الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والانقياد له، والاقتداء به (1)، ولو أدركته الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام لوجب عليهم نصره، والإيمان به لما أخذ الله عليهم من الميثاق بذلك.
فإذا علمَتْ هذه الأمة ذلك إجمالاً، ونظرت في مفرداته تفصيلاً، عظم فضل الله عليهم، وكبرت نعمه عندهم، فانبعثوا للشكر، فاستوجبوا المزيد، ولا يزالون في الترقي لأن علومهم لا تنتهي، وإذا زادت علومهم، ومعارفهم ازدادت أعمالهم وطاعاتهم، ونما شكرهم، وتوالى ذكرهم، وكانوا حَمَّادين شَكَّارين ذَكَّارين جَأَّارين، فتمت بذلك نعمة الله عليهم، فتأمل ذلك؛ فإنه نفيس جداً والله سبحانه وتعالى أعلم!
9 - ومنها - وهو مقصودنا من ذكر هذا الباب في هذا الكتاب
-: أن هذه الأمة حيث تأخرت أيامهم، وانكشفت لهم علوم الأمم المتقدمة وأخبارهم، وسنن الأنبياء السالفة وأحوالهم، واستبان لهم الفرق بين أحوال المؤمنين والمقربين، وأحوال الكافرين والمبعدين، وما أعد الله تعالى للطائفة الأولى من الجزاء الحسن، والثواب الجميل، وما أعد الله تعالى للطائفة الأخرى من الجزاء السوء، والعقاب الوبيل، لا جرم انبعثت قلوبهم، وتحركت أرواحهم، وانشرحت صدورهم، واطمأنت نفوسهم للتشبه بأولئك، وانقبضت وقعدت وضاقت وأَنِفَتْ من
(1) يشير إلى الحديث الذي رواه الإمام أحمد في "مسنده"(3/ 387) عن جابر مرفوعاً: "لو أن موسى كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني".
التشبه بهؤلاء، وقد وقعت الإشارة إلى هذا المعنى في قوله تعالى:{وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام: 55]؛ أي: وسبيل المؤمنين؛ على حد قوله: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81]؛ أي: والبرد.
وقوله: {وَلِتَسْتَبِينَ} [الأنعام: 55] متعلق بفعل محذوف تقديره: وفعلنا ذلك لتستبين.
وقيل: هو معطوف على محذوف تقديره: ليظهر الحق، ولتستبين سبيل المجرمين؛ أي: وسبيل المؤمنين، كما عرفت.
أو يقال: إذا استبان سبيل المجرمين فقد استبان سبيل المؤمنين بطريق اللزوم.
وفي الاقتصار على ذكر استبانة سبيل المجرمين مع أن استبانة سبيل المؤمنين أمر مقصود - أيضا -، إشارة إلى الاهتمام باستبانة سبيل المجرمين أكثر من استبانة سبيل المؤمنين؛ لأن تجنب المحظور أعظم، وأشد من فعل المأمور به؛ إذ للنفس وَلَع بما منعت منه، فاجتنابه أشد عليها من فعل ما أمرت به، ومن ثَمَّ جاء في الحديث:"اتَّقِ الْمَحارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ"(1).
(1) رواه الترمذي (2305) عن أبي هريرة، وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث جعفر بن سليمان، والحسن لم يسمع عن أبي هريرة شيئاً، هكذا رُوي عن أيوب ويونس بن عبيد وعلي بن زيد، قالوا: لم يسمع =
وقوله: {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام: 55] هو في قراءة أبي جعفر، ونافع بالتاء المثناة فوق، وفتح اللام من (سبيل) - على خطاب النبي صلى الله عليه وسلم.
وقرأ أبو عمرو، وابن عامر، وابن كثير، وعاصم، ويعقوب كذلك، إلا أنهم ضموا اللام على إسناد الفعل إلى (سبيل) مع تأنيثه.
وقرأ الباقون بالياء المثناة تحت، وضم اللام على تذكير السبيل، وهما وجهان جاريان في كلام العرب.
ومعنى الآية - والله سبحانه وتعالى أعلم -: أننا نفصل الآيات في كتابنا العزيز لتستظهر، أو ليظهر لك يا محمد سبيل المؤمنين، فتتبعها أنت وأمتك، وسبيل المجرمين، فتتجنبها أنت وأمتك.
ويوضح هذا المعنى قوله تعالى بعد ذلك: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56)} [الأنعام: 56].
أي: لا أتبع أهواءكم، ولا أسلك سبيلكم؛ لأني إن فعلت ذلك، وقد تبينت لي الآيات، واستبنت بها سبيل المجرمين الذين أنتم منهم = فأنا ضال حينئذ، وما أنا من المهتدين الذين استَبَنْتُ أحوالهَم وسبلَهم
= الحسن من أبي هريرة، وروى أبو عبيدة الناجي عن الحسن هذا الحديث قوله، ولم يذكر فيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه الإمام أحمد في "المسند"(2/ 310).
بما تبين لي من سبيل المجرمين وأحوالهم؛ لأنها على الضد من أحوالهم.
وقال الله تعالى بعد ذلك: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ} [الأنعام: 57] الآية.
أي: إني على يقين تبين لي من ربي، وحجة واضحة، ودليل قوي ينتهي بي إلى الحق، ويسلك بي الصراط المستقيم، لا على هوى وابتداع، فكيف أتبع سبيلكم، وقد علمت أنها كلها أهواء بما تبين لي من الآيات التي استبنت بها طريق كل فريق، وعرفت بها أحوال أهل الخذلان، وأحوال أهل التوفيق؟
قال القرطبي: وفي معنى هذه الآية ما أنشده مصعب بن عبد الله ابن الزبير لنفسه - وكان شاعراً محسناً -:
أأقْعُدُ بَعْدَما رَجَفَتْ عِظَامِيْ
إلى آخر الأبيات الآتية.
قلت: بل هذه الأبيات أنشدها مصعب متمثلاً، ولم ينشدها لنفسه فيما أخرجه اللالكائي في كتاب "السنة" عن مصعب - يعني: الزبيري رحمه الله تعالى - قال: ناظرني إسحاق بن أبي إسرائيل، فقال: لا أقول كذا؛ يعني: في القرآن، فناظرته، فقال: لم أقل على الشك، ولكن أسكت كما سكت القوم قبلي، قال: فأنشدته هذا الشعر، فأعجبه، وكتبه، قال: وهو شعر قيل من "أكثر من عشرين سنة: [من الوافر]
أَأَقْعُدُ بَعْدَما رَجَفَتْ عِظَامِيْ
…
وَكانَ الْمَوْتُ أَقْرَبَ مَا يَلِيْنيْ
أُجادِلُ كُلَّ مُعْتَرِضٍ خَصِيْمٍ
…
فَأَجْعَلُ دِيْنَهُ غَرَضاً لِدِيْنيْ
وَأترُكُ ما عَلِمْتُ لِرَأْيِ غَيْرِيْ
…
وَلَيْسَ الرَّأْيُ كَالْعِلْمِ الْيَقِيْنِ
وَمَا أَناَ وَالْخُصُوْمَةُ وَهْيَ لَبْسٌ
…
تُصَرِّفُ فِيْ الشّمالِ وَفِيْ الْيَمِيْنِ
وَقَدْ سُنَّتْ لَنَا سُنَن قِوام
…
يَلِجْنَ بِكُلِّ فَجٍّ أَوْ وَجِيْنِ
وَكانَ الْحَقُّ لَيْسَ بِهِ خَفاءٌ
…
أَغَرَّ كَغُرَّةِ الْفَلَقِ الْمُبِيْنِ
وَما عِوَضٌ لَنا مِنْهاجُ جَهْمٍ
…
بِمِنْهاجِ ابْنِ آمِنَةَ الأَمِيْنِ
فَأَمَّا ما عَلِمْتُ فَقَدْ كَفانِيْ
…
وَأَمَّا ما جَهِلْتُ فَجَنِّبوْنيْ
فَلَسْتُ بِمُكْفِرٍ أَحَداً يُصِلِّيْ
…
وَلَمْ أَجْرِمْكُمُ أَنْ تُكْفِرُوْنيْ
وَكُنَّا إِخْوَة نَرْمِيْ جَمِيْعَاً
…
وَنَرْمِيْ كُلَّ مُرْتابٍ ظَنِيْنِ
فَما بَرِحَ التَّكَلُّفُ أَنْ تَشاءَتْ
…
بِشَأنٍ واحِدٍ فِرَقُ الشُّؤُوْنِ
فَأَوْشَكَ أَنْ يَخِرَّ عِمَادُ بَيتٍ
…
وَينْقَطِعَ الْقَرِيْنُ مِنَ الْقَرِيْنِ (1)
وهذه الأبيات أتم مما ذكره القرطبي في "تفسيره"(2)، وهي فائدة
(1) انظر: "اعتقاد أهل السنة" للالكائي (1/ 148)، و"تفسير الطبري"(6/ 483)، وقال: أنشده مصعب بن عبد الله بن الزبير لنفسه وكان شاعراً محسناً.
(2)
انظر: "تفسير القرطبي"(6/ 438).
زائدة أحببت أن لا يخلو كتابي منها لأنها لا تكاد تعدو مطالبه ومقاصده.
ومما يلائم ما نحن بصدده في هذا المقام قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النساء: 26].
فقد أراد الله تعالى لإنزال القرآن أن يبين لنا سبيل المتقدمين، ويهدينا سنن الماضين، وما ذاك إلا لنأخذ في مسالك المؤمنين، ونتنزه عن مهالك المشركين، فنتشبه بالمحسنين، ولا نتشبه بالمسيئين، فإنا إذا تشبهنا بالمحسنين من الأمم السالفين فقد استفدنا بتشبهنا بهم فوائد؛ منها حصول ثواب حسن الاقتداء بهم والاتباع، وظفرنا بمحبة الصالحين منهم، وتحرك أرواحنا لما تحركت له أرواحهم.
وإذا عملنا - مَعْشَرَ الأمة المحمدية - بأعمال الأولين، فقد تضاعفت أجور الأولين بسبب عملنا بأعمالهم؛ لأن "مَنْ سَن سُنَةً حَسَنَةً كانَ لَهُ أَجْرُها وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِها إِلَىْ يَوْمِ الْقِيامَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُوْرِهِمْ شَيْئا"(1)، كما في الحديث الصحيح، فهذه الأمة مفضَّلون على الأمم السالفة؛ لكونهم سبباً في إيصال مثل أجورهم إليهم إذا اقتدوا بأعمالهم، فهم ممدون للأمم السالفة، وإن مضوا من هذه الحيثية.
وعلى هذا يتخرج ما يحكى عن بعض العارفين: أنه زار قبر معروف الكرخي رحمه الله تعالى فقال: رقيتَ - أخي معروفاً - بزيارتي هذه
(1) رواه مسلم (1017) عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه.
كذا وكذا درجة.
وكأنه استحضر من أعماله وخصاله شيئاً، فتشبه به فيه، أو نوى ذلك، فكتب له أجر عمله أو نيته، وكتب لمعروف مثل أجره.
ومن جملة أعمال الأولياء رضي الله تعالى عنهم زيارة الصالحين - أحياءً وأمواتاً - فمن زار ولياً زيارة خالصة مقبولة فقد كتب لسائر الأولياء المتقدمين مثل أجره، ومنهم ذلك المزور، فيحصل له الترقية بسبب هذه الزيارة، وهذا غَور من المعرفة لا يهتدي إليه إلا قلوب المحققين.
وإن كانت الترقية حاصلة بين أولياء هذه الأمة من تشبه بعضهم ببعض، فحصولها لصالحي الأمم الماضية بسبب تشبه هذه الأمة لهم أولى، وأقرب، ومن هنا يلوح لك سر قوله تعالى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]، وقوله:{فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35].
وذلك أن الله تعالى إنما أراد إيصال الخير إليهم، وتكميل أحوالهم بسبب سلوك النبي صلى الله عليه وسلم سبيلهم، واقتدائه بهداهم، وفي ذلك إظهار مزية النبي صلى الله عليه وسلم، وفضله على سائر من أمر بالاقتداء بهم، وامتيازه عليهم؛ لأنه به حصلت لهم الترقية، وبسببه وصلت إليهم التزكية.
وأيضاً يحصل من النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أمته لصالحي الأمم السالفة ترقية في المقام بسبب الدعاء الحاصل منهم في صلاتهم وغيرها للصالحين من المتقدمين، والسلام الوارد منهم إليهم في قولهم: "السَّلامُ عَلَيْنا
وَعَلَىْ عِبادِ اللهِ الصَّالِحِيْنَ" (1)، وذلك - أيضا - من جملة أفضال هذه الأمة على مَنْ تقدمهم، ومن هداياهم الواصلة إليهم على ممر الأيام والليالي.
ولا شك أن هذا - أيضا - من جملة الحِكَم والفوائد التي استودعها الله تعالى في تأخير هذه الأمة عن سائر الأمم.
وفي حديث التشهد الصحيح عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه من رواية ابن أبي شيبة، وغيره: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "فَإِنَّكمْ إِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ - يَعْنِيْ: قَوْلَهُمْ فِيْ التَّشَهُّدِ: السَّلامُ عَلَيْنا وَعَلَىْ عِبادِ اللهِ الصَّالِحِيْنَ - فَقَدْ سَلَّمْتُمْ عَلَىْ كُلِّ عَبْدٍ صالحٍ فِيْ السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ"(2)؛ يعني: من الملائكة والإنس والجن الموجودين والماضين.
ولا شك أن هذا أمر خاص بهذه الأمة مما فضِّلوا به على سائر الأمم، وللمصلي منهم بعدد كل صالح من الملائكة، وكل صالح وصالحة ممن تقدمه من الإنس والجن، وممن هو موجود حين صلاته منهم حسنات؛ لأن السلام على كل واحد منهم حسنة مستقلة.
وفي رواية مسلم: "فَإذَا قَالَها أَصابَتْ كُلَّ عَبْدِ صالحٍ فِيْ السَّماءِ وَالأَرْضِ"(3).
(1) رواه البخاري (797)، ومسلم (402) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(2)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(2985)، والبخاري (1144)، والإمام أحمد في "المسند"(1/ 413).
(3)
رواه مسلم (402) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
وأما إذا امتنعنا عن التشبه بالكفار والفسقة من الأمم المتقدمة فإنا نستفيد من ذلك فوائد أيضاً:
منها: ثواب امتناعنا عن تلك الأفعال والأحوال القبيحة، واستبشاعنا لها، وتنكبنا عنها، وتجنبنا منها، وظفرنا بفضيلة بغض هؤلاء المبغضين الممقوتين في الله تعالى؛ إذ لا يتحقق بغضنا لهم إلا بتجنب أحوالهم، واتقاء أعمالهم، كما لا يتحقق حب الصالحين إلا بالتخلق بأخلاقهم.
ولا شك أن البغض في الله لمن يستحق من أفضل الأعمال، وأحبها إلى الله تعالى.
قال أبو ذر رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أَحَبَّ الأَعْمال إِلَىْ اللهِ الْحُبُّ فِيْ اللهِ وَالْبُغْضُ فِيْ الله".
وفي لفظ آخر: "أَفْضَلُ الأَعْمالِ الْحُبُّ فِيْ اللهِ وَالْبُغْضُ فِيْ اللهِ".
رواه باللفظ الأول الإمام أحمد (1)، وباللفظ الثاني أبو داود رحمة الله تعالى عليهما (2).
وروى الإمام أحمد، وغيره عن عمرو بن الجموح رضي الله تعالى عنه: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يَجِدُ الْعَبْدُ صَرِيْحَ الإِيْمانِ حَتَّىْ يُحِبَّ لِلَّهِ، وَيُبْغِضَ لِلَّهِ، فَإِذا أَحَبَّ لِلَّهِ، وَأَبْغَضَ لِلَّهِ فَقَدِ
(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(5/ 146).
(2)
رواه أبو داود (4599). قال المنذري في "الترغيب والترهيب"(4/ 14): وفي إسنادهما راو لم يسم.
اسْتَحَقَّ الْوِلايَةَ للهِ" (1).
وروى في كتاب "الزهد" عن أبي غالب رحمه الله تعالى قال: بلغنا أن هذا الكلام في وصية عيسى بن مريم عليهما السلام: يا معشر الحواريين! تقربوا إلى الله ببغض أهل المعاصي، وتقربوا إلى الله بالمقت لهم، والتمسوا رضاه بسخطهم، قالوا: يا نبي الله! فمن نجالس؟ قال: جالسوا من يزيد في أعمالكم منطقُهُ، ومن يذكركم بالله رؤيته، ويزهدكم في الدنيا عمله (2).
وهذا - أيضاً - من جملة فوائد تأخير هذه الأمة عن الأمم؛ لأن الأمم لما سبرت واستوفيت قبل هذه الأمة، كان ذلك سبباً لكثرة الصالحين وغير الصالحين من المتقدمين، وكلما كثرت أحباب المؤمن من الصالحين ومباغيضه من غيرهم، كان حبه في الله وبغضه في الله أكثر وأعظم، فيزداد أجره، ويعظم ثوابه.
وأيضاً في اجتناب هذه الأمة لأحوال من تقدمهم ممن لا ترضى أفعالهم، ولا أحوالهم حجة بالغة لله تعالى على أولئك المتقدمين، فلله تعالى حق أكيد على هذه الأمة، بل على كل متأخر أن يجتنب ما ليس
(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(3/ 430)، وابن أبي الدنيا في "الأولياء" (ص: 15). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(1/ 89): رواه الإمام أحمد وفيه رشدين بن سعد وهو منقطع ضعيف.
(2)
رواه الإمام أحمد في "الزهد"(ص: 54)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (9445) وقال: روي هذا الكلام عن نبينا صلى الله عليه وسلم بإسناد ضعيف.
مرضياً لله تعالى من أحوال كل متقدم عليه؛ ليكون ذلك إظهاراً لحجة الله تعالى على ذلك المتقدم، ونصرة لله سبحانه؛ عَمَلاً بقوله تعالى:{إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} [محمد: 7].
وقال تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج: 40].
وتصديقاً له سبحانه في قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام: 89].
ولقد استنصر الله تعالى على كل متول من هذه الأمة عن أمره، ومعرض عنه منهم بمن يأتي بعده ممن يقوم بأحكامه، ويراعي حق أمره، ونهيه بقوله تعالى:{وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38].
وفي هذه الآية إشارة إلى أمرين:
الأول: أنه قد يكون في المتأخرين من هذه الأمة من تقوم الحجة به على بعض المتقدمين لكونه أطوعَ لله منه.
والثاني: أن هذه الأمة لا ينقطع الخير منها إلى يوم القيامة.
وفي حديث عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تَزالُ طائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِيْ ظاهِرِيْنَ عَلَىْ الْحَقِّ حَتَىْ تَقُوْمَ السَّاعَة". رواه الحاكم (1)، وأصله في "الصحيحين" من حديث المغيرة (2) وغيره.
(1) رواه الحاكم في "المستدرك"(8389).
(2)
رواه البخاري (6881)، ومسلم (1921)، عن المغيرة رضي الله عنه.
وروى الإمامان مالك، وأحمد، والترمذي وحسنه، عن أنس، والإمام أحمد، والطبراني في "الكبير" عن عمار، والطبراني عن ابن عمر، وابن عمرو، وأبو يعلى عن علي، والرامهرمزي في "الأمثال" عن عثمان رضي الله تعالى عنهم قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ أُمَّتِيْ مَثَلُ الْمَطَرِ؛ لا يدْرَىْ أَوَّلُهُ خَيْرٌ، أَوْ آخِرُهُ"(1).
ومن قام بهذا المنصب - وهو منصب التقوى، واجتناب ما لا يرضى، وهو المعبر عنه في الحديث بالظهور على الحق - فقد حُقَّ له إنجاز ما وعده الله تعالى به من رحمته التي وسعت كل شيء في قوله تعالى:{وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} [الأعراف: 156، 157] الآية.
فانظر كيف استنصر الله تعالى لهذه الأمة على أمة موسى عليه السلام وباهاهم بهم، وبيَّن أنهم هم المفلحون بقوله آخرَ الآية: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ
(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(3/ 130)، والترمذي (2869) عن أنس رضي الله عنه.
ورواه الطبراني في "المعجم الأوسط"(3660) عن ابن عمرو. ورواه أبو يعلى في "مسنده"(3717) عن أنس رضي الله عنه.
ورواه الرامهرمزي في "الأمثال"(ص: 106) عن عثمان.
هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)} [الأعراف: 157].
فمن تابع بني إسرائيل، أو غيرهم من الأمم فيما كانوا عليه من المعاصي، ولم يتق الله تعالى، فقد قصر في إظهار الحجة الإلهية عليهم، ولا يؤثر قعوده عن إظهارها في إظهارها شيئاً، غير أنه خذل نفسه بقعوده عن ذلك حتى فاته هذا المقام، وإلا فإن الله تعالى غني عن العالمين؛ {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: 111].