الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَصْلٌ
اعلم أن المقصود بالتشبه بالصالحين والأخيار إنما هو الفلاح والفوز بدار القرار، وذلك حاصل للمؤمنين بدليل قوله تعالى:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1].
لكن فلاح المؤمن إنما يكون بقدر ترقيه في الإيمان، فالتشبه بالمؤمنين مطلوب على كل حال ولو في أصل الإيمان، فإنه إن لم يحصل له الفلاح والفوز من دخول النار، فإنه يحصل له الفوز من الخلود فيها.
وبالجملة فـ "لن يجعل الله من له سهم في الإسلام كمن لا سهم له فيه"(1) - كما ورد في الحديث -، ولكن كما يقال: الكمال في الكمال.
ولما قال الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1] وصفهم بصفات كاشفات لما أراد بالمؤمنين الموصوفين بالفلاح بقوله تعالى:
(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(6/ 145). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(6/ 145): رجاله ثقات.
روى ابن أبي الدنيا عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خَلَقَ اللهُ جَنَّةَ عَدْنٍ بِيَدهِ لَبِنَةً مِنْ دُرَّةٍ بَيْضاءَ، وَلَبِنَةً مِنْ ياقُوْتَةٍ حَمْراءَ، ولَبِنَةً مِنْ زَبَرْجَدَةٍ خَضْراءَ، بَلاطُهَا مِسكٌ، حَشِيْشُها الزَّعْفَرانُ، حَصْباؤُها اللُّؤْلُؤُ، تُرابُها الْعَنْبَرُ، ثُمَّ قالَ لَهَا: انْطِقِيْ، فَقَالَتْ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1]، فَقالَ اللهُ رضي الله عنه: وَعِزَّتِيْ وَجَلالِيَ لا يُجَاوِرَني فِيْكِ بَخِيْلٌ".
ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9](1).
ففي هذا الحديث إشارة إلى أن المفلحين من المؤمنين إنما هم
(1) رواه ابن أبي الدنيا في "صفة الجنة"(ص: 21)، والطبراني في "المعجم الكبير"(12723)، و"المعجم الأوسط"(5518) مختصراً عن ابن عباس، قال المنذري في "الترغيب والترهيب" (4/ 283): رواه الطبراني في الكبير والأوسط بإسنادين أحدهما جيد.
كُمَّلُهُمْ، وهم الذين وقوا شُحَّ أنفسهم.
والمقصود أن أهل الفلاح الكامل هم أهل الإيمان الكامل،
وقال الله تعالى: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 1 - 5]؛ أي: الفلاح الكامل، لا غيرهم.
وروى البخاري في "تاريخه "، والطبراني في "معجمه الكبير" عن قُرَّة بن هُبيرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أَفْلَحَ مَنْ رُزِقَ لُبًّا"(1).
وأخرجه البيهقي في "الشعب" بلفظ: "قَدْ أَفْلَحَ
…
" (2).
وقد: للتحقيق.
واللب: هو العقل.
والعقل الممدوح إنما هو العقل النافع الذي لا يدخل صاحبه النار، ولا يوقع صاحبه في الندم، والأسف كما يقع لأهل النار فيها كما قص الله تعالى عنهم بقوله:{وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10، 11].
(1) رواه البخاري في "التاريخ الكبير"(7/ 181)، والطبراني في "المعجم الكبير"(19/ 33)، قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (9/ 401): وفيه راو لم يسم وبقية رجاله ثقات.
(2)
رواه البيهقي في "شعب الإيمان"(4656).
والمراد بالذنب الذي اعترفوا به: أنهم لم يستعملوا عقولهم فيما خلقت له من الطاعة التي هي سبب النجاة من النار، فالعاقل اللبيب هو الطائع المجيب، وكلما بالغ في الطاعة والتخلق بالأخلاق المرضية كان أتم عقلاً، وأكمل لباً، فيكون أكثر فلاحاً، وأكمل فوزاً ونجاحا من حيث إنه تجنب أعمال أهل النار بعقله، وأقبل على أعمال أهل الجنة، ولم تغرَّه الحياة الدنيا، ومن ثَمَّ خص أهل العقول بالخطاب في قوله تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 100].
والتقوى إنما تتم بالطاعة، واجتناب المعصية، وقال الله تعالى:{فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185].
وفي هذه الآية إشارة إلى أن الفوز الحقيقي والفلاح المعتد به إنما هو في الدار الآخرة دون الدنيا - وإن زعم أهل الدنيا أن ما فيها من رخاءٍ وعافيةِ ويسرٍ فوزٌ ونعيمٌ - فإنه لا حقيقة له لزواله، بخلاف نعيم الجنة لبقائه.
ومن ثَمَّ قال الله تعالى: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر: 20]؛ أي: وأصحاب النار هم الهالكون، وإن نالوا من الدنيا ما نالوا.
ولذلك نودي في الأذان، والإقامة:(حي على الفلاح)، فأطلق الفلاح على الصلاة لأنها عماد الدين، وأم الأعمال الصالحة، ومن حافظ عليها كان على غيرها أشد محافظة، ومن ضيعها كان لغيرها أكثر إضاعة.
أو المراد بالفلاح كل عمل صالح، وفعل خير لقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77].
وإنما أتى بالفلاح في الأذان والإقامة معرَّفًا باللام التي هي للعهد أو للاستغراق؛ إشارة إلى أن العمل الصالح هو الفلاح الحقيقي، أو أن كل فلاخ وفوز فهو في العمل الصالح، ودفعاً لما يتوهمه أهل الدنيا من أن الفلاح إنما هو في تحصيل الدنيا ومتاجرها والإمساك عليها.
ومن ثَمَّ قال تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9].
وقال الله تعالى مشوقاً إلى سعادة الآخرة، معبراً عنها بالتجارة التي هي سبيل أهل الدنيا إليها:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف: 10].
وصف هذه التجارة بصفة فارقة بينها، وبين متاجر الدنيا بقوله:{تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف: 10]؛ فإن تجارة الدنيا ليست كذلك، بل قد تكون سبباً للعذاب الأليم، وغاية ما فيها أن صاحبها إذا كان سعيداً خرج منها رأساً برأس، بخلاف هذه التجارة التي لا تَبِعَةَ فيها.
وروى ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في الآية: أنها لما نزلت قال المسلمون: لو علمنا هذه التجارة لأعطينا فيها الأموال والأهلين (1).
(1) رواه ابن أبي حاتم في "التفسير"(10/ 3354).
فبين لهم التجارة فقال: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} [الصف: 11]، ولا تتحقق التجارة إلا ببائع ومشترٍ، فالبائع المؤمنون، والمشتري هو الله تعالى؛ بدليل قوله عز وجل:{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111].
وإنما سماه الفوز العظيم؛ لأنه أوجب لهم أعظم المطالب وهو الجنة وما فيها وقد فصل ما أجمله في هذه الآية في الآية السابقة فقال: {ذلِكَم} ؛ أي: الإيمان بالله تعالى ورسوله والجهاد في سبيله المعبر عنه بالتجارة المنجية من العذاب الأليم {خَيْرٌ لَكُمْ} ؛ أي: من تجارة الدنيا ومكاسبها التي هي مظنة التَّبِعات، المأخوذ بها صاحبها في دار الآخرة {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}؛ أي: إن كنتم من أهل العلم المكتسب من اللب الذي هو أصل كل فلاح، كما قال صلى الله عليه وسلم:"أَفْلَحَ مَنْ رُزِقَ لُبًّا"(1).
ثم بين سبحانه ما في تجارة الآخرة من الخيرات فقال: {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} ؛ أي: بسبب الإيمان والجهاد.
{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] والتوبة إحدى الحسنات، وهي من أسباب الفلاح كما قال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ
(1) تقدم تخريجه قريباً.
الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)} [النور: 31]، والتوبة من الإيمان، ومن جهاد النفس - وهو من أعظم الجهاد - قال:{وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الصف: 12].
وإنَّما طابت تلك المساكن بسبب خلوَّها من كدورات الدُّنيا من تعب ونَصَب ومرض وحزن ومَلال وقَنَر وغيرِ ذلك.
وأعظم شيءٍ طيَّبها جوار الله تعالى ورضوانه، وتَجلَّي وجهه لهم مع الخلود لأن العدن هو الإقامة.
ثمَّ قال: {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} ؛ أي: دون ما تعدونه في الدنيا فوزاً من مكالسب ومغانم وغيرها؛ لانصرامه وفنائه، والفوز العظيم إنَّما هو ما كان من إقامة وخلود، كما قال تعالى:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [النساء: 13]؛ يعني: الجنة مع الخلود فيها.
وهو الفلاح؛ فإنَّ الفلاح هو البقاء في الخير، كما في "القاموس"(1).
ونقله أبو بكر بن الأنباري في كتاب "الزاهر" عن جماعة من أهل اللغة، وقال: معنى {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9]: هم الباقون في الجنَّة.
ومنه قول الراجز: [من المنسرح]
لِكُلِّ هَمٍّ مِنَ الْهُمُوْمِ سَعَهْ
…
وَالْمَسْي وَالصُّبْحُ لا فَلاحَ مَعَهْ
(1) انظر: "القاموس المحيط" للفيروز آبادي (ص: 300)(مادة: فلح).
قال ابن الأنباري: أراد: لا بقاء ولا خلود (1).
ومن ثَمَّ جاء في دعاء النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْألكَ صِحَّةً فِيْ إِيْمانٍ، وإيْمانًا فِيْ حُسْنِ خُلُقٍ، وَنَجاحاً يَتْبَعُهُ فَلاحٌ"، كما رواه الطبراني في "الأوسط"(2).
النجاح: الظَّفَرُ بالخير.
والفلاح: البقاء فيه.
وكأن في هذه الآيات رداً على قول المتخلف المبطئ: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا} [النساء: 73]، كما قال الله تعالى:{وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا} [النساء: 72، 73] فبيَّن الله تعالى بقوله، {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الصف: 12] وقوله: {وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111].
أنَّ الفوز إنَّما هو فوز الآخرة دون مغانم الدُّنيا ومكاسبها.
على أنَّ أهل الآخرة لا يحرمون من عاجل فضل الله تعالى، ولذلك
(1) انظر: "الزاهر في معاني كلمات الناس" لابن الأنباري (1/ 38).
(2)
رواه الطبراني في "المعجم الأوسط"(9333)، والإمام أحمد في "المسند"(2/ 321)، والنسائي في "السنن الكبرى"(10404) عن أبي هريرة، قال الهيثمي في "جمع الزوائد" (10/ 174): رواه أحمد ورجاله ثقات.
قال تعالى: {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} [الصف: 13]، وقال تعالى:{وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} [الفتح: 19، 20]؛ أي: علامة يعلمون بها أنَّهم من الله تعالى بمكان، كأنَّه يشير إلى أنَّه كما أنجز لهم ما وعدهم في الدُّنيا كذلك ينجز لهم موعود الآخرة.
وقال الله تعالى: {لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [التوبة: 88]؛ أي: لهم منافع الدارين؛ النصرة والغنيمة في الدُّنيا، والجنَّة والكرامة في الآخرة.
{أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 89]؛ أي: - وإن نالوا من خيرات الدُّنيا - فإنَّ ما لهم في الآخرة هو الفوز العظيم.
وقال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21)} [التوبة: 20، 21].
وإذا كان المتخلِّف عن القوم في الدُّنيا يندم على ما فاته في الدُّنيا من الغنائم التي تفضَّل الله تعالى عليهم بها، ويقول:{يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا} [النساء: 73]، فكيف ندمه وأسفه على ما يفوته
من نعيم الآخرة مع ما يلحقه من الإهانة والعذاب والخلود فيه، كما قال تعالى:{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء: 14]، والمعصية المشار إليها في هذه الآية شاملة للكفر والشرك، كما أنَّ الطاعة في قوله تعالى في الآية السَّابقة:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ} [النساء: 13] شاملة للإيمان والتوحيد.
فحقيقة الفلاح والفوز إنَّما هو في الطاعة والإيمان، والفوات والخيبة في المعصية والكفر، وإنَّما يظهر ذلك في الدَّار الآخرة، كما قال الله تعالى:{وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ} [الأعراف: 8، 9].
وإنَّما قال: {خَسِرُوا} ؛ لأنَّه شبَّه أعمال العبد بالمتاجر؛ فمن ثقلت موازينه بالإيمان والعمل الصالح ربح في تجارته وأفلح، كما قال الله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: 29، 30]، ومن خفَّت موازينه - إذ لا إيمان له بالكليَّة، أو لا عمل صالح، أو له معاص لا كفارة لها - فقد خسرت تجارته، وخاب مسعاه، كما قال الله تعالى:{قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [يونس: 45]، وقال تعالى:
{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف: 103 - 105]، وقال تعالى بعد ذكر المنافقين:{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة: 16]، وقال تعالى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج: 11].
وهذا معيار لا شبهة فيه: أنَّ الإيمان والعمل الصالح سبب الفلاح، والكفر والعمل السيء سبب الخسران والخذلان.
وروى الإمام أحمد بسند حسن عن أبي ذرِّ رضي الله تعالى عنه: أنَّ النبي كل صلى الله عليه وسلم قال: "قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَخْلَصَ قَلْبَهُ للإيمانِ، وَجَعَلَ قَلْبَهُ سَلِيْماَّ، وَلِسانهُ صادِقا، وَنفسَهُ مُطْمَئِنَةً، وَخَلِيْقَتَهُ مُسْتَقِيْمَةً، وَأُذُنهُ مُسْتَمِعَةً، وَعَيْنَهُ ناظِرَةً"(1).
وروى هو، ومسلم، والترمذي، وابن ماجه عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفافاً، وَقَنَّعَهُ اللهُ بِما آتاهُ"(2).
(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(5/ 147)، وحسن إسناده الهيثمي في "مجمع الزوائد"(10/ 232).
(2)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(2/ 168)، ومسلم (1054)، والترمذي =
وأخرجه أبو نعيم في "الحلية"، والبيهقي في "شعب الإيمان" من حديث ابن عمر رضي الله عنهما وقال:"وَصَبَرَ عَلَىْ ذَلِكَ"(1) موضعَ قوله: "وَقنَّعَهُ اللهُ بِما آتاهُ".
وروي نحوه من حديث فَضَالة بن عُبيد رضي الله تعالى عنه (2).
وقال الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 14، 15].
قال عطاء: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} ؛ أي: آمن.
وقال قتادة: بعمل صالح.
رواهما ابن أبي حاتم (3).
وروى البزَّار، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} ؛ قال: "مَنْ شَهِدَ أَنْ لا إِلَهَ إِلَاّ اللهُ، وَخَلَعَ الأَنْدادَ، وَشَهِدَ أَنِّيْ رَسُوْلُ اللهِ"، {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى}؛ قال:"هِيَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْمُحَافَظَةُ عَلَيْهِنَّ"(4).
= (2348)، وابن ماجه (4138).
(1)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(6/ 129)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(9723).
(2)
رواه الترمذي (2349)، والإمام أحمد في "المسند"(6/ 19).
(3)
رواه ابن أبي حاتم في "التفسير"(10/ 3417).
(4)
قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(7/ 137): رواه البزار عن شيخه عباد بن أحمد العرزمي وهو متروك.
وقال الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس: 9]؛ أي: بالطاعة، {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 10]؛ أي: دنَّسا بالمعصية.
وقال تعالى {فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ} [القصص: 67]، والعمل الصالح شامل لسائر الطَّاعات.
وقال تعالى حكاية عن هود عليه السلام: {فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأعراف: 69] إنَّما رجالهم الفلاحَ بذكر الآلاء؛ لأنَّ ذكر آلاء الله تعالى يدعوه إلى طاعته، وترك معاصيه، وذلك عين النجاح والفلاح.
وقال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10]، ؛ أي: في الدُّنيا بما يُجعل لكم من فضل الله تعالى، وفي الآخرة بما يحصل لكم من ثواب الذكر والعمل الصَّالح.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45].
وفيه لطيفة: وهي أنَّ الثبات مع الله تعالى في دار الدُّنيا بالجهاد، ومصابرة العدو، وكثرة الذكر على سائر الحالات يكون سبباً للثبات مع الله تعالى والبقاء معه في المعاد، وهو معنى الفلاح ليكون الجزاء من جنس العمل.
وقال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ
بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور: 51].
فالسمع والطَّاعة هما سبب الفلاح، وهو وصف المؤمنين الذين هم المفلحون، كما قال تعالى:{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا} ؛ أي: بترك معاصيه، {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} ؛ وهي لزوم الطَّاعة، {وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ} وهو شامل لمجاهدة النَّفس {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 35].
وفي هذه الآية إشارةٌ أنَّ الفلاح لا يتمُّ إلا بموالاة المفلحين ومعاداة المبطلين.
روى ابن أبي شيبة، والإمام أحمد عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَوْثَقُ عُرَىْ الأيْمانِ الْحُبُّ فِيْ اللهِ، وَالْبُغْضُ فِيْ اللهِ"(1).
(1) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(34770)، والإمام أحمد =
وقال ابن عبَّاس رضي الله تعالى عنهما: أَحِبَّ في الله، وأَبْغِضْ في الله، وعادِ في الله، ووالِ في الله؛ فينما تنالوا ولاية الله لذلك، ثمَّ قرأ:{لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ} [المجادلة: 22] الآية. رواه ابن أبي شيبة، وابن أبي حاتم (1).
وروى ابن مردويه في "اتفسيره" عن كثير بن عطيّة، عن رجل: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللَهُمَّ لا تَجْعَلْ لِفاجِرٍ وَلا لِفاسِقٍ عِنْدِيَ يَداً وَلا نِعْمَةً؛ فَإِنِّيْ وَجَدْتُ فِيْمَا أَوْحَيْتَ إِلَيَّ: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (2).
قال سفيان: يرون أنَّها نزلت فيمن يخالط السُّلطان.
وقال تعالى: {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 100].
قيل: الخبيث والطيِّب: الحلال والحرام.
وقيل: الرديء والجيِّد.
وقيل: الكافر والمؤمن.
= في "المسند"(4/ 286).
(1)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(30420)، وكذا رواه ابن أبي الدنيا في "الإخوان" (ص: 69).
(2)
رواه الديلمي في "مسند الفردوس"(2011) عن معاذ. وقال العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء"(2/ 873): أسانيده كلها ضعيفة.
وقيل: العاصي والمطيع.
قال القرطبي رحمه الله تعالى: والصحيح أنَّ اللفظ عام في جميع الأمور، متصوَّر في المكاسب والأعمال والنَّاس والمعارف من العلوم وغيرها؛ فالخبيث من هذا كلِّه لا يفلح، ولا ينجب، ولا يُحسن له عاقبة - وإن كَثُرَ - والطيِّب - وإن قلَّ - نافع جميل العاقبة (1). انتهى.
روى أبو نعيم عن أيُّوب قال: رآني أبو قلابة وأنا أشتري تمراً رديئاً، فقال: قد كنت أظنّ أنَّ الله نفعك بمجالستنا، أما علمت أنَّ الله تعالى قد نزع من كلِّ رديء بركته؟ (2).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم عن الأعرابي الذي ذكر له الصَّلاة والزَّكاة والصوم والحج، فقال: لا أزيد على ذلك ولا أنقص، فقال صلى الله عليه وسلم:"أَفْلَحَ إِنْ صَدَق". وأصله في "الصَّحيحين"(3).
قال بعض العلماء: معناه: أفلح إن صدق في عدم النَّقص، لا في عدم الزيادة.
وقال آخرون: هذا كان في صدر الإسلام حين كان صلى الله عليه وسلم يتألف القلوب للإيمان، ولم تفرض جميع الأحكام.
قلت: والأولى عندي أنَّ المراد: أفلح فلاحاً يليق به حيث جاء
(1) انظر: "تفسير القرطبي"(2/ 244).
(2)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(2/ 286).
(3)
رواه البخاري (1792)، ومسلم (11)، عن طلحة بن عبيد الله.
بأصل الإيمان ودعائمه، لا أنَّه أفلح كلَّ الفلاح حتَّى يأتي بكلِّ دواعيه، أو يمنَّ الله عليه ويواليه؛ فالفلاح يكون في الدار الآخرة على قدر ما يأخذ العبد في دار الدُّنيا من الأعمال الصالحة، ويجتنب من المعاصي.
وقد قلت: [من الرجز]
أَفْلَحَ مَنْ صَلَّىْ مَعَاً وَصامَا
…
وَأَنْفَقَ الزَّكاةَ وَاسْتَقاما
وَأَمَّ بَيْتَ رَبِّهِ الْحَراما
…
وَاجْتَنَبَ الشُّبْهَةَ وَالْحَراما
وَصَدَّقَ الْمُهَيْمِنَ السَّلاما
…
وَأَخْلَصَ الإِيْمانَ وَالإِسْلاما
وروى الدَّيلمي في "مسند الفردوس" عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قَدْ أَفْلَحَ مَنْ كانَ سُكُوْتُهُ تَفُكُّراً، وَنَظَرُهُ اعْتِباراً، أَفْلَحَ مَنْ وَجَدَ فِيْ صَحِيْفَتِهِ اسْتِغْفاراً كَثِيْراً"(1).
وروى أبو نعيم عن سفيان الثَّوري: أنَّ رجلًا شكى إليه مظلمة فقال: شكى رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مظلمة، فقال صلى الله عليه وسلم:"الْمَظْلُوْمُوْنَ هُمُ الْمُفْلِحُوْنَ يَوْمَ الْقِيامَةِ"(2).
(1) رواه الديلمي في "مسند الفردوس"(1710)، وفيه حبان بن علي، ضعفه النسائي في "الضعفاء والمتروكين" (ص: 35)، وللشطر الثاني من الحديث شاهد من حديث عبد الله بن بسر عند ابن ماجه (3819) بلفظ "طوبى لمن وجد في صحيفته استغفاراً كثيراً"، حسنه الحافظ ابن حجر في "الأمالي المطلقة" (ص: 249).
(2)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(7/ 69).
وفيه تعريض بأنَّ الظَّالم لا يفلح.
وفي كتاب الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ} [الشورى: 45].
وقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21)} [الأنعام: 21].
وقال تعالى: {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [المؤمنون: 117].
وقال تعالى: {قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} [يونس: 69].
وقال تعالى حكاية عن موسى عليه السلام: {وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ} [يونس: 77]، {وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه: 69].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90].
وفيه تلويح بأنَّ الفلاح في اجتناب أعمال الشَّيطان وخطواته، وهو كذلك.
وروى أبو داود عن المقدام بن معدي كرب رضي الله تعالى عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب على منكبه، ثمَّ قال له:"أَفْلَحْتَ يا قُدَيْمُ إِنْ مِتَّ وَلَمْ تَكُنْ أَمِيْراً وَلا كاتِباً وَلا عَرِيْفاً"(1).
(1) رواه أبو داود (2933).
والمراد أن لا يكون كاتباً للأمراء والعرفاء ونحوهم، لا مطلق الكتابة.
وفيه إشارة إلى أنَّ الولاية والإمارة، ونحوها يتعرض بها الرَّجل إلى فوات الفلاح.
روى أبو نعيم عن أحمد بن أبي الحواري عن أخيه محمَّد قال: مرَّ شيخ من الكوفيين كان كاتباً لسفيان الثوري، فقال له سفيان: يا شيخ! وَلِيَ فلان فكتبتَ له، ثمَّ عزل، وولي فلان، فكتبتَ له، ثمَّ عزل، وولي فلان، فكتبتَ له، وأنت يوم القيامة أسوؤهم حالاً، يدعى بالأوَّل فيسأل، ويدعى بك معه، فتسأل معه، ثمَّ يذهب، فتوقف أنت حتَّى يدعى بالآخر، فأنت يوم القيامة أسوؤهم حالاً.
قال: فقال الشيخ: فكيف أصنع يا أبا عبد الله بعيالي؟
فقال سفيان: اسمعوا هذا يقول: إذا عصى الله رزق عياله، وإذا أطاع الله ضيَّع عياله.
قال: ثمَّ قال سفيان: لا تعتدُّوا بصاحب عيال؛ فما كان عذر من عوتب إلا أن قال: عيالي (1).
قلت: ومن هنا جاء: "ما أفلح صاحب عيال قط". رواه الدَّيلمي من حديث أبي هريرة، وابن عدي من حديث عائشة رضي الله عنهما (2).
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(6/ 380).
(2)
رواه الديلمي في "مسند الفردوس"(6194)، وابن عدي في "الكامل =
قال ابن عدي: وهو عن النبي صلى الله عليه وسلم منكر، وإنَّما هو من كلام سفيان ابن عيينة (1).
والمراد أنَّه يفوته الفلاح إمَّا في الدُّنيا وإمَّا في الآخرة؛ إذ لا يصحُّ على إطلاقه.
فأمَّا فوت الفلاح عنه في الدّنيا فيما يقاسيه من الجهد والكدِّ في طلب معيشتهم، وأمَّا في الآخرة فإذا ورد الموارد المهلكة بسبب معيشتهم (2).
= في الضعفاء" (1/ 189).
(1)
انظر: "الكامل في الضعفاء" لابن عدي (1/ 189).
(2)
ذكر ابن الجوزي كلاماً نفيساً في الرد على من كره طلب الأولاد، قال رحمه الله: وهذا غلط عظيم وبيانه: أنه لما كان مراد الله تعالى من إيجاد الدنيا اتصال دوامها إلى أن ينقضي أجلها وكان الآدمي غير ممتد البقاء فيها إلا إلى أمد يسير، أخلف الله تعالى منه مثله، فحثه على سببه في ذلك تارة من حيث الطبع بإيقاد نار الشهوة، وتارة من باب الشرع بقوله تعالى:{وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ} [النور: 32]، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"تناكحوا تناسلوا، فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة" ولو بالسقط، وقد طلب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الأولاد فقال تعالى حكاية عنهم:{رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران: 38]، {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [إبراهيم: 40]، إلى غير ذلك من الآيات، وتسبب الصالحون إلى وجودهم، وربَّ جماع حدث منه ولد مثل الشافعي وأحمد بن حنبل فكان خيراً من عبادة ألف سنة، وقد جاءت الأخبار بإثابة المباضعة، والإنفاق =
قال سفيان الثَّوري: يؤمر بالرجل إلى النَّار يوم القيامة، فيقال: هذا عياله أكلوا حسناته. رواه أبو نعيم (1).
وروى الإمام أحمد، والبخاري، والتِّرمذي، والنَّسائي عن أبي بكرة رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لَنْ يُفْلِحَ قَوْم وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأةً"(2).
والمراد أن يولُّوها جميع أمورهم بحيث لو دعتهم إلى الإيمان بها لأطاعوا - كما اتفق لقوم سجاح المتنبئة -.
أو يولوهَا الخلافة، أو يطيعوها في معصية الله تعالى.
أو المراد بالفلاح الظفر بالدُّنيا.
فأمَّا تولية المرأة ما يطلب منها من إصلاح بيتها وأولادها، فليس من هذا القبيل.
وفي الحديث الصحيح: "وَالْمَرْأةُ راعِيَةٌ فِيْ بَيْتِ زَوْجِها، وَمَسْؤُوْلةٌ عَنْ رَعِيَّتِها"(3).
= على الأولاد والعيال، ومن يموت له ولد، ومن يخلف ولداً بعده، فمن أعرض عن طلب الأولاد والتزوج فقد خالف المسنون والأفضل، وحرم أجراً جسيماً، ومن فعل ذلك فينما يطلب الراحة. انظر:"تلبيس إبليس" لابن الجوزي (ص: 362).
(1)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(7/ 81).
(2)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(5/ 50)، والبخاري (6686)، والتِّرمذي (2262)، والنَّسائي (5388).
(3)
رواه البخاري (853) واللفظ له، ومسلم (1829) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
وروى أبو داود، والبيهقي في "سننيهما" عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "آمِرُوْا النِّساءَ فِيْ بَناتِهنَّ"(1).
وآمروا -بالمد -أي: اجعلوهن أمراء.
وذكر الإِمام أبو طالب المكِّي، وحجة الإِسلام الغزالي، وأبو حفص السُّهروردي: أنَّ إبراهيم بن أدهم رحمه الله تعالى قال: من تعوَّد أفخاذ النِّساء لا يفلح (2).
والمراد: أن يتعود أفخاذهن عَادة تشغله عن طاعة الله، أو توقعه في معصية الله، لا مجرد العود إلى الاستمتاع بهن؛ لأنَّ هذا يفعله الأنبياء والصدِّيقون.
وروى أبو نعيم عن خلف بن تميم قال: سمعت سفيان الثَّوري يقول: من أحبَّ أفخاذ النِّساء لم يفلح (3). أي: حبًّا يدعو إلى مخالفة أمر الله تعالى.
كما حكي: أنَّ أعرابيًّا راود امرأة عن نفسها، فلمَّا قعد منها مقعد النَّاكح أدركته العناية، فقام عنها، فقالت: ما لَكَ؟ ، قال: إنَّ رجلًا باع جنَّة عرضها السماوات، والأرض بمقدار ما بين فخذيك لمغبون (4).
(1) رواه أبو داود (2095)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 115).
(2)
انظر: "قوت القلوب" لأبي طالب المكي (2/ 398)، و"الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" للخطيب البغدادي (1/ 103).
(3)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(7/ 12).
(4)
رواه الخرائطي في "اعتلال القلوب"(ص: 90).
فأما محبتهن للعطف عليهن والشفقة بهن لأنهنَّ خلقن من ضِلَع عوجاء، أو لتأدية السنَة، وتنفيذ الحكمة، وطلب الولد، فهذا من جملة مسالك النجاح، ومدارك الفلاح، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:"حُبِّبَ إِليَ مِنْ دنيَاكُمُ النِّساءُ، وَالطيبُ، وَجُعِلَتْ قُرةُ عَيْنيَ فِيْ الصَّلاة". رواه الإِمام أحمد، والنَّسائي، والحاكم، والبيهقي من حديث أنس رضي الله عنه (1).
وتأمل في قوله: "مِنْ دنياكُمْ"؛ إذ فيه إبعاد عن إضافة الدُّنيا إليه؛ فإنَ محبة الدُّنيا بحيث يؤثرها على شيء مما أمر به؛ فإنها قد تحول بين العبد وبين الفلاح، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"كَيْفَ تُفْلحُ وَالدُّنْيا أَحَبُّ إِلَيْكَ مِنْ أَحْنَىْ النَاسِ عَلَيْكَ؟ " رواه الخطيب من حديث جابر رضي الله تعالى عنه (2).
وروى قاضي القضاة التاج ابن السُّبكي في "طبقاته" عن الشيخ أبي عبد الرَّحمن السُّلَمي قال: قلت للأستاذ أبي سهل الصُّعْلُوكي رحمه الله تعالى في كلام يجري بيننا: لِمَ؟ فقال لي: أما علمت أنَّ من قال لأستاذه: (لِمَ) لا يفلح؟ (3).
(1) رواه الإِمام أحمد في "المسند"(3/ 128)، والنسائي (3939)، والحاكم في "المستدرك"(2676)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 78). وصححه ابن القيم في "إغاثة اللهفان"(2/ 140).
(2)
رواه الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد"(8/ 380)، وحكم عليه ابن حجر بالوضع في "لسان الميزان"(2/ 417).
(3)
رواه السُّبكي في "طبقات الشافعية الكبرى"(3/ 171).
أي: لا يظفر بالانتفاع منه؛ أي: ما لم يتب، ويراجع الأدب (1). كما قال الشيخ رضي الدين جدي رحمه الله تعالى في "ألفيَّته":
[من الرجز]
مَنْ لَمْ يُعَظِّمْ حُرْمَةَ الْمُؤَدِّبِ
…
حَرَمَهُ اللهُ بُلُوْغَ الأَدبِ
وإنَّ مَنْ قالَ لِشَيْخِهِ لِمه
…
لَمْ يَنتفِعْ مِنْهُ بِما تَعَلَّمَهْ
وقد يؤدِّي الاستخفاف بالأستاذ، وترك الأدب معه إلى فوات الفلاح الأخروي -والعياذ بالله -، ولقد رأيت أنَّ ممَّا كان سببًا لهلاك الأمم الاستخفاف بالمرسلين، وعدم سلوك الأدب معهم، كما بيَّنت ذلك في شرحي على ألفيَّة جدّي المسمَّى بِـ:"منبر التَّوحيد".
ومن أشدِّ المعاصي حيلولة بين العبد، وترك الفلاح الابتداع في الدين، واتِّباع المبتدعين.
ولقد أحسن الإِمام ابن الإِمام أبو بكر بن أبي داود السجستاني فيما أنشده لنفسه، ورويناه عنه في "الأربعين" لأبي الفُتوح الطائي:[من الطويل]
(1) قال الذهبي في "سير أعلام النبلاء"(17/ 251): ينبغي للمريد أن لا يقول لأستاذه لم، إذا علمه معصومًا لا يجوز عليه الخطأ، أما إذا كان الشيخ غير معصوم، وكره قول لم، فإنه [أي الشيخ] لا يفلح أبدًا، قال الله تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2].
تَمَسَّكْ بِحَبْلِ الله وَاتَّبعِ الْهُدَىْ
…
وَلا تَكُ بِدْعِيًّا لَعَلَّكَ تُفْلِحُ
وَلُذْ بِكِتابِ اللهِ وَالسُّنَنِ الَّتِيْ
…
أتَتْ عَنْ رَسُوْلِ اللهِ تَنْجُ وَتَرْبَحُ
وَدع عَنْكَ آراءَ الرِّجالِ وَقَوْلَهُمْ
…
فَقَوْلُ رَسُوْلِ اللهِ أَزْكَىْ وَأَشْرَحُ
وَلا تَكُ مِنْ قَوْمٍ تَلَهَّوْا بِدِيْنهِمْ
…
فَتَطْعَنَ فِيْ أَهْلِ الْحَدِيْثِ وَتَقْدَحُ
إِذا مَا اعْتَقَدْتَ الدَّهْرَ يا صَاحِ هَذِهِ
…
فَأَنْتَ عَلَىْ خَيْرٍ تَبِيْتُ وَتُصْبحُ (1)
واعلم أنَّه لا يتمُ الفلاح إلا بترك المعاصي، وفعل الطَّاعات مع سلامتها من الآفات المفسدات، كالرياء، والإعجاب، وغير ذلك.
ولقد روى التِّرمذي وحسَّنه، عن أنس رضي الله تعالى عنه: أنَّ رجلًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أيُّ الدُّعاء أفضل؟ قال: "سَلْ رَبَّكَ الْعَافِيَةَ، وَالْمُعافاةَ فِيْ الدُّنْيا وَالآخِرَةِ"، ثُمَّ أتاه في اليوم الثَّاني، فقال: يا رسول الله! أيُّ الدُّعاء أفضل؟ فقال له مثل ذلك، ثمَّ
(1) انظر: "قصيدة ابن أبي داود"(ص: 17)، و"طبقات الحنابلة" لابن أبي يعلى (2/ 53).
أتاه في اليوم الثَّالث، فقال له مثل ذلك، قال:"فَإِذا أُعْطِيْتَ الْعافِيَةَ فِيْ الدُّنْيا، وَأُعْطِيْتَها فِيْ الآخِرَةِ فَقَدْ أَفْلَحْتَ"(1).
ثمَّ إنَّ أوصاف المفلحين المندرجة في صفة الإيمان كثيرة جدًّا، وباعتبار تعدد أوصافهم تعددت أصنافهم، وكل صنف فالتشبُّه بهم في الوصف المحمود مندوب إليه، محثوث عليه، وكلُّ هؤلاء الأصناف تجمعهم الطَّاعة، ورأس الطَّاعة التَّوحيد، وقول:(لا إله إلا الله)، بل هي شرط في كلّ طاعة؛ إذ لا طاعة لمن لم يأتِ بها، وهي تدعو إلى كلّ طاعة، وتنهى عن كلِّ معصية، ولذلك أوَّل ما بدأت الأنبياء عليهم السلام بالدعوة إليها، حتَّى إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرضى من كلِّ أحد في أوَّل دعوته بأن يقولها.
قال ربيعة بن عبَّاد الدَّيلي (2) رضي الله تعالى عنه: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم -يعني: قبل ما أسلم - بسوق ذي المجاز يقول: "يَا أيها النَّاسُ! قُوْلُوْا: لا إِلَهَ إِلَاّ اللهُ تُفْلِحُوْا"، فدخل فجاجها والنَّاس منقضُّون عليه، فما رأيت أحدًا يقول شيئًا، وهو لا يسكت؛ يقول:"يَا أيها النَّاسُ! قُوْلُوْا: لا إِلَهَ إِلَاّ اللهُ تُفْلِحُوْا"، إلا أنَّ وراءه رجلًا أحول، وَضِيء الوجه، ذا غديرتين يقول: إنَّه صابئ كاذب، فقلت: من هذا الذي يكذِّبه؟ قالوا: هذا عمُّه أبو لهب.
(1) رواه الترمذي (3512).
(2)
في "أ": " الديلمي "، والمثبت من "المسند" للإمام أحمد (3/ 492).
قال أبو الزناد: قلت له: كنت يومئذ صغيراً؟ قال: لا - والله - إنِّي لأعقل، وأحمل القربة. أخرجه أبو الحسين عبد الباقي بن قانع في "معجم "الصحابة" (1).
ثمَّ إن الطَّائعين ينقسمون إلى أربعة أصناف:
- أنبياء.
- وصدِّيقين.
- وشهداء.
- وصالحين ليسوا بأنبياء، ولا صدِّيقين، ولا شهداء، وهم مندرجون في الصالحين أيضًا.
وقد أشار إلى ذلك قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69)} [النساء: 69].
وهذه الآية من أصرح الأدلة على أن من تشبَّه بقوم كان معهم؛ لأنَّ طاعة الله جامعة لكل أخلاق الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين وأعمالهم التي من جاء بها كان متشبِّهًا بهم.
ومهما كان العبد مطيعًا فقد تشبَّه بهم في الطاعة، ومن أطاع الله فهو
(1) رواه ابن قانع في "معجم الصحابة"(2/ 1091)، والإمام أحمد في "المسند"(3/ 492)، والطبراني في "المعجم الكبير"(4582)، وقوَّى إسناده الذهبيُّ في "تاريخ الإِسلام"(1/ 151).
من عباد الله الطَّائعين، وفي سلكهم في الدُّنيا والآخرة.
وما الطَّائعون من الثقلين إلا هؤلاء الطَّوائف الأربعة، ومن أطاع الله تعالى فقد أخذ بحظ من التَّشبه بهم، والتخلُّق بأخلاقهم، فليحمد الله على هذه المِنَّة، وليشكره على هذه النعمة.
وقد روى أبو الشيخ الأصبهاني في كتاب "العظمة" عن أحمد بن أبي الحواري رحمه الله تعالى قال: التقى حكيمان من الحكماء، فقال أحدهما لصاحبه: بم عرفت ربَّك؟ قال: بفسخ العزم، ومنع الهم؛ لما عزمت فحال بيني وبين عزمي القدر، وهممت فحال بيني وبين همي، علمت أنَّ المستولي على قلبي غيري.
قال: فبم عرفت الشُّكر؟ قال: بكشف البلاء، لما رأيت البلاء مصروفًا عنّي، موجودًا في غيري شكرت على ذلك.
قال: فبم أحببت لقاءه؟ قال: بأصل التَّخيير، وانتفاء التُّهمة.
قال: فما أصل التَّخيير، وانتفاء التُّهمة؟ قال: لما اختار لي دين الملائكة والأنبياء أحسنت به الظَّن، ونفيت عنه التُّهمة، وعلمت أنَّ الذي اختار لي هذا لا يسيء إلي، فأحببت لقاءه (1).
ومما يصرِّح وينصُّ على أنَّ الله تعالى اختار لأوليائه من عباده دين الأنبياء والملائكة عليهم السلام: أنه سبحانه أمرنا أن نسأله الهداية إلى صراطهم في كلِّ يوم وليلة سبع عشرة مرَّة في قراءة الفاتحة في الصَّلوات
(1) رواه أبو الشيخ الأصبهاني في "العظمة"(1/ 332).
الخمس أمراً افترضه علينا، سوى ما ندبنا إليه من النَّوافل، وذلك في قولنا:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 6، 7].
روى الإِمام محمَّد بن جرير الطبري في "تفسيره" عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما: أنَّ المراد بالذين أنعمت عليهم: الأنبياء والملائكة والصدِّيقون والشُّهداء ومن أطاع الله وعَبَده (1).
أي: وهم سائر الصَّالحين.
وهذا أرجح الأقوال في تفسير المُنْعَم عليهم، وأعمُّها، وأتمُّها.
فإن قلت: لم يذكر الله تعالى الملائكة في قوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} الآية [النساء: 69]، مع أنَّ الملائكة من أهل الطَّاعة المنعم عليهم، كما في حديث ابن عبَّاس؟
قلت: لأنَّ هؤلاء الأربعة الأصناف - وإن شاركتهم الملائكة عليهم السلام في إحلال الرِّضوان عليهم في دار الآخرة مع الخلود - فإنَّهم يتميزون عنهم في تلك الدَّار بأنواع التَّمتعات الشَّهوانية الناشئة عن النُّفوس المطمئنَّة، كما قال الله تعالى:{وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} [الزخرف: 71].
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)} [فصلت: 30] إلى قوله: {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ
(1) رواه الطبري في "التفسير"(1/ 76).
{وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} [فصلت: 31].
فمن أنواع التَّمتعات الْجِنانية ما يختصُّ به المقربون من البشر دون الملائكة عليهم السلام.
وفي الآية إشارة إلى أنَّ من أطاع الله تعالى ورسوله لا يفوته شيء من نعيم الجنَّة، سواء ألحق بكلِّ الطَّوائف الأربعة، أو بطائفة منهم؛ لأنَّ كل طائفة منهم فلها حظُّها من سائر إمتاعات الجنَّة بخلاف الملائكة عليهم السلام، والإشارة إلى ذلك دقيقة، فينبغي تفهمها!
وقد تحرر لك أنَّ الذين يحسن التَّشبه بهم من خلق الله تعالى هم هؤلاء الطوائف الأربعة المذكورون في الآية الكريمة، وطائفة أخرى خامسة، وهم الملائكة المكرمون.
واستقصاء أعمال هؤلاء الطَّوائف وأخلاقهم وأحوالهم لا يمكن، إلا أنني أحببت أن أذكر منها نبذة في أبواب متفرقة، والله سبحانه هو الموفق والمعين.
***