الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صورتي، فبدا لي، فقال: شارطني على أن يكون لي يوم ولك يوم وإلا أهلكتك، فرضيت بذلك، فصار جليسي يحادثني وأحادثه، فقال لي ذات يومٍ: إني ممن يسترق السمع والليلة نوبتي، قلت: فهل لك أن أختبئ معك؟ قال: نعم، فتهيأ، ثم أتاني، فقال: خذ بمعرفتي، وإياك أن تتركها فتهلك، فأخذت بمعرفته، فعرج حتى لمست السماء، فإذا قائل يقول: ما شاء الله لا حول ولا قوة إلا بالله، فسقطوا بوجوههم، فسقطت، فرجعت إلى أهلي، فإذا أنا به يدخل بعد أيام، فجعلت أقول: ما شاء الله لا حول ولا قوة إلا بالله، قال: فيذوب بذلك حتى يصير مثل الذباب، ثم قال لي: قد حفظتَه فانقطعْ عنَّا (1).
137 - ومنها: شدة التحرز عن المعصية، وفرط الانبعاث إلى الطاعة، وشدة المبادرة إلى الامتثال والاعتصام بالله تعالى:
قال الله تعالى: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} [التحريم: 6].
وقال تعالى: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6].
138 - ومنها: التوبة، كما تقدم في حديث أنس رضي الله تعالى عنه:
أنهم حين أعرض الله عنهم لقولهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة: 30] طافوا بالعرش ست سنين يقولون: لبيك
(1) وكذا عزاه الحافظ ابن حجر في "الإصابة في تمييز الصحابة"(1/ 193)، والسيوطي في "الدر المنثور"(5/ 393).
لبيك، اعتذاراً إليك، لبيك لبيك، نستغفرك ونتوب إليك (1).
والملائكة -وإن كانوا معصومين على أحد القولين - فإن لهم توبةً تليق بهم كما في توبة الأنبياء، واستغفارهم مع أنهم معصومون أيضا.
وقد قال ذو النون وغيره من العارفين: حسنات الأبرار سيئات المقربين (2).
ولذلك خاطب الله تعالى جميع المؤمنين بالتوبة، فقال:{وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31] مع أن هذا الخطاب شامل للمعصومين.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أَيُّها النَّاسُ! تُوْبُوْا إِلَىْ رَبِّكُمْ؛ فَوَاللهِ إِنِّي لأتُوْبُ إِلَىْ اللهِ فِيْ الْيَوْمِ مِئَةَ مَرَّةٍ". رواه أحمد، ومسلم (3).
قيل: توبته صلى الله عليه وسلم من تنزله إلى أوطان الرخصة لأجل التشريع.
أو من إقامته في طَور من أطوار الشريعة في نظرة، أو خطرة، أو
(1) تقدم تخريجه.
(2)
قال شيخ الإسلام في "رسالة في التوبة"(ص: 251): هذا اللفظ ليس محفوظا عمن قوله حجة، لا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من سلف الأمة وأئمتها، وإنما هو كلام وله معنى صحيح، وقد يحمل على معنى فاسد. انظر المعنيين في الرسالة المشار إليها.
(3)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(4/ 211) واللفظ له، ومسلم (2702) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
نحو ذلك دون الترقي في مدارج الكمال، وسائر الأطوار والأحوال. وقيل غير ذلك.
وكذلك تنزل توبة الملائكة على ما يليق بهم، فقد يكون توبة الملك حذراً من تقصير بفرض في وقت من الأوقات أو مخالفة لما هو من شأنهم من المداومة على الطَّاعة من غير فتور.
وقد روى الدينوري في "مجالسته" عن يوسف بن أسباط قال: سمعت الثوري يقول: بلغني أن الله تعالى يأمر الملك من الملائكة بالأمر فيقصر الطيران، فيقص جناحه، فلا يصعد إلى السَّماء إلى يوم القيامة (1).
وقد تكون توبة الملائكة من رؤية النفس، أو من سؤال عن وجه الحكمة كما في قولهم:{أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ} [البقرة: 30].
روى ابن جرير عن الحسن، وقتادة رحمهما الله تعالى قالا: لما أخذ الله في خلق آدم همست الملائكة فيما بينها، فقالوا: لن يخلق ربنا خلقا إلا كنا أعلم منه وأكرم عليه منه، فلما خلقه أمرهم أن يسجدوا له لما قالوا، ففضله عليهم، فعلموا أنهم ليسوا بخير منه، فقالوا: إن لم نكن خيراً منه فنحن أعلم منه لأنا كنا قبله، {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31)} [البقرة: 31]، فعُلِّمَ اسم كل شيء، [و] جعل يسمي كل شيء باسمه، وعرضوا عليه أمة أمة، ثم عرضهم على الملائكة فقال: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ
(1) رواه الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم"(ص: 220).