الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
واعتل يحيى فى الحبس، فلما أشفى (1) دعا برقعة، فكتب فى عنوانها: ينفّذ أمير المؤمنين أبقاه الله عهد مولاه يحيى بن خالد، وفيها مكتوب:
«بسم الله الرحمن الرحيم: قد تقدّم الخصم إلى موقف الفصل، وأنت على الأثر، والله حكم عدل. وستقدم فتعلم» فلما ثقل (2) قال للسّجان: هذا عهدى توصله إلى أمير المؤمنين، فإنه ولىّ نعمتى، وأحقّ من نفّذ وصيتى، فلما مات يحيى أوصل السجان عهده إلى الرشيد.
قال سهل بن هرون: وأنا عند الرشيد إذ وصلت الرقعة إليه فلما قرأها جعل يكتب فى أسفلها، ولا أدرى لمن الرقعة، فقلت له: يا أمير المؤمنين، ألا أكفيك؟
قال: كلا، إنى أخاف عادة الراحة أن يتقوى سلطان العجز، فيحكم بالغفلة، ويقضى بالبلادة، ووقّع فيها:«الحكم الذى رضيت به فى الآخرة لك، هو أعدى الخصوم عليك، وهو من لا ينقض حكمه، ولا يردّ قضاؤه» قال: ثم رمى الصكّ إلىّ، فلما رأيته علمت أنه ليحيى، وأن الرشيد أراد أن يؤثر الجواب عنه.
(العقد الفريد 3: 25 وغرر الخصائص الواضحة ص 406 والإمامة والسياسة 2: 138)
162 - عهد الأمين على نفسه للرشيد
وحجّ الرشيد ومعه ابناه محمد الأمين (3) وعبد الله المأمون (4) وقوّاده ووزراؤه وقضاته سنة 186 هـ، فلما قضى مناسكه استكتب ولديه الأمين والمأمون بخط يدهما
(1) أشفى على الموت: أى أشرف.
(2)
ثقل كفرح فهو ثقيل وثاقل: اشتد مرضه.
(3)
وأمه زبيدة أم جعفر بنت جعفر بن المنصور.
(4)
وأمه أم ولد يقال لها مراجل.
عهدين، عهد فيهما بالخلافة من بعده للأمين، ثم من بعد الأمين للمأمون، وأشهد فيهما، وأمر بتعليقهما فى داخل الكعبة، وتقدّم إلى حجبتها فى حفظهما ومنع من أراد إخراجهما والذهاب بهما.
ونسخة عهد الأمين- كما رواه الطبرى-:
«بسم الله الرحمن الرحيم: هذا كتاب لعبد الله هرون أمير المؤمنين، كتبه محمد بن هارون أمير المؤمنين فى صحّة من عقله، وجواز من أمره، طائعا غير مكره:
إن أمير المؤمنين ولّانى العهد من بعده، وصيّر البيعة لى فى رقاب المسلمين جميعا، وولّى عبد الله بن هرون أمير المؤمنين العهد والخلافة وجميع أمور المسلمين بعدى، برضا منى وتسليم، طائعا غير مكره، وولّاه خراسان وثغورها وكورها وحربها وجندها وخراجها وطرازها (1) وبريدها وبيوت أموالها وصدقاتها وعشرها وعشورها وجميع أعمالها فى حياته وبعده.
وشرطت لعبد الله هرون أمير المؤمنين، برضا منى وطيب نفسى، أنّ لأخى عبد الله بن هرون علىّ الوفاء بما عقد له هرون أمير المؤمنين، من العهد والولاية والخلافة وأمور المسلمين جميعا بعدى، وتسليم ذلك له، وما جعل له من ولاية خراسان وأعمالها كلّها وما أقطعه أمير المؤمنين من قطيعة، أو جعل له من عقدة (2) أو ضيعة من ضياعه، أو ابتاع من الضّياع والعقد، وما أعطاه فى حياته وصحته، من مال أو حلىّ أو جوهر أو متاع أو كسوة أو منزل أو دوابّ أو قليل أو كثير، فهو لعبد الله بن هرون أمير المؤمنين موفّرا مسلّما إليه، وقد عرفت ذلك كله شيئا شيئا.
(1) الطراز: ما ينسج من الثياب للسلطان، والموضع الذى تنسج فيه الثياب الجياد، فارسى معرب، وقد جاء فى تاريخ الطبرى (10: 139) أنه كان للطراز دور كدور ضرب النقود.
(2)
العقدة: الضيعة والعقار الذى اعتقده صاحبه ملكا (واعتقد الضيعة والمال: اقتناهما).
فإن حدث بأمير المؤمنين حدث الموت، وأفضت الخلافة إلى محمد بن أمير المؤمنين، فعلى محمد إنفاذ ما أمره به هرون أمير المؤمنين فى تولية عبد الله بن هرون أمير المؤمنين خراسان وثغورها، ومن ضمّ إليه من أهل بيت أمير المؤمنين بقرماسين (1)، وأن يمضى عبد الله بن أمير المؤمنين إلى خراسان والرّىّ والكور التى سماها أمير المؤمنين حيث كان عبد الله ابن أمير المؤمنين من معسكر أمير المؤمنين وغيره من سلطان أمير المؤمنين، وجميع من ضم إليه أمير المؤمنين حيث أحبّ من لدن الرّى إلى أقصى عمل خراسان، ليس لمحمد ابن أمير المؤمنين أن يحوّل عنه قائدا ولا مقودا ولا رجلا واحدا ممن ضمّ إليه من أصحابه الذين ضمّهم إليه أمير المؤمنين، ولا يحوّل عبد الله ابن أمير المؤمنين عن ولايته التى ولّاه إياها هرون أمير المؤمنين من ثغور خراسان وأعمالها كلّها، ما بين عمل الرّىّ مما يلى همذان إلى أقصى خراسان وثغورها وبلادها وما هو منسوب إليها، ولا يشخصه (2) إليه، ولا يفرّق أحدا من أصحابه وقوّاده عنه، ولا يولّى عليه أحدا، ولا يبعث عليه ولا على أحد من عمّاله وولاة أموره بندارا (3) ولا محاسبا ولا عاملا، ولا يدخل عليه فى صغير من أمره ولا كبير ضررا ولا يحول بينه وبين معمل فى ذلك كله برأيه وتدبيره، ولا يعرض لأحد ممن ضمّ إليه أمير المؤمنين، من أهل بيته وصحابته وقضاته وعمّاله وكتّابه وقوّاده وخدمه ومواليه وجنده، بما يلتمس إدخال الضرر والمكروه عليهم، فى أنفسهم ولا قراباتهم ولا مواليهم، ولا أحد ينسل (4) منهم، ولا فى دمائهم ولا فى أموالهم، ولا فى ضياعهم ودورهم ورباعهم (5) وأمتعتهم ورقيقهم ودوابّهم، شيئا من ذلك صغيرا ولا كبيرا، ولا أحد من الناس بأمره ورأيه وهواه، وبترخيص
(1) قرماسين: موضع، قال ياقوت: أظنه فى طريق مكة.
(2)
أى ولا يقدمه إليه، وفى الأصل «ولا شخصه إليه» وهو تحريف.
(3)
البندار: التاجر الذى يخزن البضائع للغلاء وجمعه بنادرة، دخيل.
(4)
أى يولد، نسل كنصر وأنسل: ولد، وفى الأصل «يتنسل» وهو تحريف.
(5)
الرباع: جمع ربع بالفتح، وهو المنزل.
له فى ذلك، وإدهان (1) منه فيه، لأحد من ولد آدم، ولا يحكم فى أمرهم ولا أحد من قضاته ومن عماله وممن كان بسبب منه، بغير حكم عبد الله ابن أمير المؤمنين ورأيه ورأى قضاته.
وإن نزغ (2) إليه أحد ممن ضمّ أمير المؤمنين إلى عبد الله ابن أمير المؤمنين، من أهل بيت أمير المؤمنين وصحابته وقواده وعماله وكتّابه وخدمه ومواليه وجنده، ورفض اسمه ومكتبه ومكانه مع عبد الله ابن أمير المؤمنين، عاصيا له أو مخالفا عليه، فعلى محمد ابن أمير المؤمنين ردّه إلى عبد الله ابن أمير المؤمنين بصغر (3) له وقماء، حتى ينفذ فيه رأيه وأمره.
فإن أراد محمد ابن أمير المؤمنين خلع عبد الله ابن أمير المؤمنين عن ولاية العهد من بعده، أو عزل عبد الله ابن أمير المؤمنين عن ولاية خراسان وثغورها وأعمالها، والذى من حدّ عملها مما يلى همذان، والكور التى سماها أمير المؤمنين فى كتابه هذا، أو صرف أحد من قوّاده الذين ضمّهم أمير المؤمنين إليه ممن قدم قرماسين، أو أن ينتقصه قليلا أو كثيرا مما جعله أمير المؤمنين له، بوجه من الوجوه، أو بحيلة من الحيل، صغرت أو كبرت، فلعبد الله بن هرون أمير المؤمنين الخلافة بعد أمير المؤمنين، وهو المقدّم على محمد ابن أمير المؤمنين، وهو ولىّ الأمر من بعد أمير المؤمنين، والطاعة من جميع قواد أمير المؤمنين هرون من أهل خراسان وأهل العطاء وجميع المسلمين فى جميع الأجناد والأمصار، لعبد الله ابن أمير المؤمنين، والقيام معه والمجاهدة لمن خالفه، والنصر له والذّبّ عنه، ما كانت الحياة فى أبدانهم، وليس لأحد منهم جميعا من كانوا أو حيث كانوا أن يخالفه، ولا يعصيه، ولا يخرج من طاعته، ولا يطيع محمد ابن أمير المؤمنين فى خلع عبد الله بن هرون أمير المؤمنين، وصرف العهد عنه
(1) الإدهان. إظهار خلاف ما يضمر والغش.
(2)
أى مال.
(3)
الصغر: كعنب، والصغار بالفتح: الذل، وكذا القماء والقماءة.
من بعده إلى غيره، أو ينتقصه شيئا مما جعله له أمير المؤمنين هرون فى حياته وصحته، واشترط فى كتابه الذى كتبه عليه فى البيت الحرام فى هذا الكتاب، وعبد الله ابن أمير المؤمنين المصدّق فى قوله، وأنتم فى حلّ من البيعة التى فى أعناقكم لمحمد ابن أمير المؤمنين هرون إن نقص شيئا مما جعله له أمير المؤمنين هرون، وعلى محمد ابن هرون أمير المؤمنين أن ينقاد لعبد الله ابن أمير المؤمنين هرون، ويسلّم له الخلافة وليس لمحمد ابن أمير المؤمنين هرون، ولا لعبد الله ابن أمير المؤمنين، أن يخلعا القاسم (1) ابن أمير المؤمنين هرون ولا يقدّما عليه أحدا من أولادهما وقراباتهما ولا غيرهم من جميع البريّة، فإذا أفضت الخلافة إلى عبد الله ابن أمير المؤمنين، فالأمر إليه فى إمضاء ما جعله أمير المؤمنين من العهد للقاسم بعده، أو صرف ذلك عنه إلى من رأى من ولده وإخوته، وتقديم من أراد أن يقدّم قبله، وتصيير القاسم ابن أمير المؤمنين بعد من يقدم قبله، يحكم فى ذلك بما أحبّ ورأى.
فعليكم معشر المسلمين إنفاذ ما كتب به أمير المؤمنين فى كتابه هذا، وشرط عليهم، وأمر به، وعليكم السمع والطاعة لأمير المؤمنين فيما ألزمكم وأوجب عليكم لعبد الله ابن أمير المؤمنين، وعهد الله وذمته وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم وذمم المسلمين والعهود والمواثيق التى أخذ الله على الملائكة المقرّبين والنبيين والمرسلين، ووكّدها فى أعناق المؤمنين والمسلمين: لتكنّ لعبد الله أمير المؤمنين بما سمّى، ولمحمد وعبد الله والقاسم بنى أمير المؤمنين بما سمّى وكتب فى كتابه هذا واشترط عليكم وأقررتم به على أنفسكم، فإن أنتم بدّلتم من ذلك شيئا أو غيرتم أو نكثتم أو خالفتم ما أمركم به أمير المؤمنين واشترط عليكم فى كتابه هذا، فبرئت منكم ذمّة الله وذمة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وذمم المؤمنين والمسلمين، وكل مال هو اليوم لكل رجل منكم
(1) وكان يلقب بالمؤتمن، وأمه أم ولد يقال لها قصف (والمعتصم بن الرشيد أمه أم ولد أيضا يقال لها ماردة).