الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تكون بمفارقة الإخوان.
وروى الإمام أبو عبد الرحمن السلمي في "طبقاته": أن بشر بن الحارث الحافي رحمه الله تعالى كان له ثلاث أخوات مذكورات بالعبادة والورع - مضغة ومخة وزبدة - وكُبراهنَّ مضغة، وكانت أَسَنَّ من بشر، وماتت قبله، فتوجع عليها توجعا شديداً، وبكى بكاء كثيراً، فقيل له في ذلك، فقال: قرأت في بعض الكتب: أن العبد إذا قصر في خدمة ربه سلبه أنيسه، وهذه كانت أنيستي في الدنيا (1).
وحكى الخطيب البغدادي عن إبراهيم الحربي: أن بشراً رحمه الله تعالى قال هذا يومَ ماتت أخته مخة رضي الله تعالى عنهم (2).
*
تَنْبِيْهٌ آخَرُ:
قد يكون سبب الصحبة بين العبد الصالح وآخر ما يبدو له منه من الطاعة في الظاهر، ويكون في الباطن من الأمر بخلاف ذلك، فهذا لا يضر الصالح.
نعم، متى اطلع منه على حقيقة ذلك تعينت عليه مفارقته.
وقد روى ابن المبارك في "البر والصلة" عن الإمام محمد ابن الحنفية رحمه الله تعالى قال: من أحب رجلاً على عدلٍ ظهر منه - وهو في علم الله من أهل النار - آجره الله كما لو كان من أهل الجنة، ومن
(1) رواه الخطيب في "تاريخ بغداد"(14/ 436).
(2)
انظر: "تاريخ بغداد" للخطيب (14/ 436).
أبغض رجلاً على جَور ظهر منه - وهو في علم الله من أهل الجنة - آجره الله كما لو كان من أهل النار (1).
ومن هنا كان السلف إذا كان للواحد منهم خليل أو صاحب، ورأى منه ما يخالف السنة، هجره وتخلى عنه، وهذا متعين.
وقد روى الحافظ عبد الرزاق، وابن المنذر في "تفسيره" عن سعيد ابن المسيِّب قال: كان أبو بَكْرة رضي الله تعالى عنه أخا زيادٍ لأمه، فلما كان من أمر زياد ما كان - أي: من انتسابه إلى أبي سفيان، وانتفائه من أبيه - حلف أبو بكرة رضي الله تعالى عنه أن لا يكلم زياداً أبداً، فلم يكلمه حتى مات (2).
وروى الحافظ أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنفه" عن الزهريّ: أن رجلاً سلَّم على النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، ولم يرد عليه، فقيل له: لِم؟ قال: "لأَنَّهُ ذُوْ وَجْهَيْنِ"(3).
وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن ابن مسعود رضي الله عنه: أنه رأى رجلاً يضحك في جنازة، فقال: تضحك وأنت في جنازة! والله لا أكلمك أبداً (4).
(1) رواه البيهقي في "شعب الإيمان"(9521).
(2)
رواه عبد الرزاق في "المصنف"(15449).
(3)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(25464).
(4)
رواه الإمام أحمد في "الزهد"(ص: 161).
وروى الترمذي وصححه، عن نافع: أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما جاءه رجل، فقال: إن فلاناً يقرأ عليك السلام، فقال: إنه بلغني أنه قد أحدث، فإن كان قد أحدث فلا تقرئه مني السلام، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"يَكوْن فِيْ هَذِهِ الأمَّةِ - أَوْ: فِيْ أمتِيْ - خَسْفٌ وَمَسْخٌ أَوْ قَذْفٌ فِيْ أَهْلِ الْقَدَرِ"(1).
وروى أبو نعيم في "الحلية" عن جعفر بن سليمان قال: سمعت مالك بن دينار رحمه الله تعالى يقول للمغيرة بن حبيب ما لا أحصي - وكان خَتَنَه -: يا مغيرة! كل أخ وجليس وصاحب لا تستفيد منه في دينك فانبذ عنه صحبتك (2).
وقال الله تعالى: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 145].
قوله: {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} [البقرة: 145] أي: بأن أهل الكتاب ليسوا على شيء لا قبل بعثته صلى الله عليه وسلم لإحداثهم وتغييرهم، ولا بعد بعثته لعدم إيمانهم به.
وفيه إشارة إلى عذر من لم يعلم حتى يعلم، فالإنسان مع معارفه
(1) رواه الترمذي (2152) وقال: حديث حسن صحيح غريب، وابن ماجه (4061).
(2)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(6/ 248)، والإمام أحمد في "الزهد" (ص: 321).
- من بَلَدِي أو عَصري أو جار أو صديق أو قريب - معذور إذا أحسن الظن بهم وعاشرهم حتى يعلم بأحوالهم، فإذا علم من حال أحد منهم ما يخالف الدين والسنة تعين عليه مفارقته، وإلا كان ظالماً.
وإنما رتَّب الله تعالى الظلم في الآية على اتباع أهوائهم؛ لأنهم قد ثبت ظلمهم، ومتابعة الهوى دليل المحبة، والمرء مع من أحب، ومحبة أهل المعصية معصية، كما أن بغضهم طاعة، وكما أن الحب في الله خلق كريم من أخلاق الصالحين، فكذلك البغض في الله.
وقد روى الإمام أحمد عن البراء، والحافظ أبو بكر الخرائطي في "مكارم الأخلاق" عن ابن مسعود قالا رضي الله تعالى عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَوْثَقُ عُرىْ الإِسْلامِ الْحُبُّ فِيْ اللهِ، وَالْبُغْضُ فِيْ اللهِ"(1).
وروى أبو حفص بن شاهين، وأبو منصور الديلمي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تَقَرَّبُوْا إِلَىْ اللهِ بِبُغْضِ أَهْلِ الْمَعَاصِيْ، وَالْقَوْهُمْ بِوُجُوْهٍ مُكْفَهِرَّة، وَالْتَمِسُوْا رِضَىْ اللهِ بِسَخَطِهِمْ، وَتَقَرَّبُوْا إِلَىْ اللهِ بِالتَّباعُدِ مِنْهُمْ"(2).
(1) رواه الامام أحمد في "المسند"(4/ 286)، والخرائطي في "مكارم الأخلاق" (ص: 168). قال العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء"(2/ 159): رواه الإمام أحمد من حديث البراء بن عازب وفيه ليث بن أبي سليم مختلف فيه، والخرائطي من حديث ابن مسعود بسند ضعيف.
(2)
رواه الديلمي في "مسند الفردوس"(2320).
والوجوه الْمُكْفَهِرَّة: العابسة، المقطبة، الغليظة.
واعلم أن الذي يُبْغَضُ في الله تعالى هو المخالف لأمره، فإن كان كافراً محارباً قُوتِل حتى يسلم، أو يُقْتَل، أو يُسْتَرَقَّ، وهذا غاية النَّكال والإهانة والإذلال.
أو ذمياً فيستحق الإعراض عنه، وترك المفاتحة بالسلام والمصافحة، ثم لا يؤذى، ولكن الأَوْلى الكف عن مخالطته ومعاملته ومؤاكلته، فأما الانبساط معه، والاسترسال إليه فشديد الكراهية، وقد ينتهي إلى التحريم، ومودته حرام.
وإن كان عاصياً؛ فإن كان مبتدعاً يُكفَّر ببدعته، فأمره أشد من الذمي، فإن لم يكفر بها تعين هجره، ووجب بغضه، والتحذر منه، والإنكار عليه أشد من الكافر؛ لأن الكافر يُحْذَر، ويُتَحَامى عنه، فلا يتعدى شره، بخلاف هذا؛ لأنه يَدَّعي الإسلام.
وإن كان غير مبتدع؛ فإن كانت معصيته مما يستضر به الناس؛ كالظلم والغيبة والنميمة وشهادة الزور والزنا واللواط والعقوق والقطيعة والسحر والدياثة والسعاية والمكر والخديعة، فالإنكار عليه واجب أيضاً، والإعراض عنه مستحب.
وإن كان معصية ظلم نفسه؛ كالشرب وترك الصلاة ولبس الحرير وسماع الآلات وضربها، فيجب الإنكار عليه عند مشاهدته على المعصية، ونصحه، ويستحب توبيخه وهجره زجراً له عن معصيته، فإن أصر على المعصية - وإن كانت صغيرة - وجب عليه بغضه، ولا يدعو