملأ كسبب، وهو الجماعة.

(3)

تناوح النساء: أن يقابل بعضهن بعضا إذا نحن، وكذا تناوح الرياح: إذا تقابلت فى المهب لأن بعضها يناوح بعضا.

(4)

ترافدت: تعاونت.

ص: 228

ودينكم الذى تنتحلون، لمّا صدقتم أنفسكم، وتجنّبتم الهوى عنكم: أتؤمن قلوبكم، وتقرّ عقولكم، ويحتمل نظركم أن محمدا صلى الله عليه وسلم الذى وصفتموه بكمال العقل، وبيان الفضل، ورفق التدبير، كان يقول لرجالات العرب، وجماعات الأمم، ودهاة قريش: إن من آيات نبوّتى، ودلالات رسالتى، وعلامات زمانى، أن الشياطين ترمى بنجوم السماء، ولم تك ترمى بها فيما خلا، ثم يجعل ذلك كتابا يقرأ، وقرآنا يتلى؛ وهو كاذب فيما تلا، ومبطل فيما ادّعى، إبطالا تدركه عيون الناظرين، وكذبا يظهر لجميع العالمين، فسبحان الله! أرأيتم أن لو كان فيما قال من الكاذبين، وعلى ما ادّعى من الآثمين، ثم حاول إبعاد القلوب، وإنغال (1) الصدور، وإنفار النفوس، وتفريق الجموع، أكان يزيد على ذلك؟ .

فيا أهل الكتاب، لا يحملنّكم الإلف لدينكم على اللّعب بتوحيدكم، فلعمر الله لئن تداركتم أنفسكم، وناصحتم نظركم، لتعلمنّ أن محمدا صلى الله عليه وسلم لو حاول الكذب، أو رام الإفك، لما كان يترك جميع الأرض، وما يغيب عن بعض الخلق ويظهر لبعض، ويقصد للسماء المتصلة بالبصر، البارزة للنظر، التى لا تخفى على بشر، ولا تغيب عن أحد، فيدّعى فيها كذبا ظاهرا، وإفكا بارزا مكشوفا، لا يبقى صغير ولا كبير، ولا ذكر ولا أنثى، إلا عرف أنه إفك وزور، وكذب وغرور، ولا سيّما إذا كان يلقى ذلك إلى أقوام أكثرهم أعراب، ليس بينهم وبين السماء حجاب، إنما يراعون الكواكب، ويتفقّدون الغيوم، فأبعد عهد آخرهم بها تفقّده لها، ونظره إليها ساعة أو ساعتين، أو ليلة أو ليلتين، لعمر الله لو عثرت العرب من أمر النبى صلى الله عليه وسلم على كذب، لكان أول من يواثبه به ويجادله فيه، أعداؤه من قريش عامّة، وحسّاده من جيرته خاصّة، ونظراؤه من أهل

(1) الإنغال: الإفساد. وأصله من نغل الأديم كفرح: إذا فسد فى الدباغ. وأنغله: أفسده.

ص: 229

بيته دنية (1) الذين كانوا يستغرّونه (2) بكل طريق، ويقعدون له على كل سبيل، ويتساءلون من أمره عن كل ذى حادث، فيتعلّقون بالحروف المشكلة، والآيات المشتبهة، جدلا وخصومة بها، وطعنا وإلحادا ومنازعة فيها، حتى لقد وصفهم الله بفعلهم، وأخبر عن ذلك من أمرهم، فقال عز وجل:«بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (3)» وما كان الله عز وجل ليقول ذلك ولا لأحد أن يقوله على الله فى أمرهم، إلا عن خصومة شديدة، ومنازعة بليغة، ومجادلة معروفة، فأحسن النظر لنفسك، ولا تهلكنّ شفقة على ملكك، فأيم الله لئن قلت: إن النجوم شىء كانت العرب تراه بعيونها، وتعرفه بقلوبها، فما كان محمد صلى الله عليه وسلم وهو عارف بها غير جاهل لها، ليقول فيها إلا حقّا، وينتحل فيها إلا صدقا، لقد ثبّتّ فروع كلامك فيها على أسّه، ووصلت آخر قولك له بأوله، ثبوتا على ما ذكرت من عقده، ولزوما لما فرّطت من نظره، ولكنك لا تجد مع الإقرار بذلك بدّا من التصديق برسالته، ولا مذهبا عن الإيمان بنبوّته.

ولئن زعمت أنه ادّعى أمر النجوم كذبا، وانتحلها باطلا، عارفا كان بها أم جاهلا، لقد نسبته من الخطأ الذى لا يعمى عن بصره إلى ما يخطئ فيه بشر، فأكذبت نفسك، وتركت قولك، إنه لم يكن التأليف لقلوب العرب، والجمع لشتيت القبائل، إلا برأى سديد، وعقل أصيل، ورفق بالغ، إلى أحد أمرين، لا تجد لكلامك وجها تذهب إليه غيرهما، ولا محملا تضعه عليه سواهما: إما أن تقول:

إنه ألّف قلوب العرب، وفرّق جموع الأمم، بتنزيل الوحى، فتؤمن أنه نبىّ، وإما أن تقول: فعل ذلك بجهل، وهذا قول لا يقبل، كيف يصفه أحد من الجاحدين به

(1) يقال: هو ابن عمى دنية بالكسر ودنيا بالكسر والضم: أى لحا.

(2)

فى الأصل «يستعيرونه بكل طريق» وهو تحريف، وقد أصلحته كما ترى، واستغر فلانا:

أتاه على غفلة، والمراد: يتعرضون له بكل طريق ويؤذونه على غرة.

(3)

الخصم: المجادل.

ص: 230

المكذبين له بغباوة، أو يرمونه بجهالة، وهم يجوزون به حدود الأنبياء، ويرفعونه فوق أمور العلماء، ويتخطّون به مراتب الحكماء ومنازل الناس، تكثيرا لعلمه، وتسديدا لعقله، وتثبيتا لفضله، فيما لا يقدر الخلق عليه، ولا تهتدى الألسن إليه، حتى لقد نحلوه (1) فعل الرّبّ الذى لا يقدر عليه الخلق فى وجوه كثيرة، وأنحاء جمة.

من ذلك أنه إذا قالت البقايا من أمتنا: كان محمد صلى الله عليه وسلم يخبرنا بالغيوب قبل ظهورها، ويصف الأمور قبل حلولها، ويتجاوز ما يكون فى زمانه من ذلك إلى ما يكون فى زماننا، غيبا أطلعه الله عز وجل عليه، أضافوا ذلك علما إليه، فقالوا: كان أعلم الناس بمواقع النجوم، وأبصرهم بمنازل البروج، وأنظرهم فى دقائق الحساب، كيف ولم يكن الحجاز دار نجوم، ولا محلّ حساب، ولا معدن أدب، بل كيف والمنجّم يقيس ويخطئ، ويشكّ فيما يدّعى، وهو أخو صواب لا شكّ فيه، وفارس صدق لا قياس معه.

ومن ذلك أنه إذا قالت العلماء من المسلمين: كان نبينا صلى الله عليه وسلم عليما بباطن أخبار النبيين، وخفىّ قصص القرون الأوّلين، قالوا: كان أحيا الناس قلبا، وأوسعهم سربا (2)، وأسرعهم أخذا، يتتّبع ذلك ويحبه، وقد رواه وعلّمه، سبحان الله! أولا يعلمون أن المتعلّم معروف المعلّم، متفاوت الحالات، متنقّل الطّبقات؟ وأنه ما أحد يؤدّب صغيرا أو يطلب العلم كبيرا، إلا وله درجات فى علمه، وتارات فى أخذه، ومنازل فى تعلّمه، تارة تلميذ، وتارة مقارب، وأخرى حاذق، وبكل ذلك موصوف من أهله، معروف عند قومه، ظاهر لجيرته، مستفيض فى عشيرته، لا يجهل أمره، ولا يخفى ذكره، ولا ينسى عند مواضع الحاجة إليه، وتارات الاحتجاج به عليه، ولو كان ذلك معروفا فيهم، أو موجودا لديهم، أو ظاهرا عندهم،

(1) نحلوه: أى نسبوا إليه.

(2)

السرب: البال، والقلب والنفس.

ص: 231

لما أمره الله عز وجل أن يحتجّ عليهم، ويقول فى ذلك لهم: لقد لبثت فيكم عمرا من قبله، لا أتلو قرآنا، ولا أدعى وحيا، أفلا تعقلون!

وأيم الله لو كانوا يعقلون أو ينظرون، لعلموا أن معلّمه على غير الملّة التى يعرفون لأنه لهم من المخالفين، وعليهم من الطاعنين، يذكر فضائح قولهم، ومعايب أمرهم، ومخازى أسلافهم، وعوائر (1) أديانهم، وأنه لو كان معلّمه نصرانيا لدعاه إلى النّصرانية أو يهوديا لدعاه إلى اليهودية، أو مجوسيّا لدعاه إلى المجوسية، ولو لم يكن له معلّم لما وقع على الحقيقة، هداية من تلقاء نفسه، ومعرفة بقوة عقله؛ ولو كان معلّمه الشيطان لما دعاه إلى عبادة الرحمن، ولا أمره بهجر الأوثان، وكسر الأصنام، وصلة الأرحام، والإصلاح فى الأرض، كيف وكان الشيطان يصدّ الناس عن سبيله، ويزهّدهم فى دينه وينهاهم عن طاعته، ويخرجهم من عبادته، ويدخلهم فى مساخطه، ويحملهم على معاصيه؟

إنه إذن لرحيم بهم، ناظر لهم، شفيق عليهم، كأنه هو المبعوث إليهم، كلا، ما كان لينقذهم من حبائله، ويخلّصهم من مصايده، ويخرجهم من ولايته وطاعته وسلطانه وخدعه وفتنته وحزبه، إلى غير ذلك من أمره، وما كان لينهى العرب أن يقتلوا أنفسهم، ويتناوحوا حرمهم، ويؤذوا ذريتهم، ولا ليقول لهم: لم تعبدون نحيت الحجارة التى جعلها الله لكم عارا، وتذرون عبادة الربّ الذى خلقكم أطوارا! هيهات! لقد ذهبتم بالشيطان الرجيم إلى صراط العزيز الحكيم، فقلتم قولا تنكره العقول، وتدفعه القلوب، وتستوحش منه النفوس، ألا تسمعون إلى قول الله عز وجل:«فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ. أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ» فما كان الشيطان ليرضى للعرب باللّعنة والبكم، والعمى والصّمم، فاتّق الله ولا تكن من الجاحدين.

(1) أراد بها مثالبها ومخازيها، وفى كتب اللغة: العوراء: الفعلة القبيحة (غير أن فعلاء لا يجمع على فواعل) وفيها: العوائر جمع عائر، والعائر من السهام والحجارة: الذى لا يدرى من رماه، أصابه سهم عائر فقتله: أى لا يدرى من رماه.

ص: 232

ومنها: أنه إذا قالت الفقهاء والحكماء: أتانا محمد صلى الله عليه وسلم بكلام لم تسمع الآذان بمثله، ولم تقع القلوب على لغته، له رونق كحباب (1) الماء، وزبرج (2) يعلو ولا يعلى، وعجائب لا تبلى ولا تفنى، وجدة لا تتغير، قالوا: كان محمد صلى الله عليه وسلم أبلغهم قولا، وأحسنهم وصفا، فيا سبحان الله! ألا يعلمون أن لو كان القرآن كلاما للعباد، لما أقرّت الأعداء من [العرب (3)] بفضله، ولا عجزت القبائل طرّا عن مثله، وهو يناديهم فى الكتاب، ويتحدّاهم فى الوحى، بصوت رفيع، ونداء سميع، فيقول:«هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» * وهم فرسان الكلام، وإخوان البلاغة، وأبناء الخطب، وأهل عداوة له وبغى عليه، فتستحسر (4) الأبصار، وتثقل الأسماع، وتنعقد الألسن، وتخرس الخطباء، وتعجز البلغاء، وتحار الشعراء، وتستسلم الكهّان، ثم لقد قايست البصراء بالكلام والعلماء بالمنطق بين ما بأيدينا من كلام النبى صلى الله عليه وسلم وما جاء به من كلام الوحى، فإذا بينهما بون (5) بعيد، وتفاوت شديد، ليس بشبه له ولا مدان ولا قريب، وكذلك ينبغى لكلام الرب عز وجل أن يعلو كلام الخلق، وألّا يشبه قول العباد فى تأليفه وأحاديثه ومعانيه وجميع ما فيه؛ لأن الله عز وجل لا يشبهه شىء من ذلك، إنه إذا قال المسلمون: كان محمد صلى الله عليه وسلم يرى ماضى أسلافنا، وصلّح آبائنا، من العجائب العظام، والآيات الكبار، ما هو جديد عندنا، بيّن قبلنا، فلم يعف أثره، ولم يدرس خبره، ولم يتقادم عهده: من شجرة ناداها فأقبلت، ثم أمرها فرجعت، ومن نحو بعير تظلّم، وذئب تكلّم، وأشباه لذلك كثيرة، ونظائر له عجيبة، قالوا: كان محمد صلى الله عليه وسلم كاهنا حاذقا، وساحرا ماهرا، يشبّه بالخيال، ويأخذ بالأبصار،

(1) حباب الماء: فقاقيعه التى تطفو كأنها القوارير.

(2)

الزبرج: الزينة من وشى أو جوهر.

(3)

فى الأصل بياض محل هذه الكلمة.

(4)

استحسر: أعيا.

(5)

البون: الفضل والمزية.

ص: 233

كيف والجموع الكثيرة تصدر عن الأطعمة اليسيرة، والمياه القليلة شباعا رواء أيكون ذلك والسحر سواء؟ والأخذ بالعيون لا يجرى فى البطون، ولو كانوا ينظرون لدينهم وينصفون من أنفسهم، لعلموا أن أمر الساحر يدور على إفك وغرور، وأن لمحمد صلى الله عليه وسلم آثارا قائمة، ومنافع داثمة، ثم لو كانت الكهانة والسحر يبلغان مثل هذا من الأمر، لبطلت آيات الكتب، وعلامات الرسل، ولعلت الشّبهة، وسقطت الحجة، وكذبت النبوة، ولبطل ما كان يفعله عيسى عليه السلام:

من إبرائه الأكمه (1) والأبرص وإحيائه الموتى، فلا يكوننّ التقليد للرجال مبلغ علمك، ولا القبول لدعواهم بلا بينة.

ومن ذلك أنه إذا قالت البصراء من أمتنا والعلماء بملّتنا: كان النبى صلى الله عليه وسلم أمّيا لا يحسن الكتاب، وحافظا لا ينسى القرآن، وقلما يجتمع العقل السديد والحفظ السريع والنسيان البطىء، قالوا: كان أخطّ الناس يدا، وأذكاهم حفظا، كان يكتب بالنهار، ويدرس بالليل.

ولعمر الله أن لو كانت الحال كما يقولون، والأمر كما يصفون، لما خفيت الصّحف له، ولا اكتتمت الدراسة عليه، ولما كان يطيق سترها عن أهله، ولا حجابها دون قومه، وكيف تؤمن القلوب، وتقرّ العقول، أن رجلا كبيرا حمل علما كثيرا، وحكما جمّاء: من آيات متشابهة، وسور متوالية، وهو صاحب أسفار مترامية (2)، وأخو حرب دائمة، لا يبطئ لفظه، ولا يسقط حفظه؛ لولا (3) أن الله عز وجل كفاه أن يحرّك به لسانه، وضمن له جمعه وقرآنه، فقال عز وجل:«سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى» فلم يكن يسقط واوا ولا ألفا، ولا ينسى كلمة ولا حرفا، ما أبين هذا وأعجبه! وأعجب منه المنكر له!

(1) من ولد أعمى.

(2)

فى الأصل «متراخية» .

(3)

فى الأصل «ولا يسقط حقه، ولولا أن الله» .

ص: 234

وأما قولهم فى الخطّ وإكثارهم فى الكتاب، فإن الله عز وجل جعله أمّيّا ليثبت حجّته، ويصدّق مقالته، ولئلا يشكّ المبطلون فى أمره، ويقولون: تعلّمه من غيره.

فإنه قد قال ذلك بطائن من منافقة العرب، وطوائف من كفرة العجم، فنطقت به الأعداء من جيرته، والحسدة من عشيرته، الذين بلغوا [ما بلغوا (1)] من مجادلة حقه، ومخاصمة ربه، كفاة لمن قرب، ووكلاء لمن بعد، فيما لم تكن العرب واقعة عليه، ولا الأمم مهتدية إليه، لأنهم (2) قد أحاطوا من علم خبره وخفىّ أثره، بما كان عن غيرهم محتجبا، ومن سواهم مكتتما، وقالوا: لو كان محمد صلى الله عليه وسلم يتعلم من بشر، أو يختلف إلى أحد، لما خفى عنا، ولسقط علينا (3)، وحقا لو كان محمد صلى الله عليه وسلم يختلف إلى أحد صغيرا، أو يتعلم من بشر كبيرا، لعرف ذلك أترابه المختلفون معه ورفقاؤه والمقتدون، ولما جهل ذلك من حوله من جيرته نصرة، ولا من معه من أهل بيته دنية، الذين عليهم يورد ومن قبلهم يصدر، ولكان شائعا عند حشم معلّمه وجيرة موضعه الذين كان يختلف إليهم، ويتأدّب بين ظهرانيهم، ولو كانوا بذلك عالمين، أو فيه من أمره شاكّين، ثم بلغهم وتقرّر قبلهم أنه يقول: إن الله عز وجل أوحى إليه فيما أنزل من الكتاب عليه: «وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ، إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ» لخاصمه منهم من كفر، ولكفر به منهم من آمن، ثم يدّعى ذلك قرآنا، وينتحله وحيا. أما كان يرهب أن ينتشر فى الأقربين ويخرج إلى الأبعدين، فتبطل حجته، وتنتقض دعوته، وتسقط نبوته، وينفر أصحابه الذين لم يصبروا (4) معه فى المجاهدة أنفسهم، ويبذلوا عند الشدائد مهجهم، وينفقوا فيه- على الحاجة- أموالهم، مناصبين (5) لأهل الشرق والغرب والعجم وكل الأمم، وهم قليلون مستضعفون عائلون جائعون، لا طلبا لدنيا، ولا طمعا فى منال، إلا لما

(1) زيادة يقتضيها السياق.

(2)

فى الأصل «إلا أنهم» .

(3)

فى الأصل «ولا سقط» .

(4)

صبر نفسه: حبسها.

(5)

أى معادين.

ص: 235

تعقّبوا من قوله، وعرفوا من صدقه، ولولا أنه أخبرهم ووعدهم أن يغلب كسرى وقيصر لهم، فصدّقوا بقوله وآمنوا بوعده، حتى قويت البصائر، وصرمت (1) العزائم وقويت النّيات، فنشطت النفوس، وشجعت القلوب، وحمّلت الأبدان، لما وقع لهم طمع فيه، ولا ذهب لهم وهل (2) إليه، فكن من ذلك على يقين لا يخلجه (3) شك، ومعرفة لا يخلطها ريب إن شاء الله.

ومن ذلك: أنه إذا قال المسلمون: ما من فعال محمود، ولا مقال معروف، ولا خلق كريم، ولا أدب فاضل، إلا وقد أدّب الله عز وجل به محمدا صلى الله عليه وسلم وأنزله فى الكتاب إليه، فكان يأمر بالمكارم، ويحضّ على المحامد، ويعمل بالمحاسن التى ليس فيها مدخل لشبهة طاعن، ولا معلق لحجّة قائل، ولا مغمز لبصيرة عائب، ولا موضع لخصومة بشر، فى وعد أو عهد، أو حلّ أو عقد، أو مقال أو فعال، أو غير ذلك من الأمور، قالوا: أمور حمل عليها نفسه، ودعاه إليها عقله، وصبر عليها، لما أمّل ورجا فيها، سبحان الله! وما أمّل بها وارتجى منها؟ إن قالوا: الدنيا، فلقد أكذبهم إدباره عنها، حيث أمكنته القدرة منها، وأعثرته الحال عليها، وإن قالوا:

حبّ الأثرة، فقد جعل نفسه للمسلمين أسوة: فى سهامهم (4) وقصاصهم (5)، وحدودهم وحقوقهم، وغير ذلك من أمورهم، وإن قالوا الملك، فلقد كان أشدّ الناس لربه تواضعا، وأعظمهم فى جنبه تصاغرا، ما إن أكل متّكئا قطّ إلا مرّة، ثم قعد كهيئة الفزع لها النادم عليها، فقال:«اللهم إنّى عبدك ورسولك» ، وإن قالوا:

النعيم، فمن كان أببس منه معاشا، وأخشن رياشا (6)، وأغلظ مأكلا؟ وكيف

(1) عزيمة صارمة: أى ماضية.

(2)

وهل إلى الشىء يوهل بفتحهما ويهل بالكسر وهلا بالسكون: ذهب وهمه إليه.

(3)

خلجه كضربه: حركه وجذبه وانتزعه.

(4)

جمع سهم بالفتح: وهو الحظ والنصيب.

(5)

وفى الحديث «وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها» .

(6)

أى لباسا، وأصل الرياش: اللباس الفاخر.

ص: 236

يذوق العيش، أو يجد لذيذ النعيم، من حرّم السّكر والخمر، ونهى عن الدّيباج والقزّ وكان أكثر دهره صائما، وأطول ليله قائما؟ فإن قالوا: طلب الصّوت (1) ورغب فى الدين، فذلك ما لم يطلبه أحد فى حب الصوت، والتماس الحمد، لما صبر على مغاضب قومه، وملاوم أهله، وشتائم العرب، وتوعّد العجم، واستهزاء قريش:

يرمونه بالعقوق، ويقذفونه بالجنون، ويبهتونه (2) بالسحر، وليس يدرى ما يهجم (3) به الأمر.

أم يقولون: طلب تأثيل (4) الملك لقومه، وأراد توطئة الولاية لأقاربه، فكيف يطلب لقومه ما قد زهد فيه لنفسه؟ أم كيف يطلب لهم عزّ الملك، وقد أوطأهم الذّلّ ثم القتل؟ لعمر الله أن لو أراد الملك لأقاربه، وأراد طلب السلطان لذوى رحمه، لوكّد لهم عقدا لا يحلّ، ولأبرم لهم أمرا لا ينقض، ولأثّل لهم فى عنفوان (5) أمره ملكا لا يخرج من أيديهم، ولا يبرح (6) أبدا فيهم، امتثالا لصنيعكم، واحتذاء على مثالكم، مع أقاويل جمة، ونظائر كثيرة، لا يستقيم لهم معها أن يقولوا إن محمدا صلى الله عليه وسلم غلب العرب وقهر العجم، أو قال فى أمر السلطان والنجوم بكذب.

فإن قلتم: إن محمدا صلى الله عليه وسلم، كان فى قوة عقله، وبيان فضله، على ما قلنا وقلتم، وصدّقنا به نحن وأنتم، ولكن هفت العلماء، وزلّت الحكماء، وأخطأت القلوب، فقد يعلم أمير المؤمنين- وأنتم بذلك من العالمين- أنّ خطأ قلوب العلماء كخطأ دائرة الرّحى: ليست العلماء بمخطئة إلا المرة والثنتين، كما لا تخطئ الرحى إلا الحبّة والحبتين، ومثل الذى نسبتم إلى النبى صلى الله عليه وسلم من الخطأ عندكم،

(1) الصوت والصيت: الذكر الحسن.

(2)

بهته كمنعه: قال عليه ما لم يفعل.

(3)

أى ما ينجلى عنه الأمر، من نجاح وفوز، أو خذلان وفشل.

(4)

أى تأصيله وتعظيمه.

(5)

أى فى أوله وحداثته.

(6)

فى الأصل «ولا ينوح» وهو تحريف.

ص: 237

والجهل فى أنفسكم، كثير لا يحصيه أحد، ولا يبلغه عدد، وأمير المؤمنين واصف بعضه لكم، ومورد ما حضر كتابه إن شاء الله لكم، وايم الله على ذلك لو قالت العلماء من المسلمين: هبوا محمدا صلى الله عليه وسلم كان فى أمر النجوم من المخطئين، فكيف أخطأت العرب، وهفت الأمم فى ترك مجادلته، ورفض منازعته؟ وكيف لم تقل العلماء من إفتائه (1) والحكماء من حكمائهم، توبيخا منهم له، وتعييرا لمن آمن معه: هذا أمر من أوضح الأكاذيب، وأبطل الأباطيل، فلا يثبت مع قولهم إيمان، ولا يقيم على شرحهم إنسان. فإن قلت: فلعل ذلك قد كان، ولكنه درج (2) على طول الأزمان، فكيف إذن صدّقت العرب بنبوّته، ولم تكفر القبائل برسالته، وهم يسمعون كذبا لا ينفع معه صدق كان قبله، وباطلا لا يعصم معه حقّ حدث بعده؟ وإن قلتم: أدخلهم بالقهر، وضبطهم بالقتل، وأكرههم بالسيف، فما بال القليل من المسلمين الذين قهرهم الكثير من المشركين، ما بالهم آمنوا وصدّقوا، وصبروا وصابروا وجدّوا وجاهدوا، كيف لم تنكسر عزائمهم، وتهن (3) بصائرهم، ويرجعوا إلى دينهم، ويهربوا عن توحيدهم؟ كلا، لو كان الأمر على ما تقول لارفضّ (4) القوم عن الرسول، ولكان صلى الله عليه وسلم أول مقتول أو مخذول، فأحسن النظر فيما تذهب الأهواء برأيك إليه من آيات النبى صلى الله عليه وسلم، وإن جمحت الدّعوى بكم، فقائل- قد مالت به الأهواء فى الباطل- فقال: إنه إلّا يكن الأنبياء ذكرت النجوم فى صحفها، بيّنت الحكماء منها ذكرا فى كتبها، فجعلت المنقضّ من الكواكب بين الأعوام، دليلا على أمر يحدث تلك الأيام، ولا ما هذا الاختلاق، يلطّ به الجاهل للفسّاق (5)، ما إن وضعت الحكماء ذلك فى الكتب

(1) هكذا فى الأصل.

(2)

أى انقرض وفنى.

(3)

أى تضعف.

(4)

أى تفرقوا عنه وذهبوا.

(5)

هكذا فى الأصل، ولط بالأمر كضرب: لزمه.

ص: 238

إلا ليالى ملئت السماء من الشّهب، وبالله لو ادّعيتم غير ذلك فكان حقا، وكانت القالة منكم صدقا لما كانت الدعوى بناقضة لآية النجوم حجّة، ولا مدخلة على أحد فيها شبهة، لأن رميا يقع فرط السنين من الكواكب، لا يبطل رجما قد ملأ السماء من كل جانب، ثم لو لم تكن النجوم آية دامغة (1)، وحجة بالغة، ودلالة قاهرة، وعلامة باهرة، وأمارة ظاهرة، وشهادة قاطعة، وبيّنة عادلة، وداعية قائمة، تبطل أظانين المشركين، وتردع أقاويل المنافقين، لما كان النبى صلى الله عليه وسلم، ليعظّم أمرها، ولا ليكرّر فى آى القرآن ذكرها، رهبة لمناهضة أحياء العرب، ومعرفة بمجادلة إخوان الكتب، الذين لو وجدوا فيما كتب به إليك أمير المؤمنين من أمر النجوم، واحتجّ به عليك من ذكر الرّجوم، موقعا لظنّ، أو معلما بطعن، أو مغمزا لقول، لناصبوه إذن بالمجادلة، وكاشفوه بالمنازعة، وجاهروه بالقول الذى لا يستطيع له ردّا، ولا يطيق له جحدا، ولكنها آيات ملأت الأفطار كثرة، وحسرت الأبصار قوة، قد وجّلت العقول، وولهّت القلوب، وملأت النفوس جزعا ووجعا، وفزعا شغلهم عن الأولاد، وأذهلهم عن البلاد، حتى بلغ أمير المؤمنين، وتقرّر عند فقهاء المسلمين أن الله عز وجل لما ملأ السماء حرسا، وأحدث لها رصدا، وخلق فيها شهبا، ذكرت العقلاء من العرب وقعات الله عز وجل فى الكتب بقوم نوح وعاد وثمود وأشباههم من مؤلّفى تلك الجنود، الذين كانوا أشدّ بطشا، وأكثر جمعا، فانفرجت أيديهم عن كرائم أموالهم، وأرسلت أنفسهم متائن عقدهم، وإن أهل الطائف لمّا فعلوا ذلك بأموالهم، وأجمعوا فيه الخروج إلى فقرائهم، قام فيهم رجل منهم ذو سنّ وعقل فقال: يا معشر العرب، لا تهلكوا أنفسكم قبل أن تهلكوا، ولا تخرجوا من أموالكم قبل أن تخرجوا، تفقّدوا مواقع نجوم السماء، وكواكب بدور الدّجى، فإن كانت النجوم التى حدث الرمى بها، والنجوم التى أخليتم الأموال

(1) فى الأصل «دافعه» والمعنى عليها صحيح، ولكن يظهر أنها «دامغة» .

ص: 239

لها، هى لبروج الشمس والقمر، ومسال (1) الحيوان والشجر، فهى جوائح الاستئصال، المتلفة الأنفس والأموال، وإن كانت النجوم التى حدث القدف بها إنما هى نجوم خلقت اليوم، فليست المعرفة بواقعة على مبتداها، ولا الأبصار بلاحقة منتهاها، فأمسكوا العقد (2) عليكم والأموال، فإنه أمر يحدث فى إحدى هذه الليال.

فإن قلت: كيف وقعت الأمور فى هذا الرجل كالعيان، وصارت المقالة منه كوعى الآذان؟ أنبأك أمير المؤمنين أن أوعية الفقه من المسلمين، الذين حملوا إلينا سنن الدين، هم أدوا ذلك إلينا، وأبقوه فخرا .... (3) علينا، فما إن ينفكّ منهم مفتخر يقول: أبونا الذى حبس على العرب الأموال والعقد، فما إن يدفع القول فى ذلك منا أحد، هيهات! ما كانت العرب لتقرّ عند الفخار، إلا بطول هو أبين فيها من ضوء النهار، فافهم ما كتب به أمير المؤمنين فى هذا إليك، ولا يكن التعلّل فيها بالشّبهات أوثق ما لديك، فإنه قلّ حجة إلا وإلى جنبها شبهة تخيّل للعقول، وتعرّض للقلوب، وتجلجل (4) فى الصدور، فلا يثبت مع تخيّلها، ولا يقيم لتعرّضها بشر، إلا من وزن الحقّ والباطل بميزان عادل، لا يميل إلى تفريط، ولا ينحطّ فى تقصير، وقد جعل الله عز وجل العقول موازين للأمور، فزنوا ما سمعتم من حجج كلام الرب عز وجل بما تنفون به الشبهة عن الحق، ولا تميلوا اللسان، فتخسروا الميزان.

وسيعلّل أمير المؤمنين إن شاء الله ما جاء عن ذكر ما كتب به إليكم من أمر النجوم والرّجوم والشّهب فى القرآن والرواية والكتب، فألطفوا النظر فى صحة معانيه، ونحّوا الهوى عن شبهة (5) ما وقعت فيه، قال الله عز وجل: «وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا

(1) مصدر أريد به المكان. والمعنى: ومرعى الحيوان ومنبت الشجر.

(2)

العقد: جمع عقدة بالضم، وهى الضيعة والعقار الذى اعتقده صاحبه ملكا.

(3)

بياض بالأصل بمقدار كلمة.

(4)

أى تحرك.

(5)

فى الأصل «عن شبهة إنما» .

ص: 240

بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ» وقال: «وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ. وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ» وقال: «إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ. وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ» وإن شطب (1) عن الحق شاطب، أو ذهب إلى الباطل ذاهب، لا يعرف مذاهب كلام العرب، ولا وجوه معانى الكتب، ولا تفسير آى القرآن، فقال: إنما جعلت الكواكب والمصابيح حفظا من الله عز وجل للسماء، ورجوما للشياطين من قبل أن يبعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بالدّين، فإن فى آيات القرآن ما فيه بيان مما يبطل دعواه التى لا بيّنة عليها، ويكذّب مقالته التى لا شهود لها، فقالت الجن، فجعل الله تبارك وتعالى قولها وحيا، وبه منها صدقا:«وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً» ألا ترون أنها كانت الجن لمست السماء فلم تجدها ملئت حرسا شديدا وشهبا، وقعدت الشياطين منها مقاعد للسمع فلم تجد شهبا ولا رصدا، أو لا تسمعون إلى ما يحقّق ذلك ويسدّده ويصدّقه ويشهد له من قول الله تعالى:«هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ. تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ. يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ» مع قول الجن أيام حرست السماء، ورميت الشياطين:«وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً» فإذا أعملتم فى ذلك فكركم، وقلّبتم فيه نظركم، فكنتم على برهان يقين، ونور مستبين من استطاعة الجنّ للاستماع، وقدرة الشياطين على الاستراق، وإمكان السماء للقعود فى تلك الحال الأولى، ففكّروا فى الحال الأخرى حيث حرست الآيات أن تعارض باطلا بحق، ومنعت الشياطين أن تنزل بصدق، وامتنعت السماء أن يصعد إليها شيطان، فقال الله عز وجل «وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ. وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ. إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ» قالت الجن:

«وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً»

(1) شطب عن الشى: عدل عنه وبعد.

ص: 241

إنّ فى قولهم الآن لأعظم نور وبيان، وأبين من ذلك لكم، وأصحّ لمن عقل إن شاء الله منكم، إخبار الله عز وجل حين جعلت الكواكب حفظا من كل شيطان مارد أنهم «لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ. دُحُوراً (1) وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ» مع إخباره فى الحال الأولى أنهم يسمعون ويقعدون وينزلون ويستطيعون ويتلون على ملك سليمان، فكن لهذا من الحافظين، وفيه من المفكّرين.

ومن آيات النبى صلى الله عليه وسلم أنه لما نفرت القبائل من أعلام الشرك بجموعها، وتداعت القادة من صناديد الكفر بأتباعها، حذرا على عير (2) لها أقبلت من الشام، بصنوف رغائب أموال عظام، فكانت العير والنّفير طائفتين: طائفة ذات عدّة كثيرة وشوكة شديدة، وطائفة ذات أموال رغيبة ورجال قليلة، وفرصة ممكنة، أخرج الله عز وجل نبيّه صلى الله عليه وسلم ووعده ومن معه من المسلمين إحداهما، فكره المؤمنون جموع المشركين، وأراد الله عز وجل أن يقطع دابر الكافرين، ويشيّد بذلك أركان الدين، فلما تراءت الفئتان، وتناوشت الفرسان، وتلاقى الناس، وقبل ذلك ما قال الله عز وجل:«سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ» قبض النبى صلى الله عليه وسلم قبضة من تراب، حثاها فى وجوههم، فلم يتناه دون مناخرهم وعيونهم، فانصرفوا منهزمين بلا كثير قتال من المسلمين، يأهل الكتاب فأيّتها آية أعظم حجة، وأوضح بينة، وأقهر غلبة من هذه التى لو صدرت الأمور بلا تحقيق لها، لانفضّت الجموع من المسلمين كفّارا بها، أبشارة الله المسلمين بأمداد الملائكة

(1) الدحور: الطرد والإبعاد والدفع- واصب: شديد.

(2)

العير القافلة، أو الإبل تحمل الميرة، بلا واحد من لفظها، يشير إلى عير قريش التى أقبل بها أبو سفيان بن حرب من الشأم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم (وهو بالمدينة) قد تحين رجوعها من الشأم إلى مكة، فندب المسلمين للخروج معه بغية الظفر بها، ولما علم أبو سفيان أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم معترضون، له ساحل بالعير، وبعث إلى قريش أن محمدا وأصحابه معترضون لكم فأجيروا تجارتكم، فأدركتهم حميتهم ونفروا سراعا، وكان من وراء ذلك غزوة بدر الكبرى كما هو مشهور، والنفير: القوم يستنفرون للحرب، وهم هنا مشركو قريش الذين خرجوا يستنقذون العير، وكان رئيسهم عتبة بن ربيعة.

ص: 242

المقرّبين، وهزيمة نفير المشركين التى نجمت الأمور عليها، وتناهت الحال بهم إليها، أم قبضة من تراب يسير، ما ملا المناخر من عدد كثير؟

فلئن قلتم: إن هذه آيات بيّنات، وعلامات واضحات، ولكنا لا نقرّ لكم بها، ولا نؤمن بقولكم فيها، أفتؤمنون أن محمدا صلى الله عليه وسلم، مع ما نسبتموه من الفضل إليه، كان يختلقها كذبا من تلقاء نفسه، ثم يدّعيها وحيا من عند ربّه، وهو لا يدرى لعلّ الأمور تقع بخلاف ما يقول، فيظهر كذبه، ويرفضّ تبعه.

ويزعم أن أصحابه كانوا كثيرا أقوياء، نشاطا جلداء، فكان على معرفة بقوّتهم ويقين من غلبتهم، فقد قال الله عز وجل:«وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ. يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ» ولم يكن الرسول ولا غيره ليخبر أصحابه من أمورهم بما يجهلون من أنفسهم، ثم يدّعى ذلك تنزيلا من ربهم! هذا لا تقبله الآراء، ولا تقرّ به الحكماء، ولا يحدّه النظر.

أم تقولون: إنما أراد محمد صلى الله عليه وسلم ببشارته لهم، وإخباره ما أخبرهم من هزيمة الله عدوّهم، أن يشجّع جبنهم، ويقوّى ضعفهم، فكيف إذن لم يثق (1) لما كان يرى من كثرة المشركين وقوتهم، وضعف المسلمين وقلّتهم- بظهور الأنباء على خلاف قوله، وأن يحتال؟ ؟ ؟ (2) الخبر على غير ظنه، فيقع ظفر يكذّب نبوّته، ويقطع حجّته، ويكون له ما بعده؟ وكيف إذن لم ينسب الأمر إلى نفسه، وينحّى الخبر عن ربه، ليكون الخطر أصغر، والشأن أيسر، إن جرت الأقدار بما يحذر، أو وقعت الأمور على ما يكره؟ ولكنه أثبته فى كتاب مسطور، ورقّ (3) منشور، فعل لعمر الله يدل على النبوة التى كان بها واثقا، ويهدى إلى الوحى الذى كان إليه ساكنا.

(1) فى الأصل «يبق» وأراه مصحفا.

(2)

هكذا فى الأصل ولعله «يجىء» .

(3)

الرق: جلد رقيق يكتب فيه.

ص: 243

وإن عرض لنظرك، أو وقع فى خلدك، أن الله عز وجل عوّد محمدا صلى الله عليه وسلم الغلبة، وأجراه على المنعة، فكان يجرى على عادة قد عرفها، ويسلك جادّة قد خبرها، فلقد كانت الهزيمة فى أول وقعة أوقعها الله، ثم لقد دالت الحرب فيما بعد سجالا (1) فيما بينه وبينهم، تارة عليه لهم، وأخرى له عليهم، فناصحوا الله عز وجل فى نظركم، وقلّبوا فيما يقول أمير المؤمنين فكركم، فلعمر الله ما كان النبى صلى الله عليه وسلم ليقول لملوك المشركين: إن الله هزمكم برمية من تراب، وهو يعلم أنه عنده من الكاذبين، فأحضر كتابى هذا فهمك، واصبر له، وإن خصمك، فإن هذه آية عظيمة، وحجّة بليغة، وبيّنة عجيبة، فى غلبة العرب.

وأعجب من هذه وألطف، وأكثر منها وأعظم، الآية فى غلبة العجم، واستمع:

أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للمؤمنين- وكانوا كما قال الله عز وجل قليلا مستضعفين-: إن قبائل العرب ستتحزّب عليكم، وإن الله سيهزمهم لكم، وحيا أنزله فى الكتاب، فقال:«جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ» فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما نزل هذا القول عليه بدهور طويلة، وسنين كثيرة، محبوسين محصورين فى حومة الموت، وعسكر الخوف، وخندق القهر، وذلّ الحصر، سوادهم الأعمّ، وجلّهم الأعظم: حفاة عراة عالة (2)، إخوان دبر (3)، وأصحاب وبر، لا قوة بهم، ولا منعة لهم، ولا أسلحة عندهم، ولا عدّة معهم، قد أحدقت العرب بعسكرهم، وأحاطت القبائل بخندقهم، وسالت الأحزاب تصديقا لحتم الله عليهم، تريد أن تزلزل أقدامهم، وتهريق دماءهم، فكان المؤمنون كما وصف الله عز وجل من سوء الحال، وضيق المآل، وشدة الكظاظ (4)، فإن الله قد

(1) فى الأصل «فيها بعد» وسجال جمع سجل بالفتح: وهو الدلو العظيمة مملوءة، ويقال: الحرب بينهم سجال: أى سجل منها على هؤلاء وآخر على هؤلاء.

(2)

عالة جمع عائل: وهو الفقير.

(3)

الدبر: قرحة الدابة، والمعنى أنهم مجهودون كالبعير الدبر.

(4)

الكظاظ: الشدة والتعب والممارسة الشديدة فى الحرب.

ص: 244

وصف لهم حالهم، وأذكرهم فعلهم، ولم يكن النبى صلى الله عليه وسلم ليصف لهم عن الله ما يجهلون، ولا ليذكّرهم من أمره ما لا يعرفون، حذارا أن تنكسر عزائمهم، وتتغيّر بصائرهم، فتنهزم أفئدتهم، وتموت نجدتهم، وتختلف كلمتهم، فقال الله عز وجل:«إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا. هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً» حتى قالت طائفة منهم لأهل المدينة: «يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا» وقالت طائفة أخرى: يا رسول الله، إن بيوتنا عورة (1) فأذن لنا، يقول الله تعالى:

«وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ، إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً» فبيناهم على تلك الحال قد أجمعت العرب تفريقهم فى الجبال، وتقسيمهم بالقداح (2)، وأخذهم بالأيدى، إذ قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم فيما ينبئهم به من علم الغيوب، ويبشّرهم به من أمر الفتوح، «إن الله سينصركم على جمع الروم، ويغلب لكم جموع فارس، فيهزم لكم جنودهم، ويورثكم قصورهم، ويستخلفكم فى الأرض من بعدهم، ويبدلكم من بعد خوفكم أمنا» وعدا صدّقه الكتاب، وبشارة نطق بها الوحى، فقال:«وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً، يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً» فقال أقوام وأناس ارتابوا حين تضايقت الحال، وتزلزلت الأقدام، وطارت القلوب، ودارت العيون، وأشرف الموت:«ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً» أيعدنا هزيمة جموع الأحزاب، وفتح قصور الشام، وغلبة جنود كسرى، وقد سالت القبائل علينا من كل جانب، وأحدق الموت بنا من كل مكان، فبقينا فى مسغبة (3) من الجوع، ومجهدة من الخوف،

(1) أى يخشى عليها لأنها غير حصينة.

(2)

القداح: قداح الميسر، والمعنى: يتقامرون (أو يتآمرون) على تشتيتهم وتمزيقهم.

(3)

المسغبة: المجاعة.

ص: 245

وضنك من الحال، مقهورين مقموعين (1)، وقالت الخاصة من المؤمنين حين عاينوا الجموع من المشركين، وذكروا ما خبّرهم الله من تحزّبهم عليهم، ومسيرهم إليهم:

«هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً» فبينا أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم فى مضابق تلك الحال، وشدة ذلك الخصال (2)، وعموم تلك البلايا الباهظة، والأمور الفادحة، التى قد أخذ بأنفاسهم غمّها، وبلغ مجهودهم كربها، رافعين إلى الله عز وجل أيديهم، يقلّبون فى السماء أعينهم، إذ أرسل الله على تلك الجنود الكثيفة، والجموع العظيمة، والأحزاب المقتدرة، ريحا من الأرض، وجنودا من السماء، فقطعت الأبنية، وطيّرت الأمتعة، وسفت التراب فى العيون، وقذفت الرعب فى القلوب، فولّوا مدبرين، وخرجوا منهزمين، لا يلوى (3) والد على ولد، ولا مولود على أحد، أمر صدق الله فيه قوله، وأنجز به وعده، وهزم الأحزاب وحده، وذكّر المؤمنين نعمته فيهم، وعرّفهم منّته بهم، فقال:«اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً. إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا» وقال عز وجل: «وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً» ما كان الله عز وجل ليقتصّ على المسلمين فى أنفسهم إلا ما قد رأوه بأعينهم.

لولا أن هذا ما لا ينكره عقلك، ولا يدفعه نظرك، لما جادلتك بالكتاب، ولا نازعتك بالتنزيل، وإنى لأترك من آيات النبى صلى الله عليه وسلم وعلامات الوحى، ما هو أعظم من هذا وأبين، وأجلّ وأوضح، ولكن ليس لى أن أحاجّك من آيات

(1) أى مقهورين مذلولين.

(2)

خصل القوم خصلا وخصالا: نضلهم.

(3)

أى لا يقف ولا ينتظر.

ص: 246

القرآن، إلا بما عليه شاهد من برهان، ومخبر من بيان، لا يستطيع عقلك ردّا له، ولا قلبك جحدا له، وكيف ينبسط لسانك، أو يجترئ قلبك، أن يقول: إن محمدا صلى الله عليه وسلم أخبر أصحابه بالكذب وهم يعلمون، فاقتصّ عليهم من أمورهم ما لا يعرفون! لا، ما يسوغ لك ولا يجمل بك، ولا يقبل منك أن محمدا صلى الله عليه وسلم يقوله من تلقاء نفسه، كيف! أما كان يخاف أن يكذّبه أصحابه، وتتنقل أحواله، وتنتقض أموره! لعمر الله لو وصفت بهذا من لا يعرف بفضل، ولا ينسب إلى عقل لما كان سائغا لك، ولا جائزا منك، فكيف تصف به من يرفع عن الناس قدره، ويفضل عليهم عقله، وتقرّ أنك لم ترفى الدنيا أحدا صنع ما صنع، وبلغ ما بلغ، فأيّتما آية فيما اقتصّ عليك أمير المؤمنين أعظم، أو بينة أعجب: أما كان يتلى على المؤمنين فى الكتاب من اجتماع قبائل الأحزاب بجنود عظيمة قبل اجتماعهم سنين كثيرة، أم ما كان (1) ينادى به القرآن من الهزيمة لهم، وينطق به الوحى من الفتح عليهم، أم قول النبى صلى الله عليه وسلم لأصحابه:«إن الله عز وجل يؤمّن خوفكم ويعزّ نصركم على الأمم» وهو على تلك الحال، ثم نجمت الأمور على ما قال، أم عسكران متطابقان، وجيشان متقابلان، باتت الريح تحوش (2) أحدهما حتى انهزموا، وبات الآخرون منها فى عافية وغفلة حتى أصبحوا، فأحسن النظر فى أمرك، والتثبت فى دينك إن شاء الله.

واعلم أن من أعظم الآيات، وأبين الدّلالات على نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم وحقّه، وأن ليس يتقوّل شيئا من تلقاء نفسه، أنه قال فى عنفوان أمره:«إن الله عز وجل سيظهر دينى على الدين كله» وجاء مع ذلك بأثرة عن ربه، فى كتاب مخطوط، وتنزيل محفوظ، فأىّ أمريه (3) لك أدلّ، أو أيهما عندك أعجب؟ إذ كنت

(1) فى الأصل «أما كان» .

(2)

حاش الصيد: جاءه من حواليه ليصرفه إلى الحبالة، وحاش الإبل: جمعها وساقها.

(3)

فى الأصل: «فأى أمر بذلك» .

ص: 247

بنبوته مصدّقا، ولرسالته محقّقا: الخبر الذى أخبره، أم الفعل الذى صدّقه، لئن نظرت بعقلك، وقلت فى نفسك: كيف ترقّت إلى هذا نيّته، وارتفعت نحوه همّته، أم كيف امتدت إليه فطنته، وقويت عليه رويّته؟ بل كيف دعته إليه نفسه، وشجّعه عليه قلبه، ودخل فيه طمعه، وطاوعه فيه لسانه، وهو يذكر جنود كسرى، وجموع الروم، وملوك التّرك، وملوك الشّرك، وقيول (1) اليمن، وصناديد الأمم؟

إن هذا لعجب، ولا سيما إذا لم يكن فى إرث ملك قاهر، ولا كنف عزّ غالب، ولا معدن علم سالف.

ولئن أعدت النظر وكرّرت، فقلت: كيف وافق خبره أثره، وكيف صدّق فعله قوله، حتى غلب الشرق والغرب؟ إن هذا لعجب! وأعجب من هذا أمر يدلّك أمير المؤمنين عليه، ويهديك إن شاء الله إليه، لو قلت لأهل مملكتك ومن قبلك من أمتك: هل بلغكم أو تقرّر قبلكم، أنه كان فى الدهر الأول، والعصر الخالى، أحد مثل محمد صلى الله عليه وسلم: بدأت الأمور به مثل حاله، من الوحدة والضعف والذّلّة والقلّة، وصدرت الحال به كفعاله، فى الغلبة والمنعة والقهر والظهور، وغير ذلك؟ لقالوا: لا.

ثم أنت لا تؤمن بمقالته، ولا تقرّ برسالته، إلفا لدينك، وضنّا بملكك، وطمعا فى قليل من الدنيا قد نعاه الله إليك، ورغبة فى صبابة عيش غير باقية فى يديك، فهذا عجب، وأعجب من هذا أمر نقفك أمير المؤمنين على نور حقه، ويوضّح لك إن شاء الله بيان أمره: أصبحت العرب طرّا والأمم جميعا فى محمد صلى الله عليه وسلم ثلاثة لا رابع لهم، ولا مخرج للحق من بينهم: رجل مصدّق به من المؤمنين، ورجل مكذّب به من الكافرين، ورجل شاكّ فيه من المنافقين.

فأما الشاكّ فلمّا قيل له: أخرجت نفسك من الحق، وأبرأتها من الصواب،

(1) القيول: جمع قيل بالفتح، وهو: الملك من ملوك حمير.

ص: 248

وأقررت عليها بالخطأ، لقولك: لا بدّ أن يكون الحق فى التصديق أو التكذيب، ولست على واحد منهما، اعتزل عنها.

وأما المكذّب فلمّا قيل له: أنت منكر، والمنكر ليس بمدّع، ومن لم يدّع لم يلزمه بينة، ولا يسأل عن حجة، اتبع صاحبه وأيم الله على ذلك، لو سئل هذا المدعى عن بينته، وكشف حجته، فقيل له: من أين عرف قلبك، وأيقنت نفسك إيقانا لا يخالجه شكّ، ومعرفة لا يشوبها ريب، ولا ينازعها شبهة، أن محمدا صلى الله عليه وسلم ليس برسول؟ لما درى ما يقول، لأنه لا يستطيع أن يتقوّل على الرسل، ولا أن يتكذّب على الكتب، فيقول: قد أخبر الله فيها أنه لا يبعث نبيا، ولا ينزل وحيا فى كتاب مسطور بعد التوراة والإنجيل والزّبور، بل قد يجد أهل الكتاب فى أقاويل رسلهم، وأخابير كتبهم، أن الله تبارك وتعالى ينزل كتابا جديدا أو كلاما حديثا، بعد خراب بيت المقدس فى آخر الزمان، ولم ينزل بعد ذلك كتابا إلا القرآن.

وأما الرجل المصدّق بمحمد صلى الله عليه وسلم فقيل له: أمّا أنت فقد ادّعيت، والمدّعى يسأل عن الحجة، وتقبل منه البينة، فما بيّنتك، ومن يشهد لك؟ فقال:

ألم تقولوا: إن الحق لا يخرج من بيننا، ولا بدّ أن يكون مع بعضنا؟ قالوا: بلى! قال:

فأية بينة أحقّ وأعدل، وأى شهود أزكى وأفضل من شهادتكم بسقوط صاحبىّ، وثبوت الحق من بعدهما فى يدىّ؟ قالوا: إن الأمر لكما تقول، ولكن البينة أشفى للصدور، فأقام بيّنة من الكتاب، وشهودا من الوحى، وآيات سوى ذلك عظاما، وبيّنات عوامّ، من كلام لا يقدر عليه الخلق، وصدق لا يكون إلا من قبل الربّ، شبيها بما أورده أمير المؤمنين عليكم، وكتب به فى صدر كتابه هذا إليكم، مما قد تشهد له قلوب الأمم، ويزكّيه فعال العرب.

فلما أقام بيّنته، وثبتت حجته، ووجب حقه، وقضى به له، قيل له: وكيف

ص: 249

توسّعت الأمور عليك، وضاقت المقالة، لك أن تقول: إن الله لا يبعث نبيا بعد محمد صلى الله عليه وسلم، ولا وحيا ينزل غير القرآن، فأبطلت الكتب المحدثة، وأكذبت الوثيقة، ولم تترك وحيا غير القرآن، ولم يجز للنصارى أن تقول: لا نبىّ بعد عيسى عليه السلام، ولا كتاب خلف الإنجيل، وعن ذلك من أخبار الكتب ما قلنا:

كل متنبّئ بعد نبيّنا كذاب، فشاعت وجازت الحجة، ووضح العذر. وأما النصارى فيجدون فى أواخر كتبهم، وأقاويل رسلهم، أن الله عز وجل يبعث نبيّا حديثا، وينزل كتابا جديدا، فليس لهم أن يكذّبوا نبينا صلى الله عليه وسلم، ولا أن يردّوا كتابنا.

فهؤلاء الثلاثة: أما الشاكّ فسقط، وأما المنكر فبطل، وأما المصدّق فثبت ثبوتا ليس فيه مدخل شبهة، ولا موضع لحجّة، ولا معلق لمنازعة، وذلك أن المنكر لوجوب حقه، والشاكّ فى ثبوت صدقه، لا يجد بدّا من أن ينحى الصدق عن الخلق، ويخلى الدنيا من الحق، وهذا قول المكذبين بربهم، الشاكّين فى بعثهم، فأحسن النّظر فى معانيه، ينكشف لك هما فيه إن شاء الله.

ومن أبين آياته وأدلّ علاماته صلى الله عليه وسلم، ووسع له فيما صدر إليه، أنه لما أخبرت النصارى واليهود أنهم لم يجدوا محمدا صلى الله عليه وسلم فى التوراة والإنجيل موصوفا مكتوبا، تجمّعت العلماء منهم، وتدارست الكتب فيما بينهم، فلما نظروا إلى اسمه، وعاينوه بنعته، وكانوا يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، ويستفتحون بذكره على من سواهم، كفرت طائفة حسدا من عند أنفسها، وجحدا من بعد ما تبيّن لها، وآمنت طائفة، تصديقا بكتابها، وخوفا من ربها.

فلعمر الله لولا أن الذين آمنوا بحقه، وصدّقوا بأمره، رأوا صفته عيانا، وقبلوا نعته إيقانا، لما فارقوا أديانهم، ولا جادلوا إخوانهم، حتى وقفوهم على اسمه ونسبه، وصفته وعلامته، وهم علماء بنى إسرائيل، وحملة الإنجيل: من أهل الكتاب الذين

ص: 250

احتج الله عز وجل بهم على العرب فقال عز وجل: «أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ» ولعمر الله إنها لآية عظيمة، وحجة بليغة، ذكرها الله فى كتابه وجعلها على العرب من بيّناته، فقال لهم:«قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا» يقولون: وعدنا أن يرسل رسولا، فقد أرسله، وحقّق قوله، وصدّق وعده، واحتجّ النبى صلى الله عليه وسلم بذلك وذكره، ولم يكن النبى صلى الله عليه وسلم ليجادل ويحتجّ فى أمرهم بكذب وباطل، ولم يكن ليقول للنصارى واليهود، فيما ذكر الله من صدق الموعود: إنه فى التوراة والإنجيل مكتوب موجود، إلا وهو من ذلك على حق يقين، ونور مستبين، وكيف كان يستشهد من التوراة والإنجيل بكذب، ويتقوّل عليهم الباطل، مع حرصه على تصديق أهل الكتاب، ليستدعى به إيمان أحياء العرب، أما كان يعلم أنه إذا قال لهم:

إنه موجود فى مثانى كتبهم، وسمّى على أفواه رسلهم، فلم يجدوا خبره يقينا، ولا وصفه مستبينا، أنهم سيدبرون عنه إدبارا، تزداد به العرب نفارا، إلا أن يقولوا خطأ من علمه، وهواء من خبره، فكيف لم يخطّ إذن فى كتبهم حرفا غيره، ولم يخالف منها شيئا سواه؟ سبحان الله! لقد أكثر المؤمنون العجب من ذهاب الأساقفة بكم، فأنتم إن تنكروا ما يقولون لكم، مما ليس لذى لبّ أن يأذن له أن يؤمن به، ولا أن ينبذ (1) إليه سمعه، يقولون: إن أنبياء الله ورسله، المبعوثين بالرحمة إلى خلقه، لطفت النبوة منهم، ووقعت الأخبار المنزّلة عليهم، على صغائر الأمور، وغوامض الخطوب، فسار الناس عليها، وأشاروا لهم إلى طلبها، فهى مكرّرة فى مثانى كتبهم، وبطون صحفهم، وأقاويل رسلهم، وتركوا من كلام الله النبأ العظيم والأمر الكبير، والذكر الحكيم الذى ملك آفاق الأرضين، واستفاض على جميع العالمين، لم يذكروه

(1) أى يلقى.

ص: 251

بخير يأتمرون به، ولا بشرّ ينتهون عنه، كلا! ما ترك الله على هذا خلقه، ولا بهذا وصف تبارك وتعالى نفسه، إنه لأرحم الراحمين، وأحكم الحاكمين.

ولئن رجعت إلى قلبك، لتقولنّ فى نفسك: لعمر الله لو كان هذا الأمر الذى طلع طلوع الشمس، وامتدّ امتداد النهار، فبلغ مشارق الأرض ومغاربها، وسهول الآفاق وحزونها (1)، حقا وصدقا وعدلا، لبشّرت الكتب به، وتنبّأت الرسل عليه، ودعت النّذر إليه، تزبينا له، وترغيبا فيه، وأمرا به، ولو كان ضلالة وجهالة وعماية، لتقدّموا فى التحذير منه، والتزهيد فيه، والتّثبيط عنه، فيدعو ذلك إلى أن ينظروا فى كتب الأنبياء، وأقاويل الرسل، فأيم الله لئن طلبت لتجدنّ، ولئن اجتهدت لتوفّقنّ، وما الصواب بممنوع، ولا الخير بمحظور، ولقد كانت العلماء بالكتب والبصراء بالتأويل تجده، ولكنها كانت تكتمه بتحريف كلام الكتب عن مواضعه، وصرف تأويل الحكم إلى أشباهه، حسدا من عند أنفسهم، وبغيا بعد ما تبيّن لهم، ثم لقد اقتديتم بهم، وجريتم معهم، وأخذتم عنهم، بلا حجة لكم ولا قوة معكم، إلا الاقتداء بالآباء، والاتّباع للآثار، فاتّق الله فى نفسك، واتّهم الرجال على دينك، ولا تجعل النظر إلى غيرك من ذوى الشك فى القلوب، والفسخ فى

(2) والتّهم فى التعطيل، الذين لعلّهم يعرض لآرائهم، ويقع فى أوهامهم أن يقولوا: فلعل ما يتلو عليكم أمير المؤمنين من آيات القرآن، ويقرع لكم من حجج الوحى، شىء زيد فى المصاحف بعد النبى صلى الله عليه وسلم، وهذا ما لا يحتمله عقل صحيح، ولا نظر قوىّ، وذاك الشاكّ فى شهادات الرجال- متفقة من بلدان وأمصار مختلفة، وشعوب وقبائل متفرّقة، ليس يدعوهم إلى ما شهدوا دين، ولا يحملهم على ما اتفقوا عليه دنيا- لا يستقيم له أن يؤمن (3) بما لم تدركه جوارحه، وتحيط به

(1) الحزون: جمع حزن بالفتح، وهو: ما غلظ من الأرض.

(2)

هكذا فى الأصل.

(3)

فى الأصل «أن يؤمن له» بزيادة له بعد يؤمن، ولا حاجة إليها بل هى قلقة فى الجملة.

ص: 252

حواسّه، لإسقاطه حجّة الإجماع، وإبطاله شهادة العوامّ، واتفاق المختلفين دلالة واضحة، فهو سائلكم عن الحجة فى الإنجيل، والبيّنة على التوراة، شكّا فى الرب، وتكذيبا بالرسل، فما كنت قائله له، أو مجيبه به فى كتابكم، فأجبه بمثله فى كتابنا، وإن كانت الأحوال منها غير معتدلة ولا مؤتلفة ولا مرتفقة ولا واحدة تعتدل حالاهما، ويتّفق أمرهما من كتابكم، ما لم تنزل به الملائكة وحيا كالقرآن، ولم يشافه المسيح به أصحابه باللسان، إنما كان فعلا أثبت من بعده، ولم يكن الفعال موضوعا بعده، وليس يكتب أمير المؤمنين بهذا إليكم شكّا فيه، ولا يورده عليكم مرية به.

ولقد علم أمير المؤمنين أن كتب الله عز وجل محفوظة، وأن حججه مخزونة، لا يزاد فيها على تقادم عهد، ولا ينتقص منها على تقارب دهر، وأن ذلك ثبت فى الإنجيل من بعد عيسى عليه السلام، وأنه قال لمن اجتمع إليه من الحواريّين:

«بالوحى أكلّمكم، والأمثال أضرب لكم» فأمثاله المضروبة كلام، وكلامه الرائع وحى، ولكن ما بال الشكّ ينفى عن كتابكم بحجة الاجتماع عليه عندكم، وهو على ما وصف أمير المؤمنين لكم، وسيّان فى تنزيل كتابنا، وقد أدرك شهادة دينه، إما ما قربا (1) من عهده، ومعاينة وحيه، واجتماع على حفظه، هذا حكم مختلف.

فقل للذين يشكّون فيه ويرتابون به: أوقعوا أوهامكم على حالات الأوقات التى تعرفون وقومها (2) بطبقات الرجال الذين يتهمون.

فإن قالوا: أمّا طبقات الرجال التابعين، وحالات أزمان أمير المؤمنين، فذلك ما لا يسوغ الأقاويل فيه، ولا تدخل الشبهة عليه، لانتشار القرآن وامتداد الزمان، وكثرة الحملة لآياته فيهم، والحفظة للسانه منهم، ولكن الدين الذى نزل به القرآن،

(1) هكذا فى الأصل، والعبارة كما ترى مضطربة.

(2)

هكذا فى الأصل.

ص: 253

وقبض النبى صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم، وكيف بوقوع تهمة، أو دخول شبهة، على أقوام لبث النبى صلى الله عليه وسلم عشرين حجّة فيهم، يتلو كتاب الله عز وجل فى كل عام عليهم، حتى حملوه فى صدورهم، وحفظوه فى قلوبهم، وكرّر فى آذانهم مسموعا، وأمرّ على أبصارهم مكتوبا، وجرى على ألسنتهم متلوّا، وجمعه كثير منهم محفوظا، ثم توارثوه فيهم، وتداولوه فيما بينهم، حتى أدّوه إلينا، وأوفوا به عندنا، من مواضع متفاوتة، وأصناف وأجناس متباينة، على كلمة واحدة.

فإن قالوا: اتفقت الرجال على الزيادة فيه، وأمكنت الحال من الحمل عليه، فليعلموا أن المؤمنين المخلصين ليسوا فى الزيادة متّهمين، وأن المنافقين الملحدين ليسوا على ذلك بقادرين، وكيف يقدر القليل من المنافقين على مخالفة الجمع من المؤمنين، بعد ما حفظته قلوبهم؟ ووعته أسماعهم، ثم تكتتم القدرة لهم، وتستتر الزيادة منهم؟

هذا ما لا يقدر عليه منافق، ولا يطيقه مشرك ولا فاسق، وأيم الله أن لو قدرت اليهود على الزيادة فى الإنجيل لأفسدوا كتابكم، وغيّروا دينكم، ولو جعل الله المنافقين على الزيادة فى كتابه قادرين، لبدّلوا ديننا، وغيّروا حالنا، ولو كانوا لذلك مقرنين (1) وعلى ذلك مقتدرين، لكان الذى كتب به أمير المؤمنين إليكم، وأورده من حجج الله عليكم، أوّل ما تلقون، ورأس ما تقترفون، فلا تلقينّ إلى ما قاله المضلّ سمعك، ولا تنصت الدّهر إليه ذهنك؛ فإنه اتخذ الشّكّ فى كتابنا ذريعة إلى الإخلال بكتابك وسلّما إلى الشك فى دينك (2)، وعلّة فى الطعن على ملّتك، ولكن قل: يا ولىّ الشيطان:

أنّى وقع لك إيمان بأنك من ولد فلان؟ أتقول شهدت الجيرة، واجتمعت العشيرة، واتفق المختلفون، فذهب الشكّ وزال الرّيب، ووقع الإيقان من غير العيان؟ صدقت فما بال الشك فيما اجتمعت العامّة على القول به، واتفقت الجماعة فى الشهادة عليه،

(1) أقرن للأمر: أطاقه وقوى عليه.

(2)

فى الأصل «فى دينه» .

ص: 254

من آيات الكتب وبيّنات الرسل! وإن ذهب بهذا عن أمره، وباعده عن شبهه، فتؤمن أنه من نطفة خلق، ومن رحم خرج، فإن جحد وأبى ألّا يؤمن بما لا يرى فقل:

أرأيت لو كنت سميعا أعمى، أكنت تؤمن بشىء مما فى الدنيا: من سماء أو هواء، أو بحر أو سبع، أو أرض أو جبل، أو شبه ذلك، مما لم يدركه العيان، ولم يقبله إلا عن الناس؟ فإن قال نعم، فقل فهل لك إلا بالاجتماع الكفر بالرب؟ وما لدائه دواء غير الصّلب؟ فاتق الله إذ كنت إماما وقائدا لأهل ملكك، لا تقدهم إلى النار، فتحمل أوزارا مع وزرك. فإن من أبين آيات الوحى، وأدلّ علامات النبى صلى الله عليه وسلم أنه لا يبتدع فى الدين أمرا من تلقاء نفسه، ولا يتقدم فى الأمور بين يدى ربه، والله أظهر فيما أنزل من الكتاب أمورا كان يحسبها صلى الله عليه وسلم مستورة، فقال تأديبا له، وإخبارا لمن آمن من بعده:«وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ» وقال: «عَبَسَ وَتَوَلَّى. أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى. وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى. أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى. أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى. فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى. وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى. وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى. وَهُوَ يَخْشى. فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى. كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ» وقال تعالى: «وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا. إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً»

وقال له حين صرف قلبه عن بيت المقدس إلى البلد الحرام، حين سكنت القلوب إليها، وأنست النفوس بها:«وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ» وكانت القبلة التى صرفه الله إليها وأمره بها عظيمة على المنافقين واقعة، بخلاف الكافرين، كبيرة (1) إلّا على الّذين هدى الله من المؤمنين، فإنهم قالوا: إذا اختلفت القبلتان، وافترقت الجهتان، كانت الطاعة

(1) فى الأصل «كثيرة» وهو تصحيف.

ص: 255

فيهما واحدة، لا اختلاف فيها ولا افتراق عليها، وكيف تختلف الطاعة من رجل بنى بأمر الله عز وجل، ثم هدم بوحى الله؟ .

فإن قلت: إن الله حوّله عن أفضل القبلتين، وأقوم الجهتين، فلا سواء فى الفضل البيّن والخير السّرّ: قبلة سلّط الله عليها الكافرين، ولم يمنعها من الظالمين، وقبلة منعها بجنود من عنده، وعصمها بغير ما حول من خلقه، ولا حرمة يدعيها أحد ممن فيها، «فأرسل طيرا أبابيل (1) ترمى الأعداء بحجارة من سجّيل. فجعلهم كعصف مأكول» فإن تقل: هذا خبر ننكره، وقول لا نعرفه، فبأىّ حديث بعد هذا تؤمن به، وتشهد لله عز وجل أنه من قبله؟ وأنتم تعلمون أنه أنزل الله عز وجل سورة الفيل على قوم أدركه منهم بشر كثير.

فإن قلت: إن محمدا صلى الله عليه وسلم خبّرهم بما عاينوه وأدركوا خلافه، نقل:

إنه أراد أن يفرّقهم عنه، ويوحشهم منه، وأحب أن يرموه بالكذب، ويقذفوه بالحمق، ويصموه بالجنون، ويظنّوا به الظنون، كلا! ما كان نبىّ ولا غير نبى ليجاهر (2) أقواما بخلاف ما رأت أبصارهم، وشاهدت آباؤهم، فيخبرهم بخلاف ما شهدوا، وتكذيب ما عاينوا، فلا تكوننّ فى هذا من الممترين، ولا بأمر الفيل من المكذّبين.

فلعمر الله لو كان من أمر النبى صلى الله عليه وسلم ما تلحد أنت وقومك إليه، لما قام معه رجلان، ولا اختلف فيه سيفان، وإن فيما صنع الله عز وجل بالفيل وأتباعه، دلالة على قبلة الله وأنبيائه، فاتّق الله! فقد شرح أمير المؤمنين علامات النبى صلى الله عليه وسلم، وكشف الأغطية لك عن النور بآيات الوحى فإن مالت

(1) أبابيل: جماعات، والسجيل: الطين المتحجر، كعصف مأكول: أى كزرع أكل حبه وبقى تبنه، وقصة أصحاب الفيل مشهورة.

(2)

فى الأصل «ليجاهد» وهو تحريف.

ص: 256

الأهواء بك، وغلبت الأساقفة عليك، وحضرك الرؤساء الذين يجعلون مع الله آلهة أخرى بلا حجّة عندهم، ولا سلطان أتاهم، فقل: أنبئونى عما اجتمعت عليه النصرانية، وذهبت إليه بهم المعانى، من تشقيق (1) الكلام، وتصريف الكتب: أحروف تتعسّفونها، أم لغة تعرفونها؟ فإن قالوا: إنهم بغير لغة يتكلمون، فهم إذن قوم يلعبون، وإن قالوا: إنهم يتكلمون بلغة معروفة، ومعان معلومة، فقل: أخبرونى عن قولكم: أب وابن، أهما ما تعترف العقول من المنطق، ويقع فى القلوب من المعنى، أم لا؟ فإن قالوا: لا، ليس ذلك بالذى تذهب أوهام العباد إليه، ولا بالذى تقع الحقائق فى الآباء والأبناء عليه، إنما هو كقول الله عز وجل فى التوراة لإسرائيل.

«بكرى» لا يعنى ولادة الرّحم، وكقول المسيح عليه السلام للحواريّين:

«أنتم إخوتى» لا يعنى أخوّة النّسب، فذلك قول لا يجدون معه بدّا من أن ينسبوا عيسى عليه السلام عبدا، وإن قالوا: بل هو ما تجرى به ألسن العباد، ويقع فى قلوب الخلق من الولادة المعروفة، والأبوّة المعلومة، فليخبرونا متى كان الأب والدا، والابن مولودا، أقبل الولادة أم بعدها؟ فإن قالوا: قبلها، رجعوا عن القول الأول بتثبيت الأبوّة، إلا أن ذلك ليس بالشىء الذى تذهب إليه الأوهام، ولا بالمعنى الذى يقع فى قلوب الأنام.

ولا بدّ إذا سقطت الولادة المعروفة، وبطلت الأبوّة الموجودة، أن يقولوا:

إن الأب والابن اسمان علّقا على غير معنى، ونسبان أضيفا إلى غير حق، فيقرّون أن عيسى عليه السلام خلق مثلهم، وأنهم يتكلمون بغير لغة أحد منهم.

وإن قالوا: إنما كان الابن مولودا والأب والدا بعد الولادة، فقد أقرّوا بأن الابن حدث مخلوق، وعبد مربوب، لقولهم: إنه لم يكن حتى ولد، ولم يولد حتى خلق، وقل لمن يقول الزّور العظيم، ويقذف بالإفك المبين، أليس الأب أبا على حياله

(1) شقق الكلام: أخرجه أحسن مخرج.

ص: 257

ولم يزل، والابن ابنا نجل (1)، وروح القدس كذلك، فإن قالوا: نعم، فقد أقرّوا بأنهم ثلاثة متباينة، وقعت عليهم ثلاثة أسماء متفاوتة، وتركوا قولهم: إنهم ثلاثة أصلهم واحد.

وإن قالوا: الأب والابن وروح القدس واحد، ولكنّ يعضه أب، وبعضه ابن، وبعضه روح القدس، فقد دخلوا فى التحديد الذى هو عيب عندهم، وقالوا فى التبعيض بما هو كفر قبلهم، وإن قالوا: ليس مبعّضا ولا مجزّأ ولا محدودا، ولا ثلاثة متباينين، فإذن هم قوم يلعبون: يقولون: الأب ابن، والابن أب، والوالد مولود، والمولود والد، والكبير صغير، والصغير كبير، والقليل كثير، والكثير قليل! وهذا من أبين المحال، وأخلف المقال، وليس من المنطق ما لا يوجد فى لغة عرب ولا عجم، ولا لسان أمة من الأمم، وإنما أرسل الله عز وجل كلّ نبى بلسان قومه ليببّن لهم، فيضلّ الله الظالمين، ولولا ذلك لما فهمت الأمم مذاهب أقاويل الرّسل، ولا معانى أحاديث الكتب، فلا تطع الذين يلعبون بأنفسهم، ويتكلمون بغير لغتهم، ويقولون:

الثلاثة واحد، والواحد ثلاثة، وهذا محال فى مجارى المقال، ومعانى الفعال.

لعمر الله لئن اتّهمت عقول الأساقفة على دينك، واهتممت بالنظر فى توحيدك، لتعلمنّ أن الواحد لا يكون ثلاثة، وأن الثلاثة لا تكون واحدا، إلا على وجه ما له ثان تقول به، ولا منه مخرج تستريح إليه، فألق نحوه سمعك، وأنصت إليه فهمك، فإن أمير المؤمنين واصفه لك، وليس واقعا إلا على المخلوقين، ولا لازما غير المحدودين، ولا داخلا على ربّ العالمين: وهو أن يكون الشىء أصله واحد وأجزاؤه كثيرة، من نحو الإنسان، وهو أصل يجمعه اسم، وله أجزاء تلزمها أسماء، فليس الجزء بالأصل، ولا الأصل بالجزء، ولكن الجزء بعض الأصل، فإذا أردت الجزء قلت: يد الإنسان، وسمع الإنسان، ولولا أنه محدود مخلوق مجزّأ مبعّض، لما جاز هذا القول فيه، ولا

(1) نجل: أى ولد.

ص: 258

دخل هذا المثل عليه، وكذلك الشمس: الأصل واحد، وهى شمس، والأجزاء كثيرة:

وهى عين الشمس، وضوء الشمس، وشعاع الشمس، ودقيقها، وغليظها، وحرورها (1)، وأعلاها، وأسفلها، وأشباه ذلك.

فلئن قلت: سمّيت كل جزء من الأجزاء على حياله إنسانا، وكلّ جزء من الشمس دون أصله شمسا، ونسبت فعل الأصل إلى بعض أجزائه، وتركت أن تنسب الأصل فاعلا ببعض الأجزاء كما تقول: بسط الإنسان بيده، ومشى برجله، ونظر بعينه، ثم ضربت ذلك لله عز وجل مثلا، وجعلت الله له قياسا، فقلت: الأصل واحد، وهو الله عز وجل، والأجزاء كثيرة، وهى أب وابن وروح القدس، وكل جزء منها إله على حياله، وربّ دون غيره، لم تجد بدّا أن تلحق اليد والعين والنفس بالأب والابن وروح القدس، فتكثر آلهتك، وتحدّد ربك، وتترك قولك: إن الله ليس محدودا ولا مجزّأ ولا مبعّضا، إلا أن يكون إنما تريد مذاهب الأسماء فتقول: المعنى واحد، وهو الله عز وجل، والأسماء أب وابن وروح القدس، فإن كنت تقول هذا وكنت إنما تعبد أسماء، فما تجد بدّا من أن تعبد الأسماء كلّها، وتقول: إنها آلهة على حيالها، حتى تقول باسم: ارحمنى، وبثان: اغفرلى، فاتّقوا الله يا أهل الكتاب، فإن الله عز وجل ليس بأب ولا ابن ولا اسم، ولكن له الأسماء الحسنى فادعوه بها، وذروا الّذين يلحدون فى أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون.

فإن أشارت الأساقفة إلى بعض الإنسان باليد والرجل وأشباه ذلك، وقالوا:

ليس إنسانا، فقل: لا، ولكنه للإنسان، وقل: هو إنسان بكماله، وكذلك إن أشاروا إلى بعض الشمس، فقالوا: أليس هذا الشمس طالعا؟ فقل: لا، ولكنه بعضها، ولو كانت الأسماء التى تقع أبصاركم عليها، وتشير أيديكم إليها من الشمس والسماء والهواء شمسا وهواء وسماء، لكانت الشمس والهواء والسماء أكثر مما يبلغه الإحصاء، ولو

(1) الحرور: الحر.

ص: 259

قصدت بالإجابة لمسالك هذه الأودية، لبطلت الحجج الدّاحضة، وانقطعت الأقاويل المتناقضة، وسل من قبلك من أساقف أمتك، وشمامسة أهل ملّتك الذين يزعمون أن عيسى المسيح، ويرفعونه أن يكون عبدا: على أى شىء وقع اسم المسيح من عيسى:

على الرّوح، أم الجسد، أم على كليهما؟ فإن قالوا: وقع على الروح نفسه، لأن الرّوح إله دون غيره، فقد أقروا بأن إلههم يأكل ويشرب، ويمشى ويركب، لأنهم يجدون ذلك من فعل عيسى مبيّنا قبلهم، موصوفا عندهم، فإن قالوا: وقع اسم المسيح على الجسد بعينه، فكان الجسد هو المسيح إذن دون غيره، والمسيح إذن مخلوق عندهم، والإله إنسان إذن مثلهم، فلم يعبدون المخلوق، ويدعون من خلقه وبرأه؟ وإن قالوا:

وقع الاسم على الروح والجسد جميعا، فلن يجدوا مخرجا ولا بدّا ولا محيصا- إذا أوقعوا الاسم عليهما- من أن يضيفوا الأعمال إليهما، فيقولوا: إن الجسد المخلوق هو خلقهم، وإن الروح الخالقة قد ماتت قبلهم، وذلك لما يجدون من ذكر موت عيسى عليه السلام فى الكتب عندهم، وفى الإنجيل الذى قبلهم، وسل من قبلك عن الأب والابن، فقل:

أيّهما أعظم، وأيهما أصغر؟ فإن قالوا: الأب أعظم والابن أصغر، فقد جعلوهما متباينين، وإن قالوا: هما واحد وكلاهما عظيم، وليس الأب بأعظم من الابن، ولا الابن بأصغر من الأب، فقد نقض حينئذ جوابهم، وأكذب المسيح عليه السلام كلامهم، حيث يقول:«لو كنتم تحبّوننى لفرحتم حيث أذهب إلى إلهى، فإن إلهى أعظم منى (1)» فلم يقل: «أعظم منى» إلا وهو مقرّ بأنه أصغر منه، وسلهم عن قول المسيح:«أنا أذهب إلى إلهى وإلهكم (2)» فقل: من هذا الإله الذى ذهب عيسى إليه صلى الله عليه وسلم: إله فى السماء، متباين منه، منقطع عنه؟ فهما إذن اثنان

(1) ورد فى إنجيل يوحنا (الإصحاح 14 آية 28) من الكتاب المقدس طبع بيروت سنة 1909 «لو كنتم تحبوننى لكنتم تفرحون لأنى قلت أمضى إلى الأب، لأن أبى أعظم منى» .

(2)

ورد فى إنجيل يوحنا (الإصحاح 20 آية 17) من الكتاب المقدس: «إنى أصعد إلى أبى وأبيكم وإلهى وإلهكم» .

ص: 260

متباينان، أم إله كان به متصلا، وكانا جميعا واحدا؟ فكيف إذن يجوز له أن يقول أذهب إليه»؟ إلا أن يقولوا: إنّ بعضه ذهب إلى بعض! وهذا مما لا يجوز عندهم فى صفة الربّ عز وجل.

وسل من قبلك: أخرج المسيح من بطن أمه مريم بكماله، حتى كان البطن منه فارغا، وكان هو منه بكماله خارجا؟ فإن قالوا: نعم، فقد انكسر قولهم: إن الله بكل مكان، وإن قالوا: لم يخرج المسيح، ولم يخل البطن، فقد كذبوا إذن فى قولهم:

إنه قد خرج، وأقرّوا أنه قد ولد، فتعالى الله عما يصفون، وتنزّه عما يشركون.

وسلهم: لم هبط عيسى إلى بطن مريم، وتجسّد باللحم والدم؟ فإن قالوا: ليمحق الخطايا من الأرض، ويربط الشيطان عن الخلق، فقل: كيف إذن لم يربطه عن نفسه؟ وكيف جلاباه (1) من اليهود بصلبه؟ ولم سلّط على أهل دينه يتّبعون فى كل شعب (2)، ويقتلون بكل واد؟

وقل للذين يقولون: إن الخالق فى كل مكان من السماء والأرض وغير ذلك:

أيّهما أعظم: المحيط المشتمل أم المحاط المشتمل عليه كما يقولون؟ تعالى الله عما يشركون؟

فإن قالوا: إنما التحم بعضه دون بعض، فقد حدّوا وبعّضوا ونقصوا، وإمّا قالوا، فلن يجدوا بدّا من أن يقولوا: إن بعض المسيح الذى جعلوه ربّهم، وهو إله عندهم، ميت بعضه جيفة، وإن بعضه حىّ طيب، لأنهم زعموا أنه التحم بجسد حى فيه روح، فلا بدّ إذن أن يدخل عليه ما يدخل على الأجسام الحيّة من الخوف والفزع والفرح والعطش وأشباه ذلك، وهو عندهم كفر عظيم، وإفك مبين، فاتّق عقوبة الله ربّك ولا تمش مكبّا على وجهك، ولكن اطلب والتمس وابحث، فقد قال عيسى عليه السلام فى الإنجيل:«من سأل أعطى، ومن طلب وجد، ومن استفتح فتح له» (3).

(1) كذا بالأصل.

(2)

الشعب: الطريق فى الجبل.

(3)

ورد فى إنجيل متى (الإصحاح 5 آية 42) من الكتاب المقدس: «من سألك فأعطه، ومن أراد أن يقترض منك فلا ترده» وورد فى إنجيل لوقا (الإصحاح 11 آية 10 من الكتاب المقدس)«من يسأل يأخذ، ومن يطلب يجد، ومن يقرع يفتح له» .

ص: 261

اجمع العلماء والبصراء الذين عندك، والأساقفة والرّهبان الذين قبلك، فقل:

لأى شىء نسبتم المسيح إلها، وجعلتموه ربّا؟ ونجد الله سمّاه فى الكتاب ابنا، وقد تجدونه قال:«إنى أذهب إلى أبى وأبيكم، وإلهى وإلهكم أيضا» وهذا كلام يحتمل وجهين: أحدهما أولى به، وقول لا يحتمل إلا وجها وهو الرّبوبية، أم كيف تنظرون إلى كلامه:«أذهب إلى أبى وأبيكم» فتفردونها فى نفسه وقد قالها فيه وفى غيره؟

قاتّق الله وكن من القائمين بالحق، الموحّدين للرب. إنّ أمير المؤمنين قد ضرب لك أمثالا جمّة، وصرف إليك مسائل كثيرة، وبيّن لك من آيات النبى صلى الله عليه وسلم وعلامات الوحى قليلا من كثير، واضحا من تفسير، لا تمتنع العقول من التصديق به، ولا القلوب من الإقرار به.

وسيذكر لك أمير المؤمنين من علامات النبى صلى الله عليه وسلم فى التوراة والإنجيل ما يكتفى به، إن شاء الله، وباليسير منه، لأن كتب الله عز وجل محفوظة، وحججه محروسة، لا يزاد فيها ولا ينقص منها، وإذا وجدت فيها كلمة تدلك على حق وتهديك إلى رشد، فلست واجدا أخرى تصدّك عنه، وتشكّكك فيه، إذا تلى ذلك بالحق، ووضع على الصدق، ولكن ضلّت اليهود والنصارى بتحريف تأويل الكلام وتصريف تفسير الكتب، وأمير المؤمنين يسأل الله العصمة والتوفيق.

من ذلك ما قد شهد به عيسى عليه السلام عندكم، وبيّنه فى الإنجيل لكم، إذ قال للحواريّين:«أنا أذهب وسيأتيكم البار قليط روح الحقّ الذى لا يتكلم من قبل نفسه، إنما يقول كما يقال له، وهو يشهد علىّ وأنتم تشهدون، لأنكم معى من قبل الناس بالخطيئة، وكل شىء أعدّ الله لكم يخبركم به (1)» وترجمة البار قليط: أحمد،

(1) ورد فى إنجيل يوحنا (الإصحاح 14 آية 26) من الكتاب المقدس: «وأما المعزى: الروح المقدس الذى سيرسله الأب باسمى فهو يعلمكم كل شىء، ويذكركم بكل ما قلته لكم» وفيه أيضا (الإصحاح 5 آية 26): «ومتى جاء المعزى الذى سأرسله أنا إليكم من الأب روح الحق الذى-

ص: 262

هذا ما لا شكّ ولا مرية فيه، وهو الذى يخبر بما وعد الله المؤمنين وصالحى الحواريّين فى القرآن، ولستم تجدون ذلك فى التوراة ولا فى الإنجيل.

ومن ذلك قول أشعيا النبى عليه السلام: «قيل لى: أقم بطارا ما ترى بخبرى (1)؟

قال: أرى راكبين مقبلين أحدهما يقول لصاحبه: سقطت بابل وأصنامها المنحوتة» ولسنا نعلم نبيّا ركب بعد موسى صلى الله عليه وسلم بعيرا إلا محمدا صلى الله عليه وسلم كثيرا.

ومن ذلك قول داود عليه السلام: «اللهم ابعث جاعل السّنّة كى يعلم الناس أنهم بشر (2)» يقول: كى يتبيّن الناس أن عيسى عليه السلام إنسان، ولسنا نعلم نبيّا وضع سنّة تنسب إليه إلا محمدا صلى الله عليه وسلم، أما عيسى فإنه نصب سنّة موسى عليه السلام.

ومن ذلك قول حبقّوق المتنبى فى زمان دانيال: «جاء الله من السماء، والقدّيس من جبال فاران، وامتلأت السّماء من تحميد أحمد وتقديسه، ومسح الأرض بيمينه، وملك رقاب الأمم (3)» وقال أيضا: «تضىء لنوره الأرض، وتحمل خيله

- من عند الأب ينبثق، فهو يشهد لى، وتشهدون أنتم أيضا لأنكم معى من الابتداء» وفيه- (الإصحاح 16 آية 13)«وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه لا يتكلم من نفسه، بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية» .

(1)

كذا بالأصل وهو تحريف، وورد فى نبوءة أشعيا (الإصحاح 21 آية 96) من الكتاب المقدس: «لأنه هكذا قال لى السيد، اذهب أقم الحارس ليخبر بما يرى، فرأى ركابا، أزواج فرسان، ركاب حمير، ركاب جمال، فأصغى إصغاء شديدا، ثم صرخ كأسد: أيها السيد: أنا قائم على المرصد دائما فى النهار، وأنا واقف على المحرس كل الليالى، وهو ذا ركاب من الرجال، أزواج من الفرسان، فأجاب وقال: سقطت بابل وجميع تماثيل آلهتها المنحوتة كسرها إلى الأرض

».

(2)

ورد فى سفر المزامير (مزمور 9 آية 20) من الكتاب المقدس: «يا رب اجعل عليهم رعبا، ليعلم الأمم أنهم بشر، سلاه» .

(3)

ورد فى نبوءة حبقوق (الإصحاح 3 آية 3) من الكتاب المقدس: «الله جاء من تيمان والقدوس من جبل فاران، سلاه» وجاء فى معجم ياقوت: «فاران: كلمة عبرانية معربة، وهى من أسماء مكة، ذكرها فى التوراة، وقيل: هى اسم لجبال مكة

».

وفى آية 6: «وقف وقاس الأرض، نظر فرجفت الأمم، ودكت الجبال الدهرية، وخسفت آكام القدم، مسالك الأزل له» .

ص: 263

فى البحر (1)» فإلى من ينحو هذا القول، وإلى أين يذهب بهذا المعنى؟ لئن ذهب به إلى غير الذى تحمل خيله فى البحر، وبدأ من جبال فاران أمره، وغلب على الأرض ومسحها (2)، وملك رقاب الأمم كلها، لقد تركتم الحق وأنتم تعلمون.

ومن ذلك قول داود عليه السلام فى الزّبور: «صدّقوا وسبّحوا الربّ تسبيحا حديثا، سبّحوا الذى هلّله (3) الصالحون، ليفرح إسرائيل بخالقه، ويتوب صهيون من أجل أن الله اصطفى له أمته، وأعطاه النصر، وسدّد الصالحين بالكرامة، يسبّحونه على مضاجعهم، ويكبّرون الله بأصوات عالية، بأيديهم سيوف ذات شفرتين، لينتقم الله من الأمم الذين لا يعبدونه، ثم يقيّد ملوكهم بالقيود، وأشرافهم بالأغلال (4)» فأيّتما أمّة يكبّرون الله بأصوات وأذان الصلوات الدائمة، وعلى كلّ شرف (5)، وعند كل حرب، وأيتما أمة كانت سيوفها ذات شفرتين إلا أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟

ومن ذلك قول أشعيا: «سبّحوا الرّب تسبيحا حديثا، ويسبّحه من آفاق الأرض فوج (6) يكون فى بنى فيار (7)» وبنو فيار قريش، أهل فاران الذى نزل فيه القرآن، وأيّتما أمّة تسبّح من آفاق الأرض، إلا أمة محمد صلى الله عليه وسلم، عندى أكدى (8)

(1) وجاء فى آية 15 من نبوءة حبقوق، «سلكت البحر بخيلك كوم المياه الكثيرة» .

(2)

«فى الأصل» ومنحها.

(3)

فى الأصل «هلكه» .

(4)

ورد فى سفر المزامير (مزمور 149 آية 1 - 9) من الكتاب المقدس: «هللوا» غنوا للرب ترنيمة جديدة: تسبيحته فى جماعة الأتقياء، ليفرح إسرائيل بخالقه، ليبتهج بنو صهيون بملكهم، ليسبحوا اسمه برقص، ندف وعود، ليرنموا له، لأن الرب راض عن شعبه، يجمل الودعاء بالخلاص، ليبتهج الأتقياء بمجد، ليرنموا على مضاجعهم، تنويهات الله فى أفواههم، وسيف ذو حدين فى يدهم، ليصنعوا نقمة فى الأمم، وتأديبات فى الشعوب، لأسر ملوكهم بقيود، وشرفائهم بكبول من حديد، ليجروا بهم الحكم المكتوب، كرامة هذا لجميع أتقياثه، هللويا».

(5)

الشرف: المكان العالى.

(6)

فى الأصل «فرح» والظاهر أنه محرف عن «فوج» وهو الجماعة من الناس.

(7)

ورد فى نبوءة أشعيا (الإصحاح 42 آية 10 - 12) من الكتاب المقدس: «غنوا للرب أغنية جديدة، تسبيحه من أقصى الأرض، أيها المنحدرون فى البحر ومائه والجزائر وسكانها، لترفع البرية ومدنها صوتها الديار التى سكنها قيدار، لتترنم سكان سالع من رءوس الجبال، ليهتفوا، ليعطوا الرب مجدا ويخبروا بتسبيحه فى الجزائر» .

(8)

هكذا فى الأصل،

ص: 264

ومن ذلك قول أشعيا «عبدى الذى وجب به حبى الذى بشّرت به نفسى، أفيض عليه روحى، يوصى الأمم بالوصايا، لا يضحك ولا يسمع صوته فى الأسواق، ويفتح العيون العور، ويسمع الآذان الصّمّ، ويحيى القلوب الغلف (1)، وما أعطيه لا أعطى غيره، أحمد يحمد الله حمدا حديثا، تهليله يأتى من أقصى الأرض، يجوز الماء بشدة أمواجه، ويعرح وكورها (2) سكانها يحمدون الله على كل شرف، ويكبّرونه على كل رابية (3)» .

ومن ذلك قول داود عليه السلام فى المزمور الخامس والأربعين (4)، يقول الله عز وجل لمحمد فى الزّبور:«انصبّت رحمتى على شفتيك من أجل ذلك بار كل الدهر تقلّد السيف على الأمم أيها الجبار على الأمم بالقتل والأسر والسّباء بهاك وحمدك أحمد يغلب البر منك كلمة الحق، وذللت لك الأشياء سيفك يحسمه يمينك ونبالك مسمومة ويسقط عند الأمم (5)» فأىّ نبى كان على الأمم جبّارا، ولهم بإذن الله قتّالا إلا نبينا صلى الله عليه وسلم؟

ومن ذلك فى آخر التوراة: «جاء الله تبارك وتعالى من سيناء، وأشرق من ساعير، واستبان واستعلن من جبال فاران، وجاء عن يمينه ربوات القدّيسين (6)»

(1) الغلف جمع أغلف، وقلب أغلف: كأنما غشى غلافا فهو لا يعى.

(2)

هكذا فى الأصل.

(3)

ورد فى نبوءة أشعيا (الإصحاح 42 آية 1 - 4) من الكتاب المقدس: هو ذا عبدى الذى أعضده، مختارى الذى سرت به نفسى، وضعت روحى عليه، فيخرج الحق للأمم، لا يصيح ولا يرفع ولا يسمع فى الشارع صوته. قصبة مرضوضة لا يقصف، وفتيلة خامدة لا يطفأ، إلى الأمان يخرج الحق، لا يكل ولا ينكسر حتى يضع الحق فى الأرض، وتنتظر الجزائر شريعته».

(4)

فى الأصل: «فى خمسة وأربعين مزمورا» .

(5)

هكذا وردت العبارة فى الاصل، وهى مليئة بالتحريف ويتضح لك تصحيحها إذا رجعت إلى سفر المزامير، جاء فى المزمور 45 آية 2 - 5 من الكتاب المقدس:«انسكبت النعمة على شفتيك، لذلك باركك الله إلى الأبد، تقلد سيفك على فخذك، أيها الجبار جلالك وبهاءك، وبجلالك اقتحم، اركب من أجل الحق والدعة والبر، فتريك يمينك مخاوف، نبلك المسنونة فى قلب أعداء الملك، شعوب تحتك يسقطون» .

(6)

ورد فى سفر التثنية (الإصحاح 33 آية 1) من الكتاب المقدس: «جاء الرب من سيناء وأشرق لهم من سعير، وتلألأ من جبل فاران، وأتى من ربوات القدس، وعن يمينه نار شريعة لهم» .

ص: 265

وتفسير هذا أن الله عز وجل أنزل التوراة على موسى فى طور سيناء، وأنزل الإنجيل على عيسى عليه السلام فى جبل ساعير، وهو جبل بالشام، وأنزل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم فى جبال فاران، وهى بلاد مكة، وأنتم تجدون ذلك فى كتبكم مكرّرا، وتعرفونه جميعا بلغتكم.

ومن ذلك قول الله عز وجل لموسى عليه السلام: «سأقيم لهم من إخوتهم مثلك أجعل كلامى على فمه، ولا يتكلم إلا بما آمره به (1)» فمن إخوة بنى إسرائيل إلا بنو إسمعيل؟ أما تعلم أن لو كان الله عز وجل يعنى أحدا منهم لقال لهم: أقيم لكم نبيا منكم!

فإن قلتم: إنما قال من إخوتكم، وهو يريد من أنفسكم، فهب أمير المؤمنين قبل هذا الخلف منكم، ووسّع فى هذا المجال لكم، فكيف تصنعون بقول الله عز وجل فى التوراة:«مثل موسى فى بنى إسرائيل لا يقوم» فهل تجدون من هذا مخرجا، ومن الإيمان أنّ المعنى وقع على محمد صلى الله عليه وسلم بدّا؟ ألا تسمع قول الله عز وجل؟ «أجعل كلامى على فمه كى يعنى به، أمّىّ لا يقرأ ولا يكتب» .

أو ليس قد أمر عيسى عليه السلام حواريّيه أن يقولوا فى صلواتهم: «يا أبانا الذى فى السموات تقدّس اسمك (2)» كيف صار عيسى دونهم ابنا، وصار دونه أبا وهم يقولون:

«يا أبانا» ؟ أم كيف لم يجعل سليمان بن داود إلها، وقد قال الله عز وجل لداود:

«يولد لك غلام يسمّى لى وأسمّى له» ؟ ولم لا يجعلون إسرائيل إلها وقد قال الله عز وجل له: «أنت بكرى» بل لم لا يسمّون المؤمنين عامة والحواريّين خاصّة آلهة، وقد قال المسيح للحواريّين:«أنتم إخوتى» وقد قال فى الإنجيل: «أعط كل من آمن بى سلطانا

(1) ورد فى سفر التنية (الإصحاح 18 آية 15) من الكتاب المقدس: «يقيم لك الرب إلهك نبيا من وسطك من إخوتك مثلى له تسمعون» .

(2)

ورد فى إنجيل متى (الإصحاح 6 آية 9) من الكتاب المقدس: «فصلوا أنتم هكذا: أبانا الذى فى السموات، ليتقدس اسمك» .

ص: 266

يدعى له» وإن كان هؤلاء كلهم للمسيح إخوة، أفلا تجعلونهم كلّهم آلهة؟ وكيف يقولون: إن عيسى ابن الله وهو يقول فى مواضع جمة، وأماكن كثيرة، إنه ابن الإنسان؟

فكيف يكون ابن الإنسان ابن الله؟ ومتى كان ذلك؟ لئن قالوا: إن عيسى لم يزل ابن الإنسان، لقد جعلوا مع الله إنسانا، وجعلوا الله إنسانا حديثا، وجعلوا المسيح ابن الله لم يزل، وابن الإنسان فيما حدث! وهذه أمور متناقضة، وججج داحضة، وأقاويل فاحشة.

فإن قالوا: إنما نعبد المسيح لأنه رفع إلى السماء، فليعبدوا الملائكة، فإنهم فى السماء قبله، وإدريس، فقد رفعه الله وغيره، وإن كانوا يعبدون المسيح لأنه لم يخلق من ذكر. فآدم وحوّاء لم يخلقا من ذكر ولا أنثى، ولم يقعا من غمّ (1) الرحم، وضيق البطن، وحال الصّبا، فيما وقع فيه المسيح، وإن قالوا: إنما نعبد عيسى لأنه أحيا الموتى فما أحيا حزقيل (2) أكثر، وما كان من اليسع تلميذ إلياس أعجب، لأنه أحيا الموتى بعد مئين من السّنين، وإن طلبتم ذلك فى سير الملوك عند قصة اليسع أصبتموه إن شاء الله، وإن كانوا إنما يعبدون المسيح من أجل الأسقام التى أبرأ، والعجائب التى أرى، فعجائب موسى أعجب، وآياته أعظم، أين ما ذكرت لك من عجائب عيسى، من عجائب موسى: من انقلاب البحر له، وسلوك الجيش معه؟ أم أين ذلك من حجر

(1) أى ستره.

(2)

جاء فى كتب التفسير عند تفسير قوله تعالى فى القرآن الكريم:

«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ» .

قيل: هم قوم من بنى إسرائيل وهم أهل داوردان- قرية قبل واسط- وكان وقع فيها طاعون فخرجوا هاربين فأماتهم الله ثم أحياهم، ليعتبروا ويتيقنوا أن لا مفر من قضاء الله تعالى وقدره، مر عليهم حزقيل عليه السلام أحد أنبياء بنى إسرائيل- وقد عريت عظامهم، وتفرقت أو صالهم، فتعجب من ذلك، فأوحى الله تعالى إليه: ناد فيهم أن قوموا بإذن الله تعالى، فنادى، فقاموا يقولون: سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت، وقيل: هم قوم من بنى إسرائيل دعاهم ملكهم إلى الجهاد، ففروا حذر الموت فأماتهم الله ثمانية أيام ثم أحياهم.

ص: 267

يضربه فيتفجّر بعيون الماء، ويحمله معه حيث شاء؟ بل أين تلك وهذه وغير هذه من الآيات من حبس يوشع الشمس (1) ثلاث ساعات! وكل ما صنع موسى وعيسى وغيرهما بإذن الله وأمره وقدره وقضائه، فاتق الله وكن من القائلين بالحق، الموحدين للرب، ولا تقل على عيسى ما لم يقل، فإنكم لا تجدونه قال لكم فى شىء من كتبكم: اعبدونى فإنى ربكم، تعالى الله عما يقول الظالمون، ويذهب إليه الجاحدون.

وإن أمير المؤمنين قد أحبّ أن ينصح لك، فى أولى داريك بك، وأهمّ شأنيك لك، فدعاك إلى الإسلام، وأمرك بالإيمان الذى به تدخل الجنة وتنجو من النار، فإن قبلت فحظّك أصبت، ونفسك أحرزت، ولك ما للمسلمين وعليك ما عليهم، وإن رددت نصيحة أمير المؤمنين فيما فيه الحظّ فى آخرتك، فإن أمير المؤمنين ينصح لك فيما فيه الصلاح فى عاجلتك: من إعطاء الجزية التى يحقن الله بها دماءكم، ويحرّم بها سباءكم، ويجعلها قواما لمعاشكم، وصلاحا لبلادكم، وتوفيرا لأموالكم، وأمنا لجنابكم، وسعة لسربكم (2)، وبركة على فقرائكم، وغنى لأهل الحاجة والفاقة والمسكنة منكم.

ولن يذكر أمير المؤمنين فى الجزية لكم: من حلول الأمن فيكم، وعموم العافية إياكم، واستقامة البركة عليكم، وكفّ أيدى المسلمين عنكم وبسطها على الأعداء منكم، شيئا إلّا وفى قليل ما كان من أشباه ذلك أيام تلك الفدية، التى كان الله أجرى نعمتها لكم على يده، وفتح بركتها عليكم من قبله، ما يدلّكم على صدق أمير المؤمنين فيما يذكر، ويشهد له على حقه فيما يقول إن شاء الله، فقد تعلمون أن الله قد أدخل على كل طرف من أطرافكم، وصنف من أصنافكم، بتلك الفدية، أمورا عظيمة البركة، واسعة المنفعة، فى أمور غير واحدة:

(1) هو يوشع بن نون، فتى موسى عليهما السلام. روى أنه قاتل الجبارين يوم الجمعة، فللما أدبر الشمس للغروب خاف أن تغيب قبل فراغه، ويدخل السبت فلا يحل له قتالهم فيه، فدها الله تعالى، فرد له الشمس حتى فرغ من قتالهم.

(2)

السرب بالفتح: الطريق، وبالكسر: النفس.

ص: 268

منها أن قادة جنودكم وساسة حربكم، كانوا بعد وقوع أمرها واستحكام عقدها، فراغا لمحاربة أعدائكم، ومناصبة من ناوأكم (1)، بين أن يستعجموهم (2) فى بلادهم، وينزلوا عليهم فى ديارهم، ولا يرهبون تعقّب بشر إن ساروا فى أرضهم، ولا يتخوّفون طرادا إن اجتمعوا لقتالهم، أن يقيموا فى خفض ودعة، وأمن وسعة، مع الأزواج والأولاد والعيال والأوطان والرّباع والمحالّ، وهم اليوم يترقّبون الجيوش من كل شعب، ويتخوّفون الحتوف فى كل وقت، لا يهدأ لهم جأش (3)، ولا يسكن لهم فزع، ولا ينام لهم ليل، ولا يأمن فيهم حال، قد قطعت الهموم دابرهم، وأضمرت المخاوف جنوبهم، واستأصلت الجنود أموالهم.

ومنها: أن أهل الحراثة وإخوان العمارة فى بلادك وأطراف أرضك، كانوا سراعا إلى عمارة أرضهم، وإصلاح ما تحت أيديهم، فيما لا قوام لهم ولا لمعاشهم إلا به، ولا بقاء لدينهم إلا معه، قد أمنوا الجيوش ومعرّتها، والجنود وبادرتها (4)، وانتشروا للعمارة، وابتكروا فى الزراعة، فارقوا رءوس الجبال وأقحام الغياض (5)، وراحوا فى أوساط أوطانهم، وظلال محالّهم، يشقّقون الأنهار، ويغرسون الأشجار، ويفجّرون العيون، حتى نمت الأموال، واخضرّت المحال، وأخصب الجناب، وأصبحوا اليوم عن الزراعة ممسكين، وللحراثة تاركين، وبغيرها مشتغلين فى إصلاح آلات الهرب، وإحراز العيال فى الحصون، ورمّ القلاع للجلاء، وتحريش الحصون للبلاء، قد انتقلوا عن منابت البرّ، وكرائم الأرض، ومجارى المياه، إلى أوشال (6) الجبال، وأشجار الغياض، وبطون الأودية، فليس يبلغون من عمارة بلادهم، ولزوم أوطانهم، ومن

(1) ناوأه: عاداه.

(2)

كذا فى الأصل.

(3)

الجأش: النفس، ورواع القلب إذا اضطرب عند الفزع، وفى الأصل «لا سكن لهم جأش»

(4)

البادرة: ما يبدر من حدتك فى الغضب من قول أو فعل.

(5)

الغياض: جمع غيضة بالفتح، وهى الأجمة ومجتمع الشجر فى مغيض ماء.

(6)

الأوشال: جمع وشل بالتحريك، وهو الماء القليل يتحلب من جبل أو صخرة.

ص: 269

تناول ثمارهم وقوام معاشهم، مثل ما كانوا يبلغون، ولا ينالون من خفض العيش وطيب الأمن، ولذّة الدّعة، قريبا مما كانوا ينالون.

ومنها: أن إخوان التجارات وأصحاب الأموال وأهل الظّلف والحافر (1)، كانوا يتناولون ما شارفهم من بلادنا، وما قاربهم من أسواقنا، فينفّقون تجاراتهم، ويغلون بضائعهم، فتعظم الأرباح وتضعّف الأثمان، وكانت الباعة من تجار المسلمين وغيرهم من الذّمّيين يتناولونهم للبيع لهم، ويتناولونهم للشراء منهم، فعمّت البركة، وسهلت المنفعة، حتى نالت الرّعاء فى جبالها واقبالها؟ ؟ ؟ (2)، والنساء فى غزولهنّ وعمل أيديهن فضلا عن غيرهن.

ومنها: أنك ومن قبلك من ذوى العبادة والزّهادة والتألّه والنّسك والنّيّات، كنتم على عافية من أيام الرضا بالحرب، وسلامة من أوزار الحضّ على قتال الخوف، قد نجوتم من معصية المسيح فى الدنيا التى نهاكم عنها، والأمور التى أمركم بها، من نحو قوله:«من لطم خدّك الأيمن فأمكنه من الأيسر، ومن انتزع قميصك فأعطه كساءك، ومن لطمك فاغفر له، ومن شتمك فأعرض عنه» (3).

ومنها: أن من بأقاصى بلادك ونواحى حوزتك، قد ذاقوا تلك الأيام من لذة الخفض، ودعة الحال، وحلاوة الأمن، ورفاهية العيش، وسعة العافية، من سباء أزواجهم، وهيض (4) أولادهم، وحطم معاشهم، وأسر رجالهم، وغنيمة بقرهم وغنمهم، وإفساد شجرهم وثمارهم، وإجلاء عن مساكنهم وأوطانهم، ما لم يكن لهم رأى يعرفه، ولا ظنّ يبلغه، ولا طمع يقاربه، ولا أمل يذهب إليه، وما قد عرفت

(1) الظلف للبقرة والشاة: بمنزلة القدم لنا.

(2)

كذا بالأصل.

(3)

ورد فى إنجيل متى (الإصحاح 5 آية 39 - 41) من الكتاب المقدس: «وأما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشر، بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضا، ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضا، ومن سخرك معه ميلا واحدا فاذهب معه اثنين» .

(4)

من هاض العظم يهيضه: إذا كسره بعد الجبور، والحطم: الكسر.

ص: 270

الخاصّة من بطارقتكم، والعامة من أهل ملتكم به: من رأفتكم بهم، ورحمتكم لهم، وشفقتكم عليهم، وأثرتكم إياهم، وبركة ولايتكم ملكهم، ومنفعة سياستكم أمرهم، ما قد ازدادوا لكم به محبّة، وفى بقائكم رغبة، ولأمركم طاعة، وعلى ملككم شفقة، وفيما نابكم نصيحة، مع ما قد ازددتم بذلك من الهيبة فى صدور الأعداء، والشّرف فى قلوب النّظراء، والعظم فى عيون الأمم، حتى أقرّوا لكم بقوّة عزائم العقول، وفضل سياسة الأمور، وصحّة تدبير الملك، وصدق النيّة، ولطف الحيلة التى جعلوا نسبة عملكم بها، ومحلّ رأيكم فيها، على أنكم نظرتم لضعفائكم حتى قووا، ولفقرائكم حتى استغنوا، ولقرّانكم حتى بينوا وحيوا وقووا المسلمين (1) من أيام الحروب، وأوزار القتال، ومعصية المسيح عليه السلام، ولأعدائكم الأبعدين، وجيرتكم الأقربين، حتى كنتم من فراغكم لهم، واشتغالكم من أمركم بها ما أوطأتموه لحر؟ ؟ ؟ (2) القتل، وذلّ الأسر، وغلبة القهر، والإذعان والاستسلام، وإمّا كفيتموهم بالصلح، واستوثقتم منهم بالرهن.

فإذا ذكرت ما كان من هذه وأشباهه وأمثاله فى الفدية، فاعلموا أن أمثاله وأضعافه مقيم معكم فى الجزية، فلا يكوننّ لك رأى غيرها، ولا أمير سواها، فلقد أكثر أمير المؤمنين العجب من أمركم، وأطال تقليب الفكرة فى بعضكم، فظن أن إخراجكم من جميع ما كنتم فيه إلى خلافه، مما أصبحتم عليه من انتظار وقعات الحروب وصولات الجنود، وأكل الحدود، وتوقّع الجلاء والسّباء والقتل، والأسر والحصر، شيئا اختدعكم الله عز وجل فيه عن أنفسكم، وكيدا استدرككم به لما علم من قلوبكم.

ألا إنّ أعجب عذركم وأفظعه كان عند أمير المؤمنين، إذ بلغه جرأتكم على الله عز وجل فى نقض عهده، واستخفافكم بحقّه فى خفر (3) ذمته، وتهاونكم بما كان

(1) كذا بالأصل.

(2)

كذا بالأصل.

(3)

أى نقض.

ص: 271

منكم، وأنتم تعلمون أن مواثيق العهود ونذور الأيمان الذى وضعه الله عز وجل حرما بين ظهرانى خلقه، وأمانا أفاضه فى عباده، لتسكن إليه نفوسهم، وتطمئن به قلوبهم، وليتعاملوا به فيما بينهم، ويقيموا به من دنياهم ودينهم، فما من ملك من الملوك، ولا أمة من الأمم، تبيح حمى الله عز وجل، تهاونا به وجرأة عليه، إلا أجرى الله عليهم دائرة (1) من دول الأعداء، وأنزل عليهم عذابا من السماء، وقد رجا أمير المؤمنين أن يجرى الله نقمته منكم بأيدى المسلمين، بعد إذ كان اعتقد عهدكم وأخذ ميثاقكم بالأيمان الملغلّظة، والعهود المؤكدة، التى قد اعتقدها فى رقابكم، وحملها على ظهوركم، فأشهدتم الله بها على أنفسكم، وتسامع بها من حولكم، وحكم بها بطارقتكم وأساقفتسكم، فلا الله اتّقيتم، ولا من الناس استحييتم، نكثا للعهد، وبغضا للمسلمين، وخترا (2) بالأمانة، وإباحة للحمى، فتوقّعوا العقوبة، وانتظروا الغيب، فلقد وثق أمير المؤمنين أن من عذاب الله ما هو حالّ إن شاء الله بكم.

ومن أسباب ما يريد الله من الانتقام منكم، ما قد أزمع أمير المؤمنين وعزم عليه، وقذف الله فى قلبه: من الإرادة والنية والرغبة فى إيطاء الجيوش بلادكم، واستباء المقاتلة أرضكم، والتفرّغ لكم من كل شغل، والإيثار لجهادكم على كل عمل، حتى تؤمنوا بالله وأنتم طائعون أو كارهون، وتؤدّوا الجزية عن يد (3) وأنتم صاغرون، فكونوا على عدّة من الجزية، ويقين من الانتجاع الذى لا طاقة لكم إن شاء الله به، ولا صبر لكم بإذن الله عليه، فإن جنود أمير المؤمنين فارغة كثيرة، وخزائنه عامرة وافرة، ونفسه سخيّة بالإنفاق، ويده مطلقة بالبذل، والمسلمون نشاط إليكم، منقلبون عليكم، قد عوّدهم الله فى لقائكم عادة يرجون انتظار مثلها، وأبلاهم فى قتالكم بلاء من أمثالها، إن شاء الله.

(1) الدائرة: الهزيمة.

(2)

الختر: الغدر والخديعة، أو أقبح الغدر.

(3)

انظر الجزء الأول ص 39.

ص: 272

وكتاب أمير المؤمنين نذيره بين يدى جنوده، ومقدّمه إن شاء الله من جيوشه، إلا أن تؤدّوا الجزية عن التى دعاك أمير المؤمنين إليها، وحداك (1) ومن قبلك عليها، رحمة للضعفاء الذين لا ترحمهم، وتوجّعا للمساكين مما لا توجّع منه لهم من الجلاء والسّباء والقتل والأسر والقهر، وقساوة من قلوبكم، وأثرة لأنفسكم، واعتصاما بخواصّكم، وإجلاء لعوامّكم الضعفاء الفقراء المساكين الذين لا تمنعونهم بقوة، ولا تدفعون عنهم بحيلة، ولا تراقبون فى الرحمة لهم والتعطف عليهم، أدب المسيح إياكم، وقوله فى الكتاب لكم:«طوبى للذين يرحمون الناس، فإن أولئك أصفياء الله ونور بنى آدم (2)» .

وأيم الله لو يعلم من قبلك من المساكين والزراعين والفقراء والضعفاء والعملة بأيديهم، ما لهم عند أمير المؤمنين، لتحدّروا عليه، وأقبلوا إليه، : من إيوائهم، وإنزالهم الأرض الواسعة، وإمكانهم من مسايل المياه السائحة، والعدل عليهم بما لا تبلغه أنت ولا تقاربه، رفقا بهم ونظرا لهم، وإحسانا إليهم، مع تخليته إياهم وأديانهم، لا يكرههم على خلافها، ولا يجبرهم على غيرها، لاختاروا قرب أمير المؤمنين على قربك، وجواره على جوارك، ولأنقذوا (3) أنفسهم وأموالهم وأولادهم وأزواجهم وعيالاتهم، مما يحلّ بهم فى كل عام، ويلقون من كل غزاة، فاتق الله واقبل ما عرض عليك من الجزية، ولا يمنعنّك ما فيه (4) الحظّ لك ولأهل مملكتك، ونحن على رجاء أن الله لا يؤخّر ذلك منكم ويدفعه عنكم، إلا ليجعله على يد أهل بيت النبوّة والرحمة، ولأهل الوراثة فيهم للكتاب والحكمة، الذين لا يدخل عليكم فى الإذعان

(1) من حدا الإبل وبها: إذا ساقها.

(2)

ورد فى إنجيل متى (الإصحاح 5 آية 7 - 9) من الكتاب المقدس «طوبى للرحماء لأنهم يرحمون طوبى للأتقياء القلب لأنهم يعاينون الله، طوبى لصانعى السلام لأنهم أبناء الله يدعون» .

(3)

فى الأصل «ولا ابتذلوا» .

(4)

فاغل يمنع غير موجود فى الجملة، والظاهر أن الأصل «ولا يمنعك العناد أو الشيطان مثلا» .

ص: 273