الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
341 - كتاب المأمون إلى إسحق بن إبراهيم
وفى سنة 212 هـ أظهر المأمون القول بخلق القرآن (1)، وبقى يقدّم رجلا ويؤخر أخرى فى دعوة الناس إلى مذهبه، حتى قوى عزمه فى السنة التى مات فيها (سنة 218 هـ) فحملهم على القول بخلقه، وعاقب كلّ من لم يقل به أشدّ عقوبة.
وكتب فى هذه السنة وهو بالرّقّة إلى إسحق بن إبراهيم نائبه ببغداد فى امتحان القضاة والمحدّثين فى ذلك، وأمر بإشخاص جماعة منهم إليه بالرّقة، وكان ذلك أول كتاب كتب فى ذلك، ونسخة كتابه إليه:
«أما بعد، فإنّ حقّ الله على أئمة المسلمين وخلفائهم، الاجتهاد فى إقامة دين الله الذى استحفظهم، ومواريث النّبوّة التى أورثهم، وأثر العلم الذى استودعهم، والعمل بالحق فى رعيّتهم، والتشمير لطاعة الله فيهم، والله يسأل أمير المؤمنين أن
(1) كانت المعتزلة تقول بنفى صفات المعانى عن الله تعالى- ومنها الكلام- لأن إثباتها يؤدى إلى التشبيه وإلى تعدد القديم، وذلك ينافى التوحيد، وكان من النتائج اللازمة لذلك أن قالوا بأن القرآن كلام الله مخلوق، قال صاحب المواقف (ج 8: ص 92) «قالت المعتزلة: كلامه تعالى أصوات وحروف لكنها ليست قائمة بذاته، بل يخلقها الله فى غيره كاللوح المحفوظ أو جبريل أو النبى، وهو حادث» .
وليست المعتزلة أول من قال بخلق القرآن- كما أنهم ليسوا أول من أنكر الصفات- بل إن أول من عرف بالقول بخلقه الجعد بن درهم بدمشق، (وهو مؤدب مروان بن محمد آخر خلفاء بنى أمية) وأخذ عنه ذلك القول جهم بن صفوان الترمذى زعيم فرقة الجهمية الجبرية فقال بخلقه، إذ أن الجهمية تنكر الصفات. وذكروا أن بشر بن غياث المريسى- وهو زعيم المريسية من فرق المرجئة- قال أيضا بخلق القرآن فى عصر الرشيد، ونهاه أبو يوسف عن ذلك فلم ينته، فهجره وطرده من مجلسه، وقال: لا تنتهى أو تفسد خشبة (يريد الصلب) ولما بلغ ذلك الرشيد قال: على إن أظفرنى الله به أن أقتله، وظل بشر مختفيا طول خلافة الرشيد ولم يظفر به مع شدة طلبه له. وذكروا أيضا أن حفصا الفرد- وهو من أكابر المجبرة- قال بذلك القول. وأن الشافعى ناظره وكفره، وكان الناس فى تلك المسألة فى عصر الرشيد بين أخذ وترك، حتى ولى المأمون فقال بخلقه وكان من أشد بصراء الاعتزال- انظر سرح العيون ص 203، ووفيات الأعيان 1: 91 والفرق بين الفرق ص 192 وتبيين كذب المفترى ص 339 و 345 و 346 وحياة الحيوان الكبرى للدميرى 1: 114 و 115 وتاريخ الطبرى 10: 279.
يوفّقه لعزيمة الرّشد وصريمته (1)، والإقساط فيما ولّاه الله من رعيته برحمته ومنّته.
وقد عرف أمير المؤمنين أن الجمهور الأعظم، والسّواد (2) الأكبر، من حشو الرّعية، وسفلة العامّة، ممن لا نظر له ولا رويّة، ولا استدلال له بدلالة الله وهدايته، ولا استضاءة بنور العلم وبرهانه فى جميع الأقطار والآفاق، أهل جهالة بالله، وعمى عنه، وضلالة عن حقيقة دينه وتوحيده والإيمان به، ونكوب (3) عن واضحات أعلامه، وواجب سبيله، وقصور أن يقدروا الله حقّ قدره، ويعرفوه كنه معرفته، ويفرّقوا بينه وبين خلقه، لضعف آرائهم، ونقص عقولهم، وجفائهم عن التفكّر والتذكّر، وذلك أنهم ساووا بين الله تبارك وتعالى وبين ما أنزل من القرآن، فأطبقوا (4) مجتمعين، واتفقوا غير متعاجمين، على أنه قديم أوّل، لم يخلقه الله ويحدثه ويخترعه، وقد قال الله عز وجل فى محكم كتابه الذى جعله لما فى الصدور شفاء، وللمؤمنين رحمة وهدى:«إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا» فكلّ ما جعله الله فقد خلقه، وقال:
«الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ» ، وقال عز وجل:«كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ، فأخبر أنه قصص لأمور أحدثه بعدها، وتلا به متقدّمها، وقال: «الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ، ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ» وكل محكم مفصّل فله محكم مفصّل، والله محكم كتابه ومفصّله، فهو خالقه ومبتدعه.
ثم هم الذين جادلوا بالباطل، فدعوا إلى قولهم، ونسبوا أنفسهم إلى السّنّة، وفى كل فصل من كتاب الله قصص من تلاوته، مبطل قولهم، ومكذّب دعواهم، يردّ عليهم قولهم ونحلتهم (5)، ثم أظهروا مع ذلك أنهم أهل الحقّ والدين والجماعة،
(1) الصريمة: العزيمة وقطع الأمر. والإقساط: العدل.
(2)
السواد: العدد الكثير وعامة الناس.
(3)
أى عدول.
(4)
أطبق القوم على الأمر: أجمعوا.
(5)
النحلة: الدعوى.
وأن من سواهم أهل الباطل والكفر والفرقة، فاستطالوا بذلك على الناس، وغرّوا به الجهّال، حتى مال قوم من أهل السّمت (1) الكاذب، والتخشّع لغير الله، والتقشّف لغير الدين، إلى موافقتهم عليه، ومواطأتهم على سيّئ آرائهم، تزيّنا بذلك عندهم، وتصنّعا للرّياسة والعدالة فيهم، فتركوا الحقّ إلى باطلهم، واتخذوا دون الله وليجة (2) إلى ضلالتهم، فقبلت بتزكيتهم لهم شهادتهم، ونفذت أحكام الكتاب بهم على دغل (3) دينهم، ونغل أديمهم، وفساد نيّاتهم ويقينهم، وكان ذلك غايتهم التى إليها أجروا، وإياها طلبوا فى متابعتهم، والكذب على مولاهم، وقد أخذ عليهم ميثاق الكتاب- أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ، أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ، أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها.
فرأى أمير المؤمنين أن أولئك شرّ الأمة، ورءوس الضّلالة، المنقوصون من التوحيد حظّا، والمخسوسون (4) من الإيمان نصيبا، وأوعية الجهالة، وأعلام الكذب، ولسان إبليس الناطق فى أوليائه، والهائل على أعدائه من أهل دين الله، وأحقّ من يتّهم فى صدقه، وتطرح شهادته، ولا يوثق بقوله ولا عمله، فإنه لا عمل إلا بعد يقين، ولا يقين إلا بعد استكمال حقيقة الإسلام، وإخلاص التوحيد، ومن عمى عن رشده وحظّه من الإيمان بالله وبتوحيده، كان عما سوى ذلك من عمله والقصد فى شهادته أعمى وأضلّ سبيلا، ولعمر أمير المؤمنين إن أحجى (5) الناس بالكذب فى قوله، وتخرّص الباطل فى شهادته، من كذب على الله ووحيه، ولم يعرف الله
(1) السمت: هيئة أهل الخير.
(2)
الوليجة: خاصتك، أو من تتخذه معتمدا عليه من غير أهلك.
(3)
الدغل: الفساد، ونغل الأديم كفرح: فسد فى الدباغ.
(4)
خس نصيبه: جعله خسيسا دنيئا حقيرا.
(5)
أى أجدرهم، يقال: هو حجى به كغنى، وحج كشج، وحجى كفتى أى جدير، وتخرص عليه: افترى ..
حقيقة معرفته، وإن أولاهم بردّ شهادته فى حكم الله ودينه، من ردّ شهادة الله على كتابه، وبهت (1) حقّ الله بباطله.
فاجمع من بحضرتك من القضاة، واقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين هذا إليك، فابدأ بامتحانهم فيما يقولون، وتكشيفهم عما يعتقدون فى خلق الله القرآن وإحداثه، وأعلمهم أن أمير المؤمنين غير مستعين فى عمله، ولا واثق فيما قلّده الله واستحفظه من أمور رعيته، بمن لا يوثق بدينه، وخلوص توحيده ويقينه، فإذا أقرّوا بذلك ووافقوا أمير المؤمنين فيه، وكانوا على سبيل الهدى والنجاة، فمرهم بنصّ (2) من يحضرهم من الشهود على الناس، ومسألتهم عن علمهم فى القرآن؛ وترك إثبات شهادة من لم يقرّ أنه مخلوق محدث ولم يره، والامتناع من توقيعها عنده، واكتب إلى أمير المؤمنين بما يأتيك عن قضاة أهل عملك فى مسألتهم، والأمر لهم بمثل ذلك، ثم أشرف عليهم وتفقّد آثارهم، حتى لا تنفذ أحكام الله إلا بشهادة أهل البصائر فى الدين، والإخلاص للتوحيد، واكتب إلى أمير المؤمنين بما يكون فى ذلك إن شاء الله».
وكتب فى شهر ربيع الأول سنة 218 هـ.
*** وكتب المأمون إلى إسحق بن إبراهيم فى إشخاص سبعة نفر، فأشخصوا إليه، فامتحنهم وسألهم عن خلق القرآن، فأجابوا جميعا: أن القرآن مخلوق، فأشخصهم إلى مدينة السلام، وأحضرهم إسحق بن إبراهيم داره، فشهّر أمرهم وقولهم، بحضرة الفقهاء والمشايخ من أهل الحديث، فاقرّوا بمثل ما أجابوا به المأمون، فخلّى سبيلهم، وكان ما فعل من ذلك إسحق بن إبراهيم بأمر المأمون.
(كتاب بغداد لابن طيفور 6: 338؛ وتاريخ الطبرى 10: 284)
(1) بهته كنفع: قذفه بالباطل وافترى عليه الكذب.
(2)
فصه: استقصى مسألته عن الشىء.