الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والباطل، فإن القليل من الصدق البرىء من الكذب، أفضل من كثير الصدق المشوب بالباطل، ولقد وصفت من مناقبك، ومحاسن أمورك، وإنى لأخاف الفتنة عليك حين تسمع بتزكية نفسك، وذكرى ما ذكرت من فضلك، لأن المدح مفسدة للقلب، مبعثة للعجب، ثم رجوت لك المنعة والعصمة، لأنى لم أذكر إلا حقّا، والحقّ ينفى عن اللبيب العجب، وخيلاء الكبر، ويحمله على الاقتصاد والتواضع، وقد رأيت- إذ كنت فى الفضل والوفاء على ما وصفت منك- أن آخذ بنصيبى من ودّك، وأصل وثيقة حبلى بحبلك، فيجرى بيننا من الإخاء أواصر (1) الأسباب التى بها يستحكم الودّ، ويدوم العهد، وعلمت أن تركى ذلك غبن، وإضاعتى إياه جهل، لأن التارك للحظّ داخل فى الغبن، والعائد عن الرشد موجف (2) إلى الغىّ، فارغب من ودّى فيما رغبت فيه من ودّك، فإنى لم أدع شينا أستتلى به منك الرغبة، وأجترّ به منك المودة، إلا وقد اقتدت إليك ذريعته، وأعملت نحوك مطيّته، لترى حرصى على مودتك، ورغبتى فى مؤاخاتك، والسلام».
(اختيار المنظوم والمنثور 13: 401)
47 - رد يحيى بن زياد على ابن المقفع
فكتب إليه يحيى بن زياد:
«أما بعد، فإنا لمّا رأينا موضع الإخاء ممن يحتمله فى تأنيسه من الوحشة، وتقريبه لذى البعدة (3)، ومشاركته بين ذوى الأرحام فى القربة، لم نرض بمعرفة عينه دون معرفة نسبته، فنسبنا الإخاء فوجدناه فى نسبته لا يستحقّ اسم الإخاء إلا بالوفاء، فلما انتقلنا عنه إلى الوفاء فنسبناه، انتسب لنا إلى الصبر، فوجدناه محتويا
(1) أواصر جمع آصرة: وهى حبل صغير يشد به أسفل الخباء.
(2)
أى مسرع.
(3)
ذو البعدة: الذى يبعد فى المعاداة، ويقال أيضا إنه لذو بعد وبعدة بالضم فيهما: أى لذ ورأى وحزم، يقال ذلك للرجل إذا كان نافذ الرأى ذا غور وذا بعد رأى.
على الكرم، والنّجدة، والصدق، والحياء، والنجابة، والزّكانة (1)، وسائر ما لا يأتى عليه العدد من المحامد، ثم انحدرنا فيما أصعدنا فيه من هذا النّسب، فعدنا إلى الإخاء فوجدناه لا يقوم به إلا من هذه الخصال كلّها أخلاقه، ولمّا استوجب الإخاء مسالك المحمدة كلها، رأينا أن نتخيّر له المواضع فى صواب التوزير، وإحكام التقدير، وعلمنا أن الاحتباس به، أحسن من الندم بعد بذله، واستوجب- إذ كان جماع المحامد- أن نتخيّر له محامله التى كان يحمل عليها، فكان الناس فيما احتبسنا به عنهم من الإخاء، على صنفين: فصنف عذرونا بالتحبّس للتخير، إذ كان التخيّر من شأنهم، وصنف هم ذوو سرعة إلى الإخاء وسرعة فى الانتهاء، فقدّموا اللائمة (2)، واستعجلوا بالمودّة، وتركوا باب التّروية، واستحلوا عاجل المحبة، ولهوا عن آجل الثقة، فكانوا بذلك أهل لائمة، ولم يجد المعذرون (3) إلا الصبر على تلك، والاستعمال للرأى، والاستعداد بالعذر عند المحاجّة.
وقد فهمت كتابك إلىّ بالمودة، واستحثاثك إياى فى الأخوة، وما دنوت به من حرمة المحبة، فنازعت (4) إليك نفسى بمثل الذى نازعت به إلىّ نفسك، فواثبتنى عادة الاستعمال للتروية فى الخبرة، والتخيّر للمغبّة، فجلت عن كتابك جولة غير نافرة، ثم راجعت مقاربتك، فقلت: ألقى إلىّ أسباب المودة قبل كشف العطاء بالخبرة فخشيت أن تعذر نفسك بالتقدم، وتحدث الزهادة للتعسّف بالجهالة عند الخبرة، فجلت عن هذا جولة كالجولة الأولى، ثم عاودت إسعافك، وطاعة التشوق، ومعصية التخيّر ثم قلت ما حال من جعل الظنّ دون اليقين، والتقدم قبل الوثيقة؟ فلما كان الرأى لى خصما، تنكّبت الوقوع فى خلافه، فلم أجد إلا الإدبار عن إقبالك سبيلا، ولا مع
(1) الزكانة: الفطنة والحدس الصادق.
(2)
اللائمة: اللوم.
(3)
المعذر: من كان له عذر.
(4)
أى اشتاقت.