الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عليه، بل [يدعو] له بالهداية والتوبة، لا بطول البقاء ونحوه.
ولا يجوز لعنه، بل لا يجوز لعن المعيَّن - وإن كان كافراً - لاحتمال حصول حسن الخاتمة له.
ولا فائدة في محبة الْمُصِرِّ، وقد قال تعالى:{فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [النجم: 29].
وقال تعالى: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [الكهف: 28].
وقال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 68].
*
تَتِمَّةٌ لِمَا سَبَقَ، وَتَوْضِيْحٌ لَهُ:
تقدم لنا ثلاثة أحاديث:
- "مَنْ سَوَّدَ مَعَ قَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ"(1).
- و"مَنْ أَحَبَّ قَوْما كانَ مَعَهُمْ"(2).
- و"مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ"(3).
فأما قوله صلى الله عليه وسلم: "منْ سَوَّدَ مَعَ قَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ":
فهذا مشروط بأن يكون تسويده معهم باختياره لسوادهم، ومحبته
(1) تقدم تخريجه.
(2)
تقدم تخريجه لكن بلفظ: "وَلا يُحِبُّ رَجُلٌ قَوْما إِلَاّ جَعَلَهُ مِنْهُمْ".
(3)
تقدم تخريجه.
لهم، وإيثاره لطريقتهم كالصحابة رضي الله تعالى عنهم مع النبي صلى الله عليه وسلم.
فأما لو كان تسويده معهم عجزاً، أو تَقِيَّة، أو توصلاً إلى الدنيا وطلباً للغنائم، أو تهكماً واستهزاء، أو تجسسا عليهم وكشفاً لأحوالهم، أو مُكرهاً= فهذا لا يكون منهم؛ كالمنافقين مع النبي صلى الله عليه وسلم، كانوا يسودون معه لمعنى من المعاني، فإذا رأوا غنيمة ثبتوا معه، وإذا رأوا هزيمة فرُّوا عنه، وتركوه، فهؤلاء ليسوا من النبي صلى الله عليه وسلم، وليس هو منهم، كما قال الله تعالى:{وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} [التوبة: 56]؛ أي: يخافون، فيُظهرون الإسلام والاتباع تَقِيَّةً منكم.
وكذلك - أيضاً - تسويد المستضعفين من المسلمين مع الكفار لا يضرهم، ولا يصيِّرهم منهم، إلا إذا أمكنتهم الهجرة عنهم، فإن تمكنوا من الهجرة، ولم يهاجروا كانوا معهم، كما قال الله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء: 97 - 99].
وإنما استثناهم الله تعالى مع إقامتهم في أرض المشركين وكينونتهم معهم؛ لأنهم كانوا مع ذلك يكرهون ما هم عليه من الكفر
والضلال، ويعجزون عن الهجرة عنهم، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو لهم.
روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال: "سمع الله لمن حمده"، في الركعة الأخيرة من صلاة العشاء قَنَتَ: اللَّهُمَّ أَنْجِ عَيَّاشَ بْنَ أَبِيْ رَبِيْعَةَ، اللَّهُمَ أَنْجِ الْوَليْدَ بْنَ الْمُغِيْرَةِ، اللَّهُمَّ أَنْجِ سَلَمَةَ ابْنَ هِشَامٍ، اللَّهُمَّ أَنْجِ الْمُسْتَضْعَفِيْنَ مِنَ الْمُؤْمِنِيْنَ، اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَىْ مُضَرَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْها عَلَيْهِمْ سِنِيْنَ كَسِنِيِّ يُوْسُفَ (1).
فانظر كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو لهم بالنجاة بسبب إيمانهم المستلزم لكراهيتهم لأفعال المشركين وأخلاقهم وأحوالهم، مع إقامتهم فيهم، وتسويدهم معهم، فتبين بذلك أن مجرد التسويد مع القوم لا يلحق بهم في كل ما هم فيه، وأن العمدة على محبة القلب وكراهيته، فإذا انضم مع المحبة التسويد مع القوم والتشبه بهم كان ذلك آكدَ في الإلحاق، وكذلك لو انضم إلى الكراهية النفرة عن التسويد معهم، ومحبة الهجرة عنهم، والمخالفة لهم في الأفعال والأحوال، كان ذلك آكد في عدم الإلحاق.
وقد روى أبو داود في "سننه" عن العُرس بن عَمير - بضم العين المهملة في الأول، وفتحها في الثاني - الكندي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذا عُمِلَتِ الْخَطِيْئةُ فِيْ الأَرْضِ كانَ مَنْ شَهِدها فَكَرِهَهَا،
(1) رواه البخاري (4284)، ومسلم (675).
كَمَنْ غابَ عَنْهَا، وَمَنْ غابَ عَنْها فَرَضِيَها، كانَ كَمَنْ شَهِدَها" (1).
وروى البيهقي في "سننه" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَضَرَ مَعْصِيَةً فَكَرِهَهَا، فَكَأَنَّما غابَ عَنْها، وَمَنْ غابَ عَنْها فَرَضِيَها، فَكَأَنَّهُ حَضَرَها"(2).
نعم، إذا تجرد التسويد معهم عن المحبة والكراهية جميعاً، فقد يشاركهم فيما ينوبهم من رحمة أو نقمة - كما سبق في كلام لقمان - كمن يسود معهم عبثاً، أو للتفرج والتلهي بهم، كمن يقف على من يضرب بالآلة، أو بشعبات، أو يرقص القرود، أو على حلقة يعزر فيها من لا يستحق التعزير، أو على حلقة المتصارعين، أو المتداقفين، أو مع من يشهد من يمشي على الحبل، بل التسويد مع هؤلاء لهذه المعاني يلحق بهم بلا شك.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَحَبَّ قَوْماً جَعَلَهُ اللهُ مَعَهُمْ"(3):
فيه إلحاق من لم يشهد القوم، ولم يسود معهم بهم لمجرد محبته إياهم - كما تقدم -؛ أي: ما لم يخالفهم، أو يتشبه بغيرهم، كما روى ابن أبي شيبة عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أنه كان يقول: إني
(1) رواه أبو داود (4345).
(2)
رواه البيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 266)، وقال: تفرد به يحيى بن أبي سليمان وليس بالقوي، ورواه ابن أبي الدنيا في "الأمر بالمعروف" (ص: 120).
(3)
تقدم تخريجه.
ألفيت أصحابي على أمر، وإني إن خالفتهم خشيت أن لا ألحق بهم (1).
وفي الحديث بشارة عظيمة لسائر الأمة، وتقريع شديد لكل من أحب أحداً من طوائف الشرك والنفاق والابتداع - كان لم يسود معهم، ويلْقَهم -.
وشَتَّانَ بين من يحب عبد الله بن أبي ابن سلول - رأس المنافقين - وأصحابه، أو يحب بشر المريسي (2) وأصحابه، أو واصل بن عطاء وأصحابه، أو نحو هؤلاء الضُّلَاّل، وبين من يحب النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه الكرام رضي الله تعالى عنهم ويحب الأئمة الأربعة وأصحابهم، وأبا الحسن الأشعري وأصحابه، وسائر أهل السنة من أهل الحديث وغيرهم رحمهم الله تعالى.
ومن فاته مشاهدة النبي صلى الله عليه وسلم ولقيه، والتسويد معه من المؤمنين لم يحرمه الله تعالى حظه منه، فإنه ألحقه به وبأصحابه الذين سودوا معه بالمحبة المشروطة بها الإيمان به وبما جاء به، ومحبة أهل بيته وأصحابه
(1) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(34638).
(2)
بشر المريسي: أبو عبد الرحمن، بشر بن غياث، اشتغل بالكلام وجرد القول بخلق القرآن، وحكي عنه أقوال شنيعة ومذاهب مستنكرة، أساء أهل العلم قولهم فيه بسببها وكفَّره كثرهم لأجلها، وإليه تنسب الطائفة المريسية من المرجئة توفي سنة 219 هـ. انظر:"جامع بيان العلم وفضله" لابن عبد البر (2/ 63)، و"تاريخ بغداد" للخطيب البغدادي (7/ 56)، و "وفيات الأعيان" لابن خلكان (1/ 278).
رضي الله تعالى عنهم.
ثم لما كانت المحبة التي تترتب على السماع والإخبار، كما قيل:
والأذن تعشق قبل العين أحياناً (1)
أبلغَ وأعجب من المحبة التي تترتب على الصحبة واللقي ومشاهدة الذات، وملاحظة الصفات لخفاء سبب الأولى، وظهور سبب الثانية، فكانت الأولى أعظم ثواباً، وأبلغ أجراً، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"طُوْبَىْ لِمَنْ رآنِيْ وَآمَنَ بِيْ مَرَّةً، وَطُوْبَىْ لِمَنْ لَمْ يَرَنيْ وآمَنَ بِيْ سَبع مَرَّاتٍ". رواه الإمام أحمد في "مسنده" من حديث أنس رضي الله تعالى عنه.
وهو والبخاري في "تاريخه"، وابن حبان في "صحيحه"، والحاكم في "مستدركه" من حديث أبي أمامة رضي الله تعالى عنهما (2).
وروى الإمام إسحاق بن راهويه، والحافظ سعيد بن منصور
(1) عجز بيت لبشار بن برد، وصدره:
يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة
(2)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(3/ 155)، عن أنس، ورواه هو أيضاً عن أبي أمامة (5/ 248).
ورواه الإمام أحمد في "المسند"(5/ 257)، والبخاري في "التاريخ الكبير"(2/ 27)، وابن حبان في "صحيحه"(7233)، من حديث أبي أمامة رضي الله عنه. ورواه الحاكم في المستدرك (6994) من حديث عبد الله بن بسر رضي الله عنه.
- بإسناد صحيح كما قال الحافظ أبو الفضل بن حجر العسقلاني (1) - عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كان أمر محمد صلى الله عليه وسلم بَيِّناً لمن رآه، والذي لا إله إلا هو، ما آمن مؤمن أفضل من إيمانٍ بغيب (2).
قلت: ولا يلزم من ذلك تفضيل غير الصحابة عليهم، بل إنما أراد صلى الله عليه وسلم بأن تضعيف أجور الذين آمنوا به غيباً ليلحقهم بالمشاهدين له، ولآياته، ومعجزاته.
ثم بيَّن فضل الصحابة رضي الله تعالى عنهم في أحاديث أخر فقال صلى الله عليه وسلم: "خَيْرُ الْقُرُوْنِ قَرْنِيْ ثُمَّ الَّذِيْنَ يَلُوْنهمْ". الحديث رواه الإمام أحمد، والشيخان، والترمذي من حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه (3).
ومن لطائف الفهم في قوله صلى الله عليه وسلم: "طُوْبَىْ لِمَنْ رآنِيْ وَآمَنَ بِيْ مَرَّةً، وَطُوْبَىْ لِمَنْ لَمْ يَرَنيْ وَآمَنَ بِيْ سَبع مَرَّاتٍ": أنه لا شك في سبق الصحابة لأنهم السابقون الأولون، لكنهم تعجلوا من ثوابهم ونعيمهم لُقِيَّه صلى الله عليه وسلم والتملي من جمال طلعته الشريفة، والارتضاع من
(1) انظر: "الأمالي المطلقة" لابن حجر (ص: 39).
(2)
رواه سعيد بن منصور في "السنن"(2/ 544)، والحاكم في "المستدرك"(3033).
(3)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(1/ 378)، والبخاري (2509)، ومسلم (2533)، والترمذي (3859)، كلهم بلفظ:"خير الناس قرني".
ثدي تربيته صلى الله عليه وسلم، فكرر النبي صلى الله عليه وسلم طوبى لمن آمن به ولم يَرَه سبعاً؛ ليكون ذلك جبراً لما فاتهم من الثواب المعجل المشار إليه، وترويحاً لقلوبهم عما تضرَّم فيها من نيران الشوق إلى جماله صلى الله عليه وسلم، كما أشار صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بقوله:"إِنَّ نَاسا مِنْ أُمَّتِيْ يَأْتُوْنَ بَعْدِيَ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوِ اشْترَىْ رُؤيتِيْ بِأَهْلِهِ وَمالِهِ". رواه الحاكم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه (1).
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "منْ تَشَبَّهَ بِقَوْيم فَهُوَ مِنْهُمْ"(2): فاعلم أن من أحبَّ قوماً، وتحقق بمحبتهم كان معهم على كل حال - كما علمت مما تقدم -، إلا أنه كلما كان أكثر لهم حباً كان أكثر إليهم قرباً، ولا تظهر آثار المحبة إلا بالتشبه بهم والتسويد معهم على الوجه الذي قررناه سابقاً ولاحقاً، فكلما كان العبد أكثر رغبة في التشبه بهم والكينونة معهم، كان أقربَ إليهم لأنه أَحَبُّ لهم.
وكل من أحب قوماً فهو معهم إلا أنه يكون في القرب منهم على قدر تشبهه بهم، والكينونة معهم، فأما لو تشبه بغيرهم، أو سود مع غيرهم رغبة في أحوال من تشبه بهم، أو سود معهم، فإنه لا يكون معهم بمجرد دعواه أنه يحبهم؛ فإن دعواه محبتهم كَذَّبَهُ فيها كونُه مع غيرهم، وتشبهه بمن سواهم، كما تقدم.
(1) رواه الحاكم في "المستدرك"(6991).
(2)
تقدم تخريجه.
لا جرم لأجل ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَشَبَّهَ بِغَيْرِنا"(1).
وسيأتي هذا الحديث في محله.
وقال عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما: إني ألفيت أصحابي على أمر، وإني إن خالفتهم خشيت أن لا ألحق بهم. رواه ابن أبي شيبة (2).
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: لو أن رجلاً قام بين الركن والمقام يعبد الله سبعين سنة، لبعثه الله تعالى يوم القيامة مع من يحب (3).
ثم إن من أراد أن يتشبه بقوم لمحبته إياهم؛ فإما أن يراهم ويخالطهم، أو لا؛ فإن رآهم وخالطهم كان أقرب إلى سريان طباعهم إليه ممن لم يرهم ولم يخالطهم، فله لذلك مزية ظاهرة على غيره، وقد اتفقت هذه الفضائل للصحابة رضي الله تعالى عنهم؛ رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ولقيه ومخالطته والتسويد معه وصحبته والاقتداء به، فبذلك كانوا أفضل من غيرهم من أهل دائرة المحبة، وسكان دوحة الإيمان مع ما حصل لهم من فضيلة السبق.
وقد قيل: [من الطويل]
(1) رواه الترمذي (2695) عن عمرو بن العاص، وضعفه.
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
رواه الفاكهي في "أخبار مكة"(1/ 470)، عن علي.
وَلَوْ قَبْلَ مَبْكاها بَكَيْتُ صَبابَةً
…
شَفَيْتُ غَلِيْلَ النَّفْسِ قَبْلَ التَّنَدُّمِ
وَلَكِنْ بَكَتْ قَبْلِيْ فَهَيَّجَ لِي الْبُكا
…
بُكاها فَقُلْتُ الْفَضْلُ لِلْمُتَقَدِّم (1)
وأما من جاء بعد الصحابة من أهل الإيمان ففاتهم فضيلة اللُّقِيِّ والتسويد، ولم يفتهم فضيلة المحبة والاقتداء، ولذلك سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إخوانه"(2)؛ لأن الأخ هو المشاكل في الصفة أو في الخلق أو نحو ذلك، بخلاف الصاحب؛ فإنه المخالط في العشرة.
ثم قد يكون الصاحب أخاً كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. "لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذَاً خَلِيْلاً غَيْرَ رَبِّيْ لاتَّخَذْتُ أَبا بَكْرٍ خَلِيْلاً، وَلَكِنَّ أَبا بَكْرٍ أَخِيْ وَصاحِبِيْ، وَلَقَدِ اتَّخَذَ اللهُ صاحِبَكُمْ خَلِيْلاً". رواه الشيخان عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه (3).
(1) البيتان لنصيب بن رباح، انظر:"الحيوان" للجاحظ (3/ 206).
(2)
يقصد الحديث الذي رواه الإمام أحمد في "المسند"(3/ 155) عن أنس: "وَدِدْتُ أني لَقِيتُ إخواني". قال: فقال أَصْحَابُ النبي صلى الله عليه وسلم: أَوَلَيْسَ نَحْنُ إِخْوَانَكَ؟ قال: "أَنْتُمْ أصحابي وَلَكِنْ إخواني الَّذِينَ آمَنُوا بي ولم يروني".
(3)
رواه البخاري عن ابن عباس (3456)، وعن أبي سعيد (454)، ولم يروه عن ابن مسعود، إنما رواه مسلم (2383) عن ابن مسعود.
وقال صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله تعالى عنه: "أَلا تَرْضَىْ أَنْ تَكُوْنَ مِنِّيَ بِمَنْزِلَةِ هارُوْنَ مِنْ مُوْسَى إِلَاّ أَنَّهُ لا نبِي بَعْدِيْ". رواه الشيخان - أيضا - عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه (1).
وإنما لم يحدث جميع أصحابه بالأخوة التي بينه وبينهم بمقتضى قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]؛ لإظهار مزية من حدث بأخوتهم منهم، ولئلا يفتضح أهل النفاق، وأهل القصور عن درجة الأخوة، ولئلا يتكلموا على ما يحدثهم به من ثبوت الأخوة لهم، أو يحصل لهم زهو بذلك وإعجاب، وهذا مأمون فيمن يأتي من بعدهم من إخوانه صلى الله عليه وسلم لأنه لم يذكرهم بأعيانهم، وإنما ذكر قوماً يأتون من بعده يؤمنون به إيماناً كاملاً يصيِّرهم إخوانه صلى الله عليه وسلم، فكل مؤمن يرجو هذه المزية، ويسعى على تحصيلها له.
ولما فات هؤلاء فضيلة التسويد معه، والمجالسة له، جَبَر ما فاتهم بتشوقه إليهم مع تسميتهم إخوانه، والثناء على إيمانهم، وتفضيل إيمانهم، وإعجابه به، كما روى الإمام أحمد، والطبراني، وأبو يعلى - ورجال إسنادهما ثقات إلا أبا عائذ فضعفه ابن عدي (2)، ووثقه ابن حبان (3) - عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وَدِدْتُ
(1) رواه البخاري (3503)، ومسلم (2404).
(2)
انظر: "الكامل في الضعفاء" لابن عدي (6/ 466)، واسم أبي عائذ: محتسب بن عبد الرحمن.
(3)
انظر: "الثقات" لابن حبان (7/ 528).
أنِّي لَقِيْتُ إِخْوانِي، الَّذِيْنَ آمَنُوْا بِيْ وَلَمْ يَرَوْنيْ" (1).
ولفظ أبي يعلى: "مَتَىْ ألقَىْ إِخْوانِيَ؟ " قالوا: يا رسول الله! ألسنا إخوانك؟ قال: "بَلَىْ، أَنْتُمْ أَصْحابِيْ، وإِخْوانِيَ الَّذِيْنَ آمَنُوْا بِيْ وَلَمْ يَرَورنيْ"(2).
وروى أبو يعلى، والبزار، والحاكم وقال: صحيح الإسناد، عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: كنت جالساً مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:"أَنْبِئُوْنِيْ بِأَفْضَلِ أَهْلِ الإِيْمانِ إِيْماناً"، قالوا: يا رسول الله! الملائكة عليهم السلام، قال:"هُمْ كَذَلِكَ، وَيحِقُّ لَهُمْ ذَلِكَ، وَما يَمْنَعُهُمْ وَقَدْ أَنْزَلَهُمُ اللهُ تَعَالَىْ بِالْمَنْزِلَةِ الَّتِيْ أَنْزَلَهُمْ بِهَا! " قالوا: يا رسول الله! فالشهداء الذين استشهدوا مع الأنبياء؟ قال: "هُمْ كَذَلِكَ، وَيَحِقُّ لَهُمْ ذَلِكَ، وَما يَمْنَعُهُمْ وَقَدْ أَكْرَمَهُمُ اللهُ تَعَالَىْ بِالشَّهادةِ مَعَ الأَنْبِياءِ! بَلْ غَيْرُهُمْ"، قالوا: يا رسول الله! ومن هم؟ قال: "أَقْوامٌ فِيْ أَصْلابِ الرِّجالِ يَأْتُوْنَ بَعْدِيْ يُؤْمِنُوْنَ بِيْ، وَلَمْ يَرَوْنيْ، وُيصَدِّقُوْنيْ، وَلَمْ يَرَوْنيْ، يَجِدُوْنَ الْوَرَقَ الْمُعَلَّقَ فَيَعْمَلُوْنَ بِما فِيْهِ، فَهَؤُلاءِ أَفْضَلُ أَهْلِ الإِيْمانِ إِيْمَاناً"(3).
(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(3/ 155)، والطبراني في "المعجم الأوسط"(5494).
(2)
رواه أبو يعلى في "المسند"(3390).
(3)
رواه أبو يعلى في "المسند"(160)، والبزار في "المسند" (289) وقال: وإنما رواه الثقات عن هشام عن يحيى عن زيد بن أسلم مرسلاً، والحاكم في "المستدرك"(6993).
ومعنى كونهم أفضل أهل الإيمان إيمانا: أبلغ، وأعجب - كما تقدم -.
وكما في حديث آخر ممن رواه الحسن بن عرفة، وصححه الحاكم على شرط الشيخين، وأقرَّه ابن حجر العسقلاني في "أماليه"(1)، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَيُّ الْخَلْقِ أَعْجَبُ إِلَيْكُمْ إِيْماناً؟ " قالوا: الملائكة عليهم السلام، قال:"وَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُوْنَ وَهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ! " قالوا: فالأنبياء عليهم السلام؟ قال: "وَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُوْنَ وَالْوَحْيُ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ! " قالوا: فنحن؟ قال: "وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُوْنَ وَأنا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ! أَلا إِنَّ أَعْجَبَ الْخَلْقِ إِيْماناً قَوْمٌ يَأْتُوْنَ مِنْ بَعْدِكُمْ يَجِدُوْنَ صُحُفاً فِيْها كِتابٌ يُؤْمِنُوْنَ بِما فِيْهِ"(2).
وروى البزار نحوه من حديث أنس رضي الله عنه (3)، ورجاله ثقات إلا سعيد
(1) انظر: "الأمالي المطلقة" لابن حجر (ص: 39).
(2)
لم يروه الحاكم، وإنما الذي عند الحاكم الحديث المتقدم عن عمر، قال ابن كثير في "التفسير" (1/ 43) - بعد أن ذكر الحديث بسنده -: قال أبو حاتم الرازي: المغيرة بن قيس البصري منكر الحديث، قال ابن كثير: ولكن قد روى أبو يعلى في "مسنده" وابن مردويه في "تفسيره" والحاكم في "مستدركه" من حديث محمد بن حميد - وفيه ضعف -، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله أو نحوه، وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقد روي نحوه عن أنس بن مالك مرفوعاً. قلت: رواه البيهقي في "دلائل النبوة"(6/ 538).
(3)
روى البزار في "المسند"(7294) وقال: غريب، قال الهيثمي في "مجمع=