الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
342 - كتاب المأمون إلى إسحق بن إبراهيم
وكتب المأمون بعد ذلك إلى إسحق بن إبراهيم:
«أما بعد: فإن من حقّ الله على خلفائه فى أرضه، وأمنائه على عباده، الذين ارتضاهم لإقامة دينه، وحمّلهم رعاية خلقه، وإمضاء حكمه وسننه، والائتمام بعد له فى بريّته، أن يجهدوا لله أنفسهم، وينصحوا له فيما استحفظهم وقلّدهم، ويدلّوا عليه تبارك اسمه وتعالى، بفضل العلم الذى أودعهم، والمعرفة التى جعلها فيهم، ويهدوا إليه من زاغ عنه، ويردّوا من أدبر عن أمره، وينهجوا لرعاياهم سمت (1) نجاتهم، ويقفوهم على حدود إيمانهم، وسبيل فوزهم وعصمتهم، ويكشفوا لهم عن مغطّيات أمورهم ومشتبهاتها عليهم، بما يدفعون الرّيب عنهم، ويعود بالضياء والبيّنة على كافّتهم، وأن يؤثروا ذلك من إرشادهم وتبصيرهم، إذا كان جامعا لفنون مصانعهم، ومنتظما لحظوظ عاجلتهم وآجلتهم، ويتذكّروا ما الله مرصد (2) من مساءلتهم عما حمّلوه، ومجازاتهم بما أسلفوه وقدّموا عنده، وما توفيق أمير المؤمنين إلا بالله وحده وحسبه الله وكفى به.
ومما بيّنه أمير المؤمنين برويّته، وطالعه بفكره، فتبيّن عظيم خطره وجليل ما يرجع فى الدين من وكفه (3) وضرره، ما ينال المسلمون بينهم من القول فى القرآن الذى جعله الله إماما لهم، وأثرا من رسول الله وصفيّه محمد صلى الله عليه وسلم باقيا لهم، واشتباهه على كثير منهم، حتى حسن عندهم وتزيّن فى عقولهم، ألّا يكون مخلوقا، فتعرّضوا بذلك لدفع خلق الله، الذى بان به عن خلقه، وتفرّد بجلالته من
(1) السمت: الطريق.
(2)
أرصد له: أعد، وكافأه بالخير أو بالشر.
(3)
الوكف: العيب والإثم.
ابتداع الأشياء كلّها بحكمته، وإنشائها بقدرته، والتقدّم عليها بأوّليّته التى لا يبلغ أولاها، ولا يدرك مداها، وكان كلّ شىء دونه خلقا من خلقه، وحدثا هو المحدث له، وإن كان القرآن ناطقا به، ودالّا عليه، وقاطعا للاختلاف فيه، وضاهوا به قول النصارى فى ادّعائهم فى عيسى بن مريم أنه ليس بمخلوق، إذ كان كلمة الله، والله عز وجل يقول:«إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا» وتأويل ذلك «أَنَّا خَلَقْناهُ» * كما قال جل جلاله «وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها» وقال: «وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً» «وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ» . فسوّى عز وجل بين القرآن وبين هذه الخلائق، التى ذكرها فى شية (1) الصّنعة، وأخبر أنه جاعله، وحدّه فقال: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ» فقال ذلك على إحاطة اللوح بالقرآن، ولا يحاط إلا بمخلوق، وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم «لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ» وقال:«ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ» وقال: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ» وأخبر عن قوم ذمّهم بكذبهم أنهم قالوا: «ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ» ثم أكذبهم على لسان رسوله فقال لرسوله: «قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى» فسمى الله تعالى القرآن قرآنا وذكرا وإيمانا ونورا وهدى ومباركا وعربيّا وقصصا، فقال:«نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ» وقال: «قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ» وقال: «قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ» وقال: «لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ» فجعل له أوّلا وآخرا، ودل عليه أنه محدود مخلوق.
(1) أى فى حسنها، من وشى الثوب كوعد وشيا وشية: أى نقشه وحسنه.
وقد عظّم هؤلاء الجهلة بقولهم فى القرآن، الثّلم (1) فى دينهم، والجرح فى أمانتهم، وسهّلوا السبيل لعدو الإسلام، واعترفوا بالتبديل والإلحاد على قلوبهم حتى عرّفوا ووصفوا خلق الله وفعله بالصفة التى هى لله وحده، وشبّهوه به، والأشباه أولى بخلقه، وليس يرى أمير المؤمنين لمن قال بهذه المقالة حظّا فى الدين، ولا نصيبا من الإيمان واليقين، ولا يرى أن يحلّ أحدا منهم محلّ الثقة فى أمانة ولا عدالة ولا شهادة، ولا صدق فى قول ولا حكاية، ولا تولية لشىء من أمر الرعية، وإن ظهر قصد (2) بعضهم، وعرف بالسّداد مسدّد فيهم، فإن الفروع مردودة إلى أصولها، ومحمولة فى الحمد والذم عليها، ومن كان جاهلا بأمر دينه الذى أمره الله به من وحدانيّته فهو بما سواه أعظم جهلا، وعن الرّشد فى غيره أعمى وأضل سبيلا، فاقرأ على جعفر بن عيسى وعبد الرحمن بن إسحق القاضى كتاب أمير المؤمنين بما كتب به إليك، وانصصهما عن علمهما فى القرآن، وأعلمهما أن أمير المؤمنين لا يستعين على شىء من أمور المسلمين إلا بمن وثق بإخلاصه وتوحيده، وأنه لا توحيد لمن لم يقرّ بأن القرآن مخلوق، فإن قالا بقول أمير المؤمنين فى ذلك، فتقدّم إليهما فى امتحان من يحضر مجالسهما بالشهادات على الحقوق، ونصّهم عن قولهم فى القرآن، فمن لم يقل منهم إنه مخلوق أبطلا شهادته، ولم يقطعا حكما بقوله، وإن ثبت عفافه بالقصد والسّداد فى أمره، وافعل ذلك بمن فى سائر عملك من القضاة، وأشرف عليهم إشرافا يزيد الله به ذا البصيرة فى بصيرته، ويمنع المرتاب من إغفال دينه، واكتب إلى أمير المؤمنين بما يكون منك فى ذلك إن شاء الله».
(كتاب بغداد 6: 344، وتاريخ الطبرى 10: 286)
(1) أى النقص، من ثلم الإناء إذا كسر حرفه.
(2)
القصد: الاستقامة.