الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَصْلٌ
ولما كان الطبع يسرق من الطبع، ويسري إليه - خصوصاً مع طول الصحبة، والمعاشرة - حتى يدعو ذلك الشخص إلى تخلقه بخلق مجاوره ومعاشره، كما ترى ذلك كثيراً في كثير من الحيوانات المتوحشة إذا أكثر مقامها بين الناس أَلِفَتْهُمْ، وفهمت إشاراتهم، ومنها ما يقبل التعليم كالببغاء، والقُمْرِيِّ من الطير، والفهد والقرد من السباع والبهائم، بل تبلغ من تآلفها بهم أن لو خرجت عنهم لاستوحشت إلى الأنس بهم، ونفرت عن الوحشة منهم، ولذلك قيل: للمجاورة تأثير، وقيل: من عاشر قوماً أربعين يوماً صار منهم.
لَمَّا كان ذلك كذلك، جاء النهي عن الإقامة في بلاد الكفار وعن مساكنتهم ومجاورتهم، والأمر بالهجرة عنهم، فروى أبو داود، والترمذي، والضياء المقدسي في "الأحاديث المختارة" عن جرير بن عبد الله رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أَنَا بَرِيْءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيْمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِيْنَ؛ لا تَراءَىْ ناراهُما"(1).
(1) رواه أبو داود (2645)، والترمذي (1604). قال العراقي في "تخريج=
وفي هذا الحديث معنى آخر، وهو أن إقامة المسلم ببلادهم توجب ذِلَّة المسلم فيهم، وإهانته بينهم؛ وقد قال رسول الله رضي الله عنه:"لا يَنْبَغِيْ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ"، قيل: وكيف يدُّل نفسه؟ قال: "يَتَعَرَّضُ مِنَ الْبَلاءِ لِمَا لا يُطِيْقُ". رواه الإمام أحمد، وابن ماجه عن حذيفة رضي الله عنه، والطبراني - بسند جيد - عن ابن عمر رضي الله عنهما (1).
وروى الطبراني - أيضاً - في "معجمه الكبير" عن سَمُرة بن جندب رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تُساكِنُوْهُمْ - يَعْنِيْ: الْمُشْرِكِيْنَ -، وَلا تُجامِعُوْهُمْ؛ فَمَنْ ساكَنهمْ، أَوْ جامَعَهُمْ، فَهُوَ مِثْلُهُم"(2).
ورواه أبو داود بلفظ: "مَنْ جامَعَ الْمُشْرِكَ، وَسَكَنَ مَعَهُ، فَهُوَ مِثْلُهُ"(3).
وقال جرير بن عبد الله البجلي رضي الله تعالى عنه: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم،
= أحاديث الإحياء" (1/ 174): ورواه النسائي مرسلاً وقال البخاري: الصحيح أنه مرسل.
(1)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(5/ 405)، وابن ماجه (4016) عن حذيفة، ورواه الطبراني في "المعجم الكبير"(13507)، و"المعجم الأوسط"(5357) عن ابن عمر، ورواه أيضاً الترمذي (2254) عن حذيفة وقال: هذا حديث حسن غريب.
(2)
رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(6905)، ورواه أيضاً الترمذي (1605).
(3)
رواه أبو داود (2787).
وعلى فراق المشرك. رواه النسائي (1).
وله - أيضاً - نحوه عن أبي نجيلة البجلي، [عنه](2).
وقوله: "وعلى فراق المشرك" شامل لمفارقته في الدار، فتجب الهجرة على من لم يقدر على إظهار الدِّيْن من بلاد الشرك إلى ديار الإسلام.
ولقد قطع الله الموالاة بين المؤمن المهاجر، والمؤمن الذي لم يهاجر؛ إذ كانوا يتوارثون بالهجرة والنصرة؛ تأكيداً لوجوب الهجرة على المؤمنين من بلاد المشركين، فقال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72].
وروى الإمام أحمد، وغيره - وصححه الحاكم - عن جرير بن عبد الله صلى الله عليه وسلم قال: المهاجرون بعضهم أولياء بعض في الدنيا والآخرة (3).
والمراد بالولاية في هذا الحديث: المناصرة والتوادُّ والتحالل.
وذلك أن المهاجر لما هاجر من أرض قومه وهم على كفرهم
(1) رواه النسائي (4175)، والإمام أحمد في "المسند"(4/ 358).
(2)
رواه النسائي (4177).
(3)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(4/ 363)، والحاكم في "المستدرك" (6978) بلفظ: "المهاجرون والأنصار بعضهم أولياء بعض
…
" وصححه، ووافقه الذهبي.
وفارقهم، انقطعت الوصلة بينه وبينهم، واتصل بمن هاجر إليهم، وهذا بعينه هو السبب في اتحاد المهاجرين، والأنصار حتى جمعهم الله تعالى في كتابه، وقال في الأنصار:{يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} [الحشر: 9]؛ وكيف لا يحبون من هاجر إليهم وقد رغب عن قومه إليهم!
والهجرة من شأن الأنبياء عليهم السلام، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:"لَوْلا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرأً مِنَ الأَنْصارِ، وَلَوْ أَنَّ النَاسَ أَخَذُوْا وادِياً وَشِعْباً، وَسَلَكَتِ الأَنْصارُ وادِيًا وَشِعْبًا، لَسَلَكْتُ وادِيَ الأَنْصارِ وَشِعْبَهُمْ". رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه (1).
ولقد هاجر محمد صلى الله عليه وسلم، وأمر أصحابه بالهجرة، وهاجر قبله أبوه إبراهيم عليه السلام وقال:{إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} [العنكبوت: 26]، وقال:{وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ} [مريم: 48، 49] الآية.
وهاجر معه ابن أخيه لوط عليهما السلام، وهاجر موسى عليه السلام من مصر إلى مَدْين، وهذه سنة الأنبياء والصالحين، ولو شاؤوا لدعَوا على أهل الشرك فهلَكوا، أو سلِموا هم من أذاهم، ولم يهاجروا من أوطانهم، ولكنهم فعلوا ذلك تشريعاً لأتباعهم؛ إذ لا يمكن كلاًّ من الأتباع ذلك، ولو أقاموا بين المشركين وآذوهم، لم يطيقوا، فربما
(1) رواه البخاري (6817) عن أبي هريرة، ومسلم (1059) عن أنس.
فتنوهم، أو أهلكوهم، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ أَقامَ مَعَ الْمُشْرِكِيْنَ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ". رواه الطبراني في "معجمه الكبير"، والبيهقي في "سننه" عن جرير رضي الله عنه (1).
وهو - أعني: حديث جرير المار - شا مل - أيضاً - لمفارقة المشركين في الخلق والوصف والفعل، فهو متضمن النهي عن التشبه بالمشرك - أيضاً -، بل الحذر من التشبه بالمشركين هو السبب في نهي المسلم عن مساكنتهم، وأمره بمفارقتهم؛ فإن كثرة الاختلاط بالمشركين توجب ائتلاف من يخالطهم لأحوالهم، وتفضي به إلى التشبه بهم ولو في شيء ما من أحوالهم وأفعالهم، فتعينت مفارقتهم حذراً من سريان الطبع إلى الطبع - كما ذكرناه -.
وكذلك ورد: "مَنْ أكثَرَ سَوادَ قَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ"(2).
وروى الخطيب البغدادي في "تاريخه" عن أنس رضي الله تعالى
(1) رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(2261)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(9/ 12)، وفي "شعب الإيمان"(9373)، قال ابن أبي حاتم في "علل الحديث" (1/ 315): قال أَبي: الكوفيون سوى حجاج لا يسندونه، ومرسل أشبه.
(2)
رواه الديلمي في "مسند الفردوس"(5621) عن ابن مسعود، قال الحافظ في "فتح الباري" (13/ 38): أخرجه أبو يعلى وفيه قصة لابن مسعود، وله شاهد عن أبي ذر في "الزهد" لابن المبارك غير مرفوع. قلت: الشاهد رواه ابن المبارك في "الزهد"(2/ 12)، وسيأتي.
عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سَوَّدَ مَعَ قَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ، وَمَنْ رَوَّعَ مُسْلِماً لِرِضَىْ سُلْطانٍ جِيْءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ مَعَهُ"(1).
وفي النهي عن تكثير سواد الكفار والفسَّاق مبالغة في التنفير عنهم وعن مخالطتهم؛ لأن ذلك صادق على الوقوف في سوادهم مرة واحدة.
وفي "صحيح البخاري" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن ناساً من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأتي السهم يرمى به فيصيب أحدهم فيقتله، أو يضرب فيقتل، فأنزل الله - تعالى ذكره - فيهم:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 97](2).
فانظر كيف استوجب هؤلاء هذا الوعيد الشديد بمجرد تكثير سواد المشركين، ووقوفهم معهم مع اعتذارهم باستضعافهم واستهانتهم لمَّا كانت الهجرة ممكنة لهم، والمفارقة سائغة منهم، على أنه لم يثبت أنهم ساعدوا المشركين في قتالهم إلا بمجرد الوقوف معهم، وتكثير سوادهم، فما ظنك بمن يتشبه بالمشركين والفاسقين!
وممَّا يدل على أن مجرد تكثير سواد الفاسقين موجب للحاق بهم:
(1) رواه الخطيب في "تاريخ بغداد"(10/ 40)، ورواه أيضاً ابن أبي عاصم في "السنة"(2/ 627).
(2)
رواه البخاري (4569).
ما رواه الطبراني - ورجاله رجال الصحيح إلا ابن لَهيعة، وحديثه لا بأس به - عن خَرَشَة بن الحُرِّ - وكان من الصحابة رضي الله تعالى عنهم -: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يَشْهَدْ أَحَدُكُمْ قَتِيْلاً، فَعَسَىْ أَنْ يُقْتَلَ مَظْلُوْماً، فتَنْزِلَ السَّخْطَةُ عَلَيْهِمْ، فَتُصِيْبَهُ مَعَهُمْ"(1).
فليس في هذا الحديث أن السخطة أصابته معهم إلا من حيث إنه شهد معهم قتل القتيل، وكثر سوادهم، ولم يباشر القتل؛ فما ظنك بمن يباشر القتل أو غيره من الفسوق، ويشارك أهله فيه، ويتشبه بهم!
ومن ثَمَّ جاء النهي عن مصاحبة الفسَّاق ومجالستهم.
وقد روى الإمام أحمد، وأبو داود، والحاكم وصححه، عن عمر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تُجَالِسُوْا أَهْلَ القَدَرِ ولا تُفَاتِحُوهُمْ"(2).
وقال عمر رضي الله عنه في كلام له رواه عنه ابن أبي شيبة في "المصنف"، وأبو نعيم في "الحلية"، والأصفهاني في "الترغيب"، وغيرهم:
(1) رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(4181)، ورواه الإمام أحمد في "المسند"(4/ 167).
(2)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(1/ 30)، وأبو داود (4710)، والحاكم في "المستدرك" (287). قال ابن مفلح في "الآداب الشرعية" (1/ 250): رواه أحمد وإسناده جيد، وفيه حكيم بن شريك الهذلي تفرد عنه عطاء بن دينار ووثقه ابن حبان.
ولا تصحب الفاجر فتتعلم من فجوره (1).
وقال علي رضي الله تعالى عنه، فيما رواه عنه الخطابي في "العزلة"، وأبو عبد الرحمن السلمي في "آداب الصحبة":[من الهزج]
وَلا تَصْحَبْ أَخَا الْجَهْلِ
…
وَإِيَّاكَ وإيَّاهُ
فَكَمْ مِنْ جاهِلٍ أَرْدَىْ
…
حَلِيْماً حِيْنَ واساهُ
يُقَاسُ الْمَرْءُ بِالْمَرْءِ
…
إِذا ما هُوَ ماشاهُ
وَلِلْقَلْبِ عَلَىْ الْقَلْبِ
…
دليْلٌ حِيْنَ يَلْقاهُ
وَلِلْمَرْءِ عَلَىْ الْمَرْءِ
…
مَقايِيْسٌ وَأَشْباهُ (2)
وروى الإمام عبد الله بن المبارك في "الزهد"، والامام أحمد، وأبو
داود، والترمذي، وابن حبَّان في "صحيحه"، والحاكم في "مستدركه"
عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تُصاحِبْ إِلَاّ مُؤْمِناً، وَلا يَأْكُلْ طعامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ"(3).
(1) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(34476)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء"(1/ 55).
(2)
انظر: "العزلة" للخطابي (ص: 49)، و"آداب الصحبة" لأبي عبد الرحمن السلمي (ص: 43).
(3)
رواه عبد الله بن المبارك في "الزهد"(1/ 124)، والإمام أحمد في "المسند"(3/ 38)، وأبو داود (4832)، والترمذي (2395) وحسنه، وابن حبان في "صحيحه"(554)، والحاكم في "المستدرك"(7169).
وروى أبو داود، والترمذي وحسنه، وابن ماجه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الْمَرْءُ عَلَىْ دِيْنِ خَلِيْلِهِ"(1).
إنَّ مآلهما إلى التوافق في الدِّين بسبب سريان طبع أحدهما إلى الآخر، ثم من كان منهما متمكناً في حاله غلب على الآخر؛ فإن كان حال الفاسق أمكن في فسقه من حال الصالح العدل في صلاحه وعدله غلب الفسق عليهما، وإن كان حال الصالح أمكن في صلاحه من حال الفاسق في فسقه وفجوره غلب الصلاح عليهما، ولكن يتعين على ذلك العدل الصالح أن لا يصحب ذلك الفاسق إلا إذا تحقق بغلبة حاله.
ثم هو في ذلك على خطر عظيم لاحتمال غلبة حال الفاجر من حيث خفي ذلك عليه - خصوصاً في هذه الأعصار المتأخرة -، فإن الفجور غالب على الناس، والشر منتشر فيهم، وبضاعة الصلاح مُزْجاة بينهم، وقد قلَّ راغبوها، وعزَّ طالبوها، فلا تكاد تجد للتقوى طالباً، ولا للحق ناصراً، مع كثرة أنواع الباطل والفجور، وفرط الرغبة في أنواع اللهو والغرور.
فإن فرض أن أحداً تحقق بقُوَّته في الدين، وأيقن بالتمكين، فلا بأس إذا صحب أهل الفجرة والشر رجاءَ نقلهم إلى الخير والبر، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجالس المنافقين، ويصاحبهم مع علمه بأحوالهم، وكذلك
(1) رواه أبو داود (4833)، والترمذي (2378) وقال: حديث حسن غريب، وصحح إسناده النووي في "رياض الصالحين" (ص: 58).
لم تزل الأنبياء عليهم السلام يصابرون كفار أممهم ومنافقيها حتى يتحققوا عدم إيمانهم.
وقد روي: أن يحيى وعيسى عليهما السلام كانا يسوحان في البرية جميعًا، فإذا دخلا المدن نزل عيسى على شرار الناس رغبة في هدايتهم، ونزل يحيى على خيار الناس رغبة في صحبتهم.
وقد رواه الإمام أحمد في "الزهد" على وجه آخر عن سفيان بن عيينة قال: كان عيسى ويحيى عليهما السلام يأتيان القرية، فيسأل عيسى عن شرار أهلها، ويسأل يحيى عن خيار أهلها، فقال: لِمَ تنزل على شرار الناس؟ فقال: إنما أنا طبيب أداوي المرضى (1).
وأما من تحركت روحه، وتنبهت خليقته من أهل التخليط إلى الرغبة في التوبة، والإقلاع عن الحَوبة، فدعاه ذلك إلى التفتيش عن الصالحين، والاجتهاد في طلب المتقين، فهذا يتعين عليه إن ظفر بأحد منهم أن يحرص على موافقته ومرافقته، ولا يفرط في صحبته ومجالسته، فعسى أن تسري إليه أخلاقه وأفعاله، وتتفق له أوصافه وأعماله، وعلى الآخر أن يُقبل عليه، ويستوصي به خيراً؛ لأنه من أحباب الله تعالى؛ إذ يقول عز وجل:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)} [البقرة: 222].
وقال عمر رضي الله تعالى عنه: جالسوا التوابين؛ فإنهم أرق شيء
(1) رواه الإمام أحمد في "الزهد"(ص: 68)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء"(7/ 274).
أفئدة. رواه ابن أبي شيبة، وغيره (1).
وروى ابن المبارك في "الزهد" عن الحسن رحمه الله تعالى قال: المؤمن شُعْبَة من المؤمن؛ إن به حاجته، إن به علته، إنه يكلمه، يفرح لفرحه، ويحزن لحزنه، وهو مرآة أخيه، إن رأى منه ما لا يعجبه سدَّده وقوَّمه ووجَّهه، وخاطبه في السر والعلانية، إن لك من خليلك نصيبًا، إن لك نصيبا من ذِكْرِ من أحببت، فتَنَقَّ الأصحابَ والإخوان والمجالس (2).
وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن معاوية بن قرة قال: قال لقمان عليه السلام لابنه: يا بُنَيَّ! جالسِ الصالحين من عباد الله؛ فإنك تصيب من مجالستهم خيراً، ولعله أن يكون آخر ذلك أن تنزل عليهم الرحمة فتصيبك معهم.
يا بُنَيَّ! لا تجالس الأشرار؛ فإنك لا تصيب من مجالستهم خيراً، ولعله في آخر ذلك أن تنزل عليهم عقوبةٌ فتصيبك معهم (3).
وقد أشار لقمان - الذي امتنَّ الله عليه بالحكمة، ونوَّه باسمه في كتابه العزيز - إلى أن تكثير السواد لا بد له من أثر - خير أو شر -، وأقل
(1) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(34465)، والإمام أحمد في "الزهد" (ص: 120).
(2)
رواه ابن المبارك في "الزهد"(1/ 232).
(3)
رواه الإمام أحمد في "الزهد"(ص: 106).
ما في ذلك أن تكثير سواد أهل الخير يوجب المساواة معهم في الرحمة، وتكثير سواد أهل الشر يوجب المساواة معهم في العقوبة، ولو لم يكن فيه إلا ذلك لكفى.
وروى ابن المبارك في "الزهد" عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم: أن أبا ذر رضي الله تعالى عنه دعي إلى وليمة، فلما حضر إذا هو بصوت، فرجع، فقيل له: ألا تدخل؟ فقال: أسمع صوتاً، ومن كَثَّرَ سواداً كان من أهله، ومن رضي عملاً كان شريك مَن عمله (1).
وروى البيهقي في "الشُّعَب" عن مكحول قال: إياك ورفيقَ السوء؛ فإن الشر للشر خُلِقَ (2).
وروى أبو نعيم في "الحلية" عن يحيى بن آدم قال: كان الثوري - يعني: سفيان - يتمثل: [من الكامل]
اُبْلُ الرِّجالَ إِذا أَرَدْتَ إِخاهُمُ
…
وَتَوسَّمَنَ أُمُوْرَهُمْ وَتَفَقَّدِ
فَإِذا وَجَدْتَ أَخا الأَمانَةِ وَالتُّقَىْ
…
فَبِهِ الْيَدَيْنِ قَرِيْرَ عَيْنٍ فَاشْدُدِ
(1) رواه ابن المبارك في "الزهد"(2/ 12).
(2)
رواه البيهقي في "شعب الإيمان"(9453)، والإمام أحمد في "الزهد" (ص: 49).
وَدعِ التَّخَشُّعَ وَالتَّذَلُّلَ تَبْتَغِي
…
قُرْبَ امْرِئٍ إِنْ تَدْنُ مِنْهُ يَبْعُدِ (1)(2)
وفي "الصحيحين" عن أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّمَا مَثَلُ الْجَلِيْسِ الصَّالح وَجَلِيْسِ السُّوْءِ؛ كَحامِلِ الْمِسْكِ وَنافِخ الْكِيْرِ؛ فَحامِلُ الْمِسْكِ إِمَّا أَنْ يَحْذِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتاعَ مِنْهُ، وإمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ ريحاً طَيِّبَةً، وَنافخُ الْكِيْرِ إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثَوْبَكَ، وإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ ريْحاً مُنْتِنَةً"(3).
قوله صلى الله عليه وسلم: "فَحامِلُ الْمِسْكِ إِمَّا أَنْ يَحْذِيَكَ" - بالحاء المهملة، والذال المعجمة، وأوله مفتوح -: أن يعطيك.
هذا مثل الجليس الصالح؛ فإنه إما أن يعطيك من فوائده، ويهديك إلى مقاصده، وإمَّا أن تأخذ أنت من أخلاقه، وَيسري إليك من طباعه.
ولذلك قال أبو محمد الجُريري رحمه الله تعالى: كمال الرجل في ثلاثة؛ في الغربة والصحبة والفطنة، أما الغربة فلتذليل النفس، وأما
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(6/ 376)، وابن أبي الدنيا في "الإخوان" (ص: 82).
(2)
الأبيات للمقنع الكندي، انظر:"روضة العقلاء ونزهة الفضلاء" لابن حبان البستي (ص: 104)، و"الباب الآداب" لأسامة بن منقذ (1/ 109).
(3)
رواه البخاري (5214)، ومسلم (2628).
الصحبة فليتخلق بأخلاق الرجال، وأما الفطنة فللتمييز (1).
"وإِمَّا أَنْ تَجِدَ عِنْده رِيْحاً طَيِّبةً" من حكمة تجدها عنده، أو رحمة تنزل عليه وأنت معه.
وقد قلت في المعنى: [من الوافر]
أَلا خَيْرُ الأُمُوْرِ لِكُلِّ عَبْدٍ
…
يُحاوِلُ أَنْ يَنالَ نَدَىً عَظِيْماً
جَلِيْسٌ صالحٌ يُحْذِيْهِ عِلْماً
…
وَيهْدِيْهِ الصِّراطَ الْمُسْتَقِيْما
وُيكْسِبُهُ الْمَكارِمَ وَالْمَعالِيْ
…
فَيَغْدُوْ فِيْ خَلائِقِهِ كَرِيْما
وُيظْفِرُهُ وإِنْ لَمْ يَحْوِ فَضْلاً
…
بِرَحْمَةِ رَبِّهِ الْبرِّ الرَّحِيْما
وقوله صلى الله عليه وسلم: "وَنافخ الْكِيْرِ إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيابَكَ
…
إلى آخره" هذا مثل جليس السوء؛ فإما يتلف عليك دينك، ويدنِّس منك عرضك، وإما أن تجد منه رائحة منتنة من غيبة أو نميمة أو نحو ذلك، أو من سخط ينزل عليه وأنت عنده، أو عذاب يأخذه وأنت معه، فمن يجالس العبد السوء فقد تعرض لذلك كله.
(1) انظر: "آداب الصحبة" للسلمي (ص: 72).
وروى مسلم عن زينب بنت جحش رضي الله عنها: أنها قالت في حديث: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: "نعمْ، إِذا كَثُرَ الْخَبَثُ"(1).
وروى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذا أَنْزَلَ اللهُ بِقَوْمٍ عَذاباً أَصابَ الْعَذابُ مَنْ كانَ فِيْهِمْ، ثُمَّ بُعِثُوْا عَلَىْ أَعْمالِهِمْ"(2).
ومصداق ذلك في كتاب الله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25].
وبالجملة فلا يميل أحد إلى أحد، ولا يؤثر مجالسته ومخاللته ومرافقته ومشاكلته، إلا لتنبه روح كل منهما إلى ما تنبهت له روح الآخر، إلا أن تلك المناسبة الكامنة في أنفسهما ربما حال بينها وبين ظهورها إلى الحس والمشاهدة مباعدة في الدار، أو مخالفة طباع كل منهما لطباع الآخر من جهة أخرى، أو نحو ذلك، فلا يؤثر في ظهور تلك المناسبة الكامنة شيء مثل المجالسة وكثرة الاجتماع والصحبة، فإذا كانت المجالسة والصحبة ناشئة عن تلك المناسبة طالت الصحبة، وتأكدت المحبة، وإن (3) لم تكن مناسبة باطنة، أو كانت لكن عارضتها مناسبة
(1) رواه البخاري (3168)، ومسلم (2880).
(2)
رواه البخاري (6691)، ومسلم (2879).
(3)
في "أ": (وإلا).
أخرى لثالث، وغلبت عليها، لم تدم هذه الصحبة، ولا تثبت هذه المحبة.
ولذلك قال بعض الحكماء: عماد المحبة المشاكلة، وكل وِدٍّ مع غير تشاكل فهو سريع التصرم (1).
وقال آخر: الأشكال لا تفترق، والأضداد لا تتفق (2).
وروى الخطابي في "العزلة" عن ابن الأعرابي قال: العرب تقول: أنت تَئِق، وأنا مَئِق، فكيف نتفق؟ (3) انتهى.
والتئق - بالتاء المثناة فوق والقاف -: الممتلئ شباباً، ونشاطاً.
والمئق: الشيخ.
وكلاهما على وزن كتف.
أو التئق: السريع إلى الشر.
والمئق: الشديد الغضب.
وقال الإمام أبو طالب المكي: إذا اصطحب اثنان برهة من الزمان، ولم يتشاكلا في الحال، فلا بد وأن يفترقا (4).
قال حجة الإسلام: وهذا معنى خفي تَفطَّن له بعض الشعراء حتى قال: [من السريع]
(1) انظر: "العزلة" للخطابي (ص: 52).
(2)
انظر: "أدب الدنيا والدين" للماوردي (ص: 202).
(3)
انظر: "العزلة" للخطابي (ص: 52).
(4)
انظر: "قوت القلوب" للمكي (2/ 392).
وَقائِلٍ كَيْفَ تَفارَقْتُما
…
فَقُلْتُ قَوْلاً فِيْهِ إِنْصافُ
لَمْ يَكُ مِنْ شَكْلِيْ فَفارَقْتُهُ
…
وَالنَّاسُ أَشْكالٌ وَأُلَاّفُ (1)
قلت: وقد ألممت بهذا المعنى في أبياتنا المتقدمة قبل هذا الفصل.
والبيتان أنشدهما الخطابي في "العزلة"(2) عن بعض أهل الأدب بعد أن أسند عن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما قال: لا يقول رجل في رجل خيراً لا يعلمه إلا يوشك أن يقول فيه شراً لا يعلمه، ولا يصطحب اثنان على غير طاعة الله تعالى إلا يوشك أن يفترقا على غير طاعة الله تعالى (3).
وروى الدينوري في "مجالسته" عن الشعبي قال: يقال: إن لله ملكاً موكلاً بجمع الأشكال بعضها إلى بعض (4).
وأنشد الخطابي في كتاب "العزلة" لعبيد الله بن عبد الله بن عتبة رحمه الله تعالى: [من الطويل]
(1) انظر "إحياء علوم الدين" للغزالي (2/ 162)، و"قوت القلوب" للمكي (2/ 392).
(2)
انظر: "العزلة" للخطابي (ص: 52).
(3)
رواه الخطابي في "العزلة"(ص: 51).
(4)
رواه الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم"(ص: 216).
تَبَيَّنْ وَكُنْ مِثْلِي أَوِ ابْتَغِ صاحِباً
…
كَمِثْلِكَ إِنِّيْ مُبْتَني صاحِباً مِثْلِيْ
وَلَنْ يَلْبَثَ الأَقْرانُ أَنْ يَتَفَرَّقُوْا
…
إِذا لَمْ يُؤَلَّفْ رُوحُ شَكْلٍ إِلَىْ شَكْلِ (1)
ونقل الماوردي في كتاب "أدب الدين والدنيا" عن علي رضي الله عنه: أنه قال: الصاحب مُنَاسِب.
قال: وقال بعض الحكماء: اعرف أخاك بأخيه قبلك.
وقال بعض الأدباء: يظن بالمرء ما ظن بقرينه.
وقال ابن مسعود: ما شيء أدل على شيء - ولا الدخان على النار - من الصاحب على الصاحب (2).
وقال أيضاً: اعتبروا الأرض بأسمائها، والصاحب بالصاحب (3).
قال ابن حجر العسقلاني في "أماليه" - بعد أن أسند هذا الأثر عن ابن مسعود - رضي الله تعالى عنه: رواه مُسدَّد في "مسنده"، قال: وقد وجدته في شعر قديم مات قائله قبل الهجرة (4).
(1) انظر: "العزلة" للخطابي (ص: 52).
(2)
انظر: "أدب الدنيا والدين" للماوردي (ص: 206).
(3)
رواه ابن عدي في "الكامل في الضعفاء"(2/ 163)، قال الحافظ ابن حجر في "الأمالي المطلقة" (ص: 152): هذا موقوف صحيح.
(4)
انظر: "الأمالي المطلقة" لابن حجر (ص: 152).
ثم أسند عن أبي العباس المُبرِّد، قال: بلغني أنه لما خرج خلف ابن خليفة الكوفي لقيه أعرابي فقال: ما تصنع هاهنا؟ قال: أو ما سمعت قول قيس بن الخطيم: [من السريع]
يَا إيُّهَا السَّائِلُ عَمَّا مَضَىْ
…
مِنْ حالِ هَذا الزَّمَنِ الذَّاهِبِ
إِنْ كُنْتَ تَبْغِيْ الأَمْرَ عَنْ صِحَّةٍ
…
وَشاهِداً يُخْبِرُ عَنْ غَائِب
فَاختَبِرِ الأَرْضَ بِأَسْمائِها
…
وَاعْتَبِرِ الصَّاحِبَ بِالصَّاحِبِ (1)
وقال عدي بن زيد: [من الطويل]
عَنِ الْمَرْءِ لا تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِيْنِهِ
…
فَكُلُّ قَرِيْنٍ بِالْمُقارَنِ يَقْتَدِيْ
إِذا كُنْتَ فِيْ قَوْمٍ فَصاحِبْ خِيارَهُمْ
…
وَلا تَصْحَبِ الأَرْدَىْ فترْدَىْ مَعَ الرَّدِيْ (2)
(1) انظر: "مكارم الأخلاق" للخرائطي (ص: 158)، و"الأمالي المطلقة" لابن حجر (ص: 152).
(2)
انظر: "جمهرة أشعار العرب" لأبي زيد القرشي (ص: 153)، و"العقد الفريد" لابن عبد ربه (2/ 216).