الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
202 - كتاب طاهر بن الحسين إلى المأمون
وكان الغلبة لطاهر بن الحسين، وقتل الأمين وحمل رأسه إلى المأمون بخراسان (سنة 198) وكتب طاهر إلى المأمون بالفتح:
«أما بعد فالحمد لله المتعالى ذى العزّة والجلال والملك والسلطان، الذى إذا أراد أمرا فإنما يقول له كن فيكون، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم.
كان فيما قدّر الله فأحكم، ودبّر فأبرم، انتكاث المخلوع ببيعته، وانتقاضه بعهده، وارتكاسه (1) فى فتنته، وقضاؤه عليه القتل بما كسبت يداه، وما الله بظلّام للعبيد، وقد كتبت إلى أمير المؤمنين- أطال الله بقاءه- فى إحاطة جند الله بالمدينة والخلد (2)، وأخذهم بأفواهها وطرقها ومسالكها فى دجلة، نواحى أزقّة مدينة السّلام، وانتظام المسالح (3) حواليها، وحدرى السّفن والزّواريق بالعرّادات (4) والمقاتلة إلى ما واجه الخلد وباب خراسان، تحفّظا بالمخلوع، وتخوّفا من أن يروغ (5) مراغا، ويسلك مسلكا يجد به السبيل إلى إثارة فتنة، وإحياء نائرة (6)، أو يهايج قتالا، بعد أن حصره الله عز وجل وخذله، ومتابعة الرّسل بما يعرض عليه هرثمة ابن أعين مولى أمير المؤمنين ويسألنى من تخلية الطريق له فى الخروج إليه، واجتماعى وهرثمة بن أعين لنتناظر فى ذلك (7)، وكراهتى ما أحدث وراءه من أمره بعد
(1) ارتكس: انتكس ووقع.
(2)
المدينة: اى بغداد، وتسمى أيضا مدينة السلام. والخلد: قصر بناه المنصور بها (ثم بنيت حواليه منازل فصارت محلة كبيرة عرفت بالخلد، والأصل فيها القصر المذكور) وقد هرب الأمين من قصر الخلد.
مما كان يصل إليه من حجارة المنجنيق- وهو آلة ترمى بها الحجارة- وصار إلى مدينة السلام.
(3)
المسالح جمع مسلحة بالفتح: وهى القوم ذوو سلاح.
(4)
العرادة: أصغر من المنجنيق.
(5)
راغ: مال وحاد.
(6)
النائرة: العداوة والشحناء.
(7)
وذلك أنه لما اشتد الحصار على الأمين، شاور خواصه فى النجاة بنفسه، فكل أدلى برأى وأشار بوجه. وكان الأمين يستوحش من طاهر، ويأمن بهرثمة ويثق بناحيته، فراسله فى ذلك، فأجابه هرثمة إلى ما أراد ووعده بكل ما أحب وأنه يمنعه ممن يريد قتله، وبلغ ذلك طاهرا فاشتد عليه وزاد غيظه-
إرهاق (1) الله إياه، وقطعه رجاءه من كل حيلة ومتعلّق، وانقطاع المنافع عنه، وحيل بينه وبين الماء فضلا عن غيره، حتى همّ به خدمه وأشياعه من أهل المدينة ومن نجامعه إليها، وتحزّبوا على الوثوب به للدّفع عن أنفسهم والنجاة بها، وغير ذلك مما فسّرت لأمير المؤمنين- أطال الله بقاءه- مما أرجو أن يكون قد أتاه.
وإنى أخبر أمير المؤمنين أنى روّيت فيما دبّر هرثمة بن أعين مولى أمير المؤمنين فى المخلوع، وما عرض عليه وأجابه إليه، فوجدت الفتنة، فى تخلّصه من موضعه الذى قد أنزله الله فيه بالذّلة والصّغار، وصيّره فيه إلى الضّيق والحصار تزداد، ولا يزيد أهل التربّص فى الأطراف إلا طمعا وانتشارا. وأعلمت ذلك هرثمة بن أعين وكراهتى ما أطمعه فيه وأجابه إليه- فذكر أنه لا يرى الرجوع عما أعطاه فصادرته- بعد يأس من انصرافه عن رأيه- على أن يقدّم المخلوع رداء رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيفه وقضيبه قبل خروجه، ثم أخلى له طريق الخروج إليه، كراهة أن يكون بينى وبينه اختلاف نصير منه إلى أمر يطمع الأعداء فينا، أو فراق القلوب بخلاف ما نحن عليه من الائتلاف والاتفاق على ذلك، وعلى أن نجتمع لميعادنا عشيّة السبت.
وحنقه وأبى أن يرفه عنه ويدعه يخرج، وقال: هو فى حيزى والجانب الذى أنا فيه، وأنا أحرجته بالحصار والحرب حتى صار إلى طلب الأمان، ولا أرضى أن يخرج إلى هرثمة دونى فيكون الفتح له، ولما رأى هرثمة والقواد ذلك اجتمعوا وصار إليهم طاهر وخاصة قواده، وأداروا الرأى بينهم وأخبروا طاهرا أنه لا يخرج إليه أبدا، وقالوا له: يخرج ببدنه إلى هرثمة، ويدفع إليك الخاتم والقضيب والبردة- وذلك الخلافة- ولا تفسد هذا الأمر واغتنمه إذ يسره الله، فأجاب إلى ذلك ورضى به، ولما علم بعض ذوى الأهواء بالخبر أراد التقرب إلى طاهر فخبره أن الذى جرى بينهم وبينه مكر، وأن الخاتم والبردة والقضيب تحمل مع الأمين إلى هرثمة، فاغتاظ وأكمن له كمناء بالسلاح، ووعد هرثمة الأمين أن يأتيه فى حرّاقة إلى مشرعة باب خراسان فيصير به إلى عسكره، فلما صار إلى الحراقة خرج طاهر وأصحابه فرموها بالسهام والحجارة فانكفأت، فغرق الأمين وهرثمة ومن كان فيها، فلم يكن لهرثمة شاغل إلا نفسه فتعلق بزورق ومضى إلى عسكره بالجانب الشرقى، وسبح الأمين حتى عبر دجلة فقبض عليه أصحاب طاهر وقتلوه.
(1)
أرهقه: حمله على ما لا يطيقه.
فتوجّهت فى خاصّة ثقاتى الذين اعتمدت عليهم، وأثق بهم بربط الجأش (1)، وصدق البأس، وصحة المناصحة، حتى طالعت جميع أمر كلّ من كنت وكّلت بالمدينة والخلد برّا وبحرا، والتقدمة إليهم فى التحفّظ والتيقّظ، والحراسة والحذر، ثم انكفأت إلى باب خراسان، وكنت أعددت حرّاقات (2) وسفنا سوى العدّة التى كانت لأركبها بنفسى لوقت ميعادى بينى وبين هرثمة، فنزلتها فى عدّة ممن كان ركب معى من خاصّة ثقاتى وشاكريّتى (3)، وصيّرت عدّة منهم فرسانا ورجّالة بين باب خراسان وللمشرعة (4) وعلى الشّطّ.
وأقبل هرثمة بن أعين حتى صار بقرب باب خراسان معدا مستعدّا، وقد خاتلنى (5) بالرسالة إلى المخلوع إلى أن يخرج إليه إذا وافى المشرعة ليحمله قبل أن أعلم، أو يبعث إلىّ بالرّداء والسيف والقضيب، على ما كان فارقنى عليه من ذلك. فلما وافى خروج المخلوع على من وكّلت بباب خراسان، نهضوا عند طلوعه عليهم، ليعرفوا الطابع لأمرى كان أتاهم، وتقدّمى إليهم ألّا يدعوا أحدا يجوزهم إلا بأمرى، فبادرهم نحو المشرعة وقرّب هرثمة إليه الحرّاقة، فسبق الناكث أصحابى إليها، وتأخّر «كوثر (6)» فظفر به «قريش» مولاى، ومعه الرّداء والقضيب والسيف، فأخذه وما معه، فنفر أصحاب المخلوع عند ما رأوا من إرادة أصحابى منع مخلوعهم من الخروج، فبادر بعضهم حرّاقة هرثمة، فتكفّأت بهم حتى أغرقت فى الماء ورسبت، فانصرف بعضهم إلى المدينة، ورمى المخلوع عند ذلك بنفسه من الحرّاقة فى دجلة متخلّصا إلى الشّطّ، نادما على ما كان من خروجه، ناقضا للعهد، داعيا بشعاره (7)، فابتدره (8) عدّة من
(1) الجاش: النفس، وربط جأشه: اشتد قلبه.
(2)
الحراقات: سفن فيها مرامى نيران يرمى بها العدو.
(3)
الشاكرى: الأجير والمستخدم، معرب جاكر.
(4)
المشرعة: مورد الشاربة.
(5)
خاتله: خادعه.
(6)
كان خادما خصيا للأمين وكان يحبه.
(7)
لما أخذت السيوف الأمين جعل يصيح: ويحكم! إنى ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنا ابن هرون، أنا أخو المأمون، الله الله فى دمى.
(8)
ابتدره: عاجله.
أوليائى الذين كنت وكّلتهم بما بين مشرعة باب خراسان وركن الصّراة، فأخذوه عنوة (1) قهرا بلا عهد ولا عقد، فدعا بشعاره وعاد فى نكثه، فعرض عليهم مائة حبّة، ذكر أن قيمة كل حبة مائة ألف درهم، فأبوا إلا الوفاء لخليفتهم أبقاه الله، وصيانة لدينهم، وإيثارا للحق الواجب عليهم، فتعلّقوا به، قد أسلمه (2) الله وأفرده، كلّ يرغبه ويريد أن يفوز بالحظوة عندى دون صاحبه، حتى اضطربوا فيما بينهم، وتناولوه بأسيافهم، منازعة فيه، وتشاحّا (3) عليه، إلى أن أتيح له مغيظ لله ودينه ورسوله وخليفته، فأتى عليه، وأتانى الخبر بذلك، فأمرت بحمل رأسه إلىّ، فلما أتيت به تقدّمت إلى من كنت وكّلت بالمدينة والخلد وما حواليها وسائر من فى المسالح، فى لزوم مواضعهم والاحتفاظ بما يليهم إلى أن يأتيهم أمرى، ثم انصرفت، فأعظم الله لأمير المؤمنين الصّنع والفتح عليه، وعلى الإسلام به وفيه.
فلمّا أصبحت هاج الناس واختلفوا فى المخلوع: فمصدّق بقتله ومكذّب، وشاكّ وموقن، فرأيت أن أطرح عنهم الشّبهة فى أمره، قمضيت برأسه لينظروا إليه، فيصحّ بعينهم، وينقطع بذلك بعل (4) قلوبهم، ودخل (5) التياث المستشرفين للفساد، والمستوفزين للفتنة، وغدوت نحو المدينة فاستسلم من فيها، وأعطى أهلها الطاعة، واستقام لأمير المؤمنين شرقىّ ما يلى مدينة السلام وغربيّه وأرباعه (6) وأرباضه ونواحيه، وقد وضعت الحرب أوزارها، وتلافى بالسلام والإسلام أهله، وبعّد الله
(1) أى قهرا.
(2)
أى خذله.
(3)
تشاحا على الأمر: لا يربدان أن يفوتهما.
(4)
بعل بأمره كفرح: دهش رفرق وبرم فلم يدر ما يصنع.
(5)
الدخل: ما داخل المرء من فساد فى عقل أو جسم، والالتياث: الاختلاط والالتفاف، واستشرف الشىء: رفع بصره إليه وبسط كفه فوق حاجبه كالمستظل من الشمس، واستوفز، تحفر وتهيأ للوثوب.
(6)
كانت المدينة قديما تقسم أرباعا (ولا يزال ذلك التقسيم إلى اليوم فى بعض بلاد القطر المصرى، وقد كانت مدينة القاهرة قبل اليوم مقسمة ثمانية أقسام، كل قسم ثمن وحرفته العامة فقالوا تمن) والأرباض جمع ربض بالتحريك، وربض المدينة: ما حولها، والأوزار: الأثقال، جمع وزر بالكسر.