الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
343 - كتاب المأمون إلى إسحق بن إبراهيم
فأحضر إسحق بن إبراهيم جماعة من الفقهاء والحكام والمحدّثين، وقرأ عليهم كتاب المأمون مرتين، ثم امتحنهم رجلا رجلا، فتوقفوا عن الإقرار بخلق القرآن، وكلّهم يقول:«القرآن كلام الله» ، إلا نفرا منهم، وكتب مقالاتهم ووجّه بها إلى المأمون، فمكث القوم تسعة أيام، ثم دعا بهم وقد ورد كتاب المأمون فى أمرهم، ونسخته:
«بسم الله الرحمن الرحيم: أما بعد، فقد بلغ أمير المؤمنين كتابك- جواب كتابه كان إليك- فيما ذهب إليه متصنّعة أهل القبلة وملتمسو الرّياسة فيما ليسوا له بأهل من أهل الملّة، من القول فى القرآن، وأمرك به أمير المؤمنين من امتحانهم، وتكشيف أحوالهم، وإحلالهم محالّهم، تذكر إحضارك جعفر بن عيسى وعبد الرحمن بن إسحق عند ورود كتاب أمير المؤمنين، مع من أحضرت ممن كان ينسب إلى الفقه، ويعرف بالجلوس للحديث، وينصب نفسه للفتيا بمدينة السلام، وقراءتك عليهم جميعا كتاب أمير المؤمنين، ومسألتك إياهم عن اعتقادهم فى القرآن، والدّلالة لهم على حظّهم وإطباقهم على نفى التشبيه، واختلافهم فى القرآن، وأمرك من لم يقل منهم إنه مخلوق بالإمساك عن الحديث والفتوى فى السّر والعلانية، وتقدّمك إلى السّندىّ وعباس مولى أمير المؤمنين بما تقدّمت به فيهم إلى القاضيين (1) بمثل ما مثّل لك أمير المؤمنين من امتحان من يحضر مجالسهما من الشهود، وبثّ الكتب إلى القضاة فى النواحى من عملك بالقدوم عليك، لتحملهم وتمتحنهم على ما حدّه أمير المؤمنين، وتثبيتك فى آخر الكتاب أسماء من حضر ومقالاتهم، وفهم أمير المؤمنين ما اقتصصت.
(1) يعنى جعفر بن عيسى وعبد الرحمن بن إسحق.
وأمير المؤمنين يحمد الله كثيرا كما هو أهله، ويسأله أن يصلّى على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ويرغب إلى الله فى التوفيق لطاعته، وحسن المعونة على صالح نيته برحمته، وقد تدبّر أمير المؤمنين ما كتبت به من أسماء من سألت عن القرآن، وما رجع إليك فيه كلّ امرئ منهم، وما شرحت من مقالتهم.
فأما ما قال المغرور بشر بن الوليد فى نفى التشبيه، وما أمسك عنه من أن القرآن مخلوق، وادّعى من تركه الكلام فى ذلك واستعهاده أمير المؤمنين (1)، فقد كذب بشر فى ذلك وكفر، وقال الزّور والمنكر، ولم يكن جرى بين أمير المؤمنين وبينه فى ذلك ولا فى غيره عهد ولا نظر أكثر من إخباره أمير المؤمنين من اعتقاده كلمة الإخلاص، والقول بأن القرآن مخلوق، فادع به إليك، وأعلمه ما أعلمك به أمير المؤمنين من ذلك، وانصصه عن قوله فى القرآن، واستتبه منه، فإن أمير المؤمنين يرى أن تستتيب من قاله بمقالته، إذ كانت تلك المقالة الكفر الصّراح، والشّرك المحض عند أمير المؤمنين، فإن تاب منها فأشهر أمره وأمسك عنه، وإن أصرّ على شركه، ودفع أن يكون القرآن مخلوقا بكفره وإلحاده، فاضرب عنقه وابعث إلى أمير المؤمنين برأسه إن شاء الله.
وكذلك إبراهيم بن المهدى فامتحنه بمثل ما تمتحن به بشرا، فإنه كان يقول بقوله، وقد بلغت أمير المؤمنين عنه بوالغ، فإن قال إن القرآن مخلوق، فأشهر أمره واكشفه، وإلّا فاضرب عنقه، وابعث إلى أمير المؤمنين برأسه إن شاء الله.
(1) وذلك أنه لما امتحنه إسحق بن إبراهيم قال: ما تقول فى القرآن؟ فقال: قد عرفت مقالتى لأمير المؤمنين غير مرة، قال: فقد تجدد من كتاب أمير المؤمنين ما قد ترى، فقال: أقول القرآن كلام الله، قال: لم أسألك عن هذا، أمخلوق هو؟ قال: الله خالق كل شىء، قال: ما القرآن شىء؟
قال: هو شىء، قال: فمخلوق؟ قال: ليس بخالق: قال. ليس أسألك عن هذا، أمخلوق هو؟
قال: ما أحسن غير ما قلت لك، وقد استعهدت أمير المؤمنين أن لا أتكلم فيه، وليس عندى غير ما قلت لك، فأخذ إسحق بن إبراهيم رقعة كانت بين يديه فقرأها عليه، ووقفه عليها فقال:«أشهد أن لا إله إلا الله أحدا فردا، لم يكن قبله شىء ولا بعده شىء ولا يشبهه شى من خلقه فى معنى من المعانى ولا وجه من الوجوه» قال: نعم وقد كنت أضرب الناس على دون هذا، فقال للكاتب:
اكتب ما قال.
وأما علىّ بن أبى مقاتل، فقل له: ألست القائل لأمير المؤمنين إنك تحلّل وتحرّم؟ والمكلّم له بمثل ما كلّمته به. مما لم يذهب عنه ذكره!
وأما الذّيّال بن الهيثم، فأعلمه أنه كان فى الطعام الذى كان يسرقه فى الأنبار، وفيما يستولى عليه من أمر مدينة (1) أمير المؤمنين أبى العباس ما يشغله، وأنه لو كان مقتفيا آثار سلفه، وسالكا مناهجهم، ومحتذيا سبيلهم، لما خرج إلى الشّرك بعد إيمانه.
وأما أحمد بن يزيد المعروف بأبى العوّام وقوله إنه لا يحسن الجواب فى القرآن، فأعلمه أنه صبىّ فى عقله لا فى سنّه، جاهل، وأنه إن كان لا يحسن الجواب فى القرآن فسيحسنه إذا أخذه التأديب، ثم إن لم يفعل كان السيف من وراء ذلك إن شاء الله.
وأما أحمد بن حنبل وما تكتب عنه، فأعلمه أن أمير المؤمنين قد عرف فحوى (2) تلك المقالة وسبيله فيها، واستدلّ على جهله وآفته بها.
وأما الفضل بن غانم، فأعلمه أنه لم يخف على أمير المؤمنين ما كان منه بمصر، وما اكتسب من الأموال فى أقلّ من سنة، وما شجر (3) بينه وبين المطّلب بن عبد الله فى ذلك، فإنه من كان شأنه شأنه، وكانت رغبته فى الدينار والدرهم رغبته، فليس بمستنكر أن يبيع إيمانه طمعا فيهما، وإيثارا لعاجل نفعهما، وأنه مع ذلك القائل لعلىّ بن هشام ما قال، والمخالف له فيما خالفه فيه، فما الذى حال به عن ذلك، ونقله إلى غيره؟
(1) هى مدينة الهاشمية، بناها السفاح بالكوفة.
(2)
فحوى الكلام: معناه.
(3)
شجر الأمر بينهم كنصر: اضطرب وتنازعوا فيه.
وأما الزّيادىّ (1) فأعلمه أنه كان منتحلا أوّلا أوّل دعىّ كان فى الإسلام خولف فيه حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان جديرا أن يسلك مسلكه، فأنكر أبو حسّان أن يكون مولى لزياد، أو يكون مولى لأحد من الناس (وذكر أنه إنما نسب إلى زياد لأمر من الأمور).
وأما المعروف بأبى نصر التّمّار، فإن أمير المؤمنين شبّه خساسة عقله بخساسة متجره.
وأما الفضل بن الفرّخان، فأعلمه أنه حاول بالقول الذى قاله فى القرآن أخذ الودائع التى أودعها إياه عبد الرحمن بن إسحق وغيره تربّصا (2) بمن استودعه وطمعا فى الاستكثار لما صار فى يده، ولا سبيل عليه عن تقادم عهده، وتطاول الأيام به، فقل لعبد الرحمن بن إسحق لا جزاك الله خيرا عن تقويتك مثل هذا وإيمانك، إياه، وهو معتقد للشّرك، منسلخ من التوحيد.
وأما محمد بن حاتم وابن نوح والمعروف بأبى معمر، فأعلمهم أنهم مشاغيل بأكل الربا عن الوقوف على التوحيد، وأن أمير المؤمنين لو لم يتحلّ محاربتهم فى الله ومجاهدتهم إلا لإربائهم وما نزل به كتاب الله فى أمثالهم، لاستحلّ ذلك، فكيف بهم وقد جمعوا مع الإرباء شركا، وصاروا للنصارى مثلا.
وأما أحمد بن شجاع، فأعلمه أنك صاحبه بالأمس، والمستخرج منه ما استخرجته من المال الذى كان استجلّه من مال علىّ بن هشام، وأنه ممّن الدينار والدرهم دينه.
وأما سعدويه الواسطىّ، فقل له: قبّح الله رجلا بلغ به التصنّع للحديث، والتزيّن به، والحرص على طلب الرّياسة فيه، أن يتمنّى وقت المحنة. فيقول بالتقرب بها متى يمتحن فيجلس للحديث.
(1) هو أبو حسان الزيادى. وانتحله: ادعاه لنفسه وهو لغيره. والدعى: المتهم فى نسبه المنسوب إلى غير أبيه، والمراد: زياد ابن أبيه.
(2)
أى انتظارا.
وأما المعروف بسجّادة وإنكاره أن يكون سمع ممن كان يجالس من أهل الحديث وأهل الفقه القول بأن القرآن مخلوق، فأعلمه أنه فى شغله بإعداد النّوى وحكّه لإصلاح سجادته، وبالودائع التى دفعها إليه علىّ بن يحيى وغيره ما أذهله عن التوحيد وألهاه، ثم سله عما كان يوسف بن أبى يوسف ومحمد بن الحسن يقولانه إن كان شاهدهما وجالسهما.
وأما القواريرىّ، ففيما تكشّف من أحواله وقبوله الرّشا والمصانعات، ما أبان عن مذهبه وسوء طريقته، وسخافة عقله ودينه، وقد انتهى إلى أمير المؤمنين أنه يتولّى لجعفر بن عيسى الحسنىّ مسائله، فتقدّم إلى جعفر بن عيسى فى رفضه وترك الثقة به والاستنامة (1) إليه.
وأما يحيى بن عبد الرحمن العمرى، فإن كان من ولد عمر بن الخطاب فجوابه معروف.
وأما محمد بن الحسن بن علىّ بن عاصم، فإنه لو كان مقتديا بمن مضى من سلفه، لم ينتحل النّحلة التى حكيت عنه، وإنه بعد صبىّ يحتاج إلى تعلّم.
وقد كان أمير المؤمنين وجّه إليك المعروف بأبى مسهر بعد أن نصّه أمير المؤمنين عن محنته فى القرآن، فجمجم (2) عنها ولجلج فيها، حتى دعا له أمير المؤمنين باليف، فأقرّ ذميما، فانصصه عن إقراره، فإن كان مقيما عليه فأشهر ذلك وأظهره إن شاء الله.
ومن لم يرجع عن شركه- ممن سمّيت لأمير المؤمنين فى كتابك، وذكره أمير المؤمنين لك، أو أمسك عن ذكره فى كتابه هذا- ولم يقل إن القرآن مخلوق،
(1) استنام إليه: سكن واطمأن.
(2)
الجمجمة. أن لا يبين كلامه، كالتجمجم.
بعد بشر بن الوليد، وإبراهيم بن المهدى، فاحملهم أجميعن موثقين إلى عسكر أمير المؤمنين، مع من يقوم بحفظهم وحراستهم فى طريقهم، حتى يؤدّيهم إلى عسكر أمير المؤمنين ويسلّمهم إلى من يؤمن بتسليمهم إليه، لينصّهم أمير المؤمنين، فإن لم يرجعوا ويتوبوا، حملهم جميعا على السيف إن شاء الله، ولا قوة إلا بالله.
وقد أنفذ أمير المؤمنين كتابه هذا فى خريطة بنداريّة (1)، ولم ينظر به اجتماع الكتب الخرائطيّة، معجّلا به، تقرّبا إلى الله عز وجل بما أصدر من الحكم، ورجاء ما اعتمد، وإدراك ما أمّل من جزيل ثواب الله عليه، فأنفذ لما أتاك من أمير المؤمنين وعجل إجابة أمير المؤمنين بما يكون منك فى خريطة بندارية مفردة عن سائر الخرائط، لتعرّف أمير المؤمنين ما يعملونه إن شاء الله (2)».
وكتب سنة 218 هـ. (تاريخ الطبرى 10: 289)
(1) الخريطة. وعاء من أدم وغيره يشد على ما فيه، وبندارية نسبة إلى بندار، وقد تقدم أنه التاجر الذى يخزن البضائع للغلاء- فهو كثير المال- والظاهر أن الخريطة البندارية كانت تمتاز عن سائر الخرائط، بمتانة صنعها وإحكامها واتساعها لمقدار من النقود كبير، وأنظره: أخره.
(2)
فأجاب القوم كلهم حين أعاد القول عليهم إلى أن القرآن مخلوق إلا أربعة نفر، وهم: أحمد ابن حنبل وسجادة والقواريرى ومحمد بن نوح، فأمر بهم إسحق بن إبراهيم فشدوا فى الحديد، فلما كان من الغد دعا بهم جميعا يساقون فى الحديد، فأعاد عليهم المحنة فأجابه سجادة إلى أن القرآن مخلوق، فأمر بإطلاق قيده وخلى سبيله، وأصر الآخرون على قولهم، فلما كان من بعد الغد عاودهم أيضا فأعاد عليهم القول، فأجاب القواريرى إلى أن القرآن مخلوق، فأمر بإطلاق قيده وخلى سبيله، وأصر أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح على قولهما ولم يرجعا، فشدا جميعا فى الحديد، ووجها إلى طرسوس «بفتح الطاء والراء:
مدينة ببلاد الروم (الأناضول) بينها وبين أذنة (أطنة) ستة فراسخ، وكان المأمون قد خرج إليها غازيا فأدركته منيته بها، وفيها قبره» ومات ابن نوح فى طريقه إليها.
واتفق أن مات المأمون قبل وصول ابن حنبل إليه (سنة 218 هـ) وعهد إلى أخيه المعتصم بالخلافة وأوصاه أن يحمل الناس على القول بخلق القرآن، واستمر الإمام أحمد محبوسا إلى أن امتحنه المعتصم.
واستتماما للفائدة نسوق إليك بقية الخبر فى هذه المسألة فنقول: أحضر المعتصم الإمام أحمد، وعقد له مجلسا للمناظرة، وفيه عبد الرحمن بن إسحق والقاضى أحمد بن أبى داود وغيرهما، فناظروه ثلاثة أيام ولم يزل معهم فى جدال إلى اليوم الرابع، فأمر المعتصم بضربه بالسياط، ولم يحل عن رأيه إلى أن أغمى عليه، ونخسه عجيف بن عنبسة بالسيف، ورمى عليه بارية (وهى الحصير المنسوج) وديس عليه ثم حمل إلى منزله بعد أن ضرب ثمانية وثلاثين سوطا، وكانت مدة مكثه فى السجن ثمانية وعشرين شهرا.-
_________
ذكروا أنه لما نوظر فى الأيام الثلاثة كان المعتصم يخلو به ويقول له: ويحك يأحمد! أنا والله عليك شفيق، وإنى لأشفق عليك مثل شفقتى على ابنى هرون «يعنى الواثق» فأجبنى، فو الله لئن أجبتنى لأطلقن غلك بيدى، ولأطأن عتبتك، ولأركبن إليك بجندى، فيقول: يا أمير المؤمنين أعطونى شيئا من كتاب الله تعالى أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا طال به المجلس ضجر وقام، ورد أحمد إلى الموضع الذى كان فيه، وتتردد إليه رسل المعتصم يقولون: يأحمد أمير المؤمنين يقول لك: ما تقول فى القرآن؟ فيرد عليهم كما رد أولا. فلما كان فى اليوم الثالث طلب للمناظرة فأدخل على المعتصم وعنده وزيره محمد بن عبد الملك الزيات والقاضى أحمد بن أبى دؤاد، فقال المعتصم: كلموه وناظروه، فلم يزالوا معه فى جدال إلى أن قالوا: يا أمير المؤمنين اقتله ودمه فى أعناقنا. فرفع المعتصم يده ولطم بها وجه الإمام أحمد فخر مغشيا عليه، فتمعرت وجوه قواد خراسان- وكان عم أحمد فيهم- فخاف الخليفة منهم على نفسه فدعا بماء ورش على وجهه، فلما أفاق من غشيته رفع رأسه إلى عمه. وقال يا عم لعل هذا الماء الذى رش على وجهى غضب عليه صاحبه، فقال المعتصم: ويحكم أما ترون ما يتهجم به على هذا وقرابتى من رسول الله صلى الله عليه وسلم! لا رفعت السوط عنه حتى يقول القرآن مخلوق، ثم التفت إلى أحمد وأعاد عليه القول، فرد أحمد كالأول، فلم يزل كذلك حتى ضجر وطال المجلس، فعند ذلك قال: عليك لعنة الله، لقد كنت طمعت فيك قبل هذا، خذوه، اخلعوه، اسحبوه فأخذ وسحب ثم خلع، ثم قال المعتصم:
السياط. قال الإمام أحمد: وكان عندى شعرات من شعر النبى صلى الله عليه وسلم قد صررتها فى كم قميصى، فجاء بعض القوم إلى قمبصى ليحرقه، فقال المعتصم: لا تحرقوه وانزعوه عنه وإنما درىء عن القميص الحرق ببركة شعر النبى صلى الله عليه وسلم، وشدوا يديه فتخلعتا- ولم يزل أحمد يتوجع منهما حتى مات- ثم قال المعتصم للجلادين: تقدموا، ونظر إلى السياط فقال: ايتوا بغيرها، ثم قال لأحدهم:
أذمه (أى أسل دمه. من ذم أنفه وذن إذا سال) وأوجع، قطع الله يدك، فتقدم وضربه سوطين ثم تنحى، ثم قال لآخر: أذمه وشد، قطع الله يدك، فتقدم وضربه سوطين ثم تنحى، ولم يزل يدعو رجلا رجلا فيضربه كل واحد سوطين ويتنحى، ثم قام المعتصم وجاءه وهم محدقون به، وقال: يأحمد تقتل نفسك! أجبنى حتى أطلق غلك بيدى، وجعل بعضهم يقول له: يأحمد، إمامك على رأسك قائم فأجبه، وعجيف ينخسه بالسيف ويقول: أتريد أن تغلب هؤلاء كلهم؟ وبعضهم يقول: يأمير المؤمنين اجعل دمه فى عنقى، فرجع المعتصم إلى الكرسى، ثم قال للجلاذ: أذمه، قطع الله يدك، ثم جاء المعتصم إليه ثانيا وقال: يأحمد أجبنى، فقال كالأول. فرجع المعتصم وجلس على الكرسى، ثم قال للجلاد: شد عليه، قطع الله يدك، قال أحمد: فذهب عقلى، فما عقلت إلا وأنا فى حجرة مطلق عنى، كل ذلك وهو صائم لم يفطر، وكان ذلك فى العشر الأخيرة من رمضان سنة 220 هـ، ثم وجه المعتصم رجلا ينظر الضرب والجراحات ويعالجه، فنظر إليه وقال: والله لقد رأيت من ضرب ألف سوط، فما رأيت أشد ضربا من هذا ثم عالجه، وبقى أثر الضرب بينا فى ظهره إلى أن مات (سنة 241 هـ) - انظر تاريخ الطبرى 10: 292 وتبيين كذب المفترى ص 349، وحياة الحيوان الكبرى للدميرى 1: 115 - 117، ووفيات الأعيان 1: 17، ومروج الذهب 2:348.
ولم يزل ابن حنبل بعد ضربه يحضر الجمعة والجماعات ويفتى ويحدث إلى أن مات المعتصم (سنة 227 هـ)، وولى الواثق فأظهر ما أظهره المأمون والمعتصم من المحنة، وقال للإمام أحمد:
لا تجمعن إليك أحدا، ولا تساكنى فى بلد أنا فيه، فأقام الإمام أحمد مختفيا لا يخرج إلى صلاة ولا غيرها-
_________
حتى مات الواثق (سنة 232 هـ) وولى المتوكل، فكتب إلى الآفاق برفع المحنة، ومنع الناس من المناظرات فى الآراء والمذاهب، وقرب منه أهل السنة، وأمر بإحضار الإمام أحمد وإكرامه وإعزازه، وأطلق له ما لا كثيرا فلم يقبله، وفرقه على الفقراء والمساكين، وأجرى على أهله وولده فى كل شهر أربعة آلاف درهم فلم يرض بذلك، ولم يحفل المتوكل بالمعتزلة فخمدت نارهم، وتضاءل أمرهم- انظر حياة الحيوان الكبرى للدميرى 1: 115، 122، ومروج الذهب 2:369.
وممن عضته هذه المحنة بأنيابها فى عهد الواثق أبو يعقوب يوسف بن يحيى البويطى المصرى صاحب الإمام الشافعى، دعى إلى القول بخلق القرآن، فامتنع منه، فحمل من مصر إلى العراق مقيدا حتى مات فى أقياده محبوسا صابرا على ما أصابه من الأذى، وكان مقيدا إلى أنصاف ساقيه؛ مغلولة يداه إلى عنقه، قال الربيع بن سليمان: رأيت البويطى على بغل فى عنقه غل وفى رجليه قيد، وبين الغل والقيد سلسلة من حديد فيها طوبة وزنها أربعون رطلا، وهو يقول: إنما خلق الله سبحانه وتعالى الخلق «بكن» فإذا كانت «كن» مخلوقة فكأن مخلوقا خلق مخلوقا، فو الله لأموتن فى حديدى حتى يأتى من بعدى قوم يعلمون أنه مات فى هذا الشأن قوم فى حديدهم، ولئن أدخلت عليه لأصدقنه- يعنى الواثق- وقال الربيع أيضا: كتب إلى أبو يعقوب من السجن: إنه ليأتى على أوقات لا أحس بالحديد إنه على بدنى حتى تمسه يدى، وتوفى سنة 231 هـ فى القيد والسجن ببغداد- انظر تبيين كذب المقترى ص 348، ووفيات الأعيان 2:347.
ومنهم نعيم بن حماد، وقد مات فى سجن الواثق مقيدا أيضا- انظر تاريخ بغداد للخطيب البغدادى ج 5: ص 177.
ومنهم أحمد بن نصر الخزاعى قتله الواثق وصلبه سنة 231 هـ ذكروا أن ثمامة بن أشرس سعى به إلى الواثق، وذكر له أنه يكفر من يقول بخلق القرآن، ومن ينكر رؤية الله تعالى يوم القيامة فأحضره الواثق وقال له: ما تقول فى القرآن؟ قال: كلام الله، قال: أفمخلوق هو؟ قال: هو كلام الله، قال:
أفترى ربك يوم القيامة؟ قال: كذا جاءت الرواية، فقال: ويحك؟ يرى كما يرى المحدود المتجسم، يحويه مكان، ويحصره الناظر؟ أنا أكفر برب هذه صفته، ما تقولون فيه؟ فقال عبد الرحمن ابن إسحق- وكان قاضيا على الجانب الغربى ببغداد فعزل- هو حلال الدم، وقال جماعة من الفقهاء كما قال، فأظهر ابن أبى دؤاد أنه كاره لقتله. فقال للواثق: يا أمير المؤمنين، شيخ مختل، لعل به عاهة أو تغير عقل، يؤخر أمره، فقال الواثق: ما أراه إلا مؤديا لكفره، ودعا الواثق بالصمصامة، وقال: إذا قمت إليه فلا يقومن أحد معى، فإنى أحتسب خطاى إلى هذا الكافر الذى يعبد ربا لا نعبده، ولا نعرفه بالصفة التى وصفه بها، ثم أمر بالنطع فأجلس عليه وهو مقيد، وأمر بشد رأسه بحبل، وأمرهم أن يمدوه، ومشى إليه حتى ضرب عنقه، وأمر بحمل رأسه إلى بغداد، فنصب فى الجانب الشرقى أياما، وفى الجانب الغربى أياما، وتتبع رؤساء أصحابه فوضعوا فى الحبوس، ولم يزل رأسه منصوبا ببغداد، وجسده بسر من رأى ست سنين إلى أن حط وجمع بين رأسه وبدنه- انظر الفرق بين الفرق ص 159، وتاريخ بغداد ج 5 ص 173 - 180، وحياة الحيوان الكبرى للدميرى 1: 119، ومروج الذهب 2:363.