الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(1) بَابُ التَّشَبُّهِ بِالمَلَائِكَةِ عليهم السلام
(1)
بَابُ التَّشَبُّهِ بِالمَلَائِكَةِ عليهم السلام
اعلم أنَّ التَّشبه بالملائكة مشروع لأنَّهم من جملة من أمرنا بطلب الهداية إلى صراطهم في قراءة الفاتحة في قوله تعالى معلِّمًا لنا: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 6، 7]، كما تقدم عن ابن عبَّاس رضي الله تعالى عنهما.
ولعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَشَبَّه بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ"(1).
ولأنَّه قد ورد: "تَخَلَّقُوْا بِأَخْلاقِ اللهِ تَعَالَىْ"(2) مع شدَّة المباينة بينه وبين خلقه، فجواز التخلق بأخلاق الملائكة عليهم السلام والتَّشبه بهم أولى.
ولقد عاب الله تعالى إبليس الرَّجيم بتأخره عن التَّشبه بالملائكة عليهم السلام، وعاتبه على ذلك، ووبخه به، ولعنه بسببه - خصوصاً حين اعتذر عنه بما في رأيه القاصر -، فقال تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ
(1) تقدم تخريجه.
(2)
قال الإِمام ابن القيم في "مدارج السالكين"(3/ 241): باطل.
مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} [الحجر: 30 - 35].
أخرجه من جنته حين باين أهل حضرته، وفارقهم، ثمَّ رجمه ولعنه.
وحقيقة الرَّجم واللعن الإبعاد عن رحمة الله تعالى؛ لأنَّه بالغ في البعد عن أهل القربة والزلفة بتبرئته من عملهم، وتقبيحه حالهم، فبولغ في إبعاده، وأُبِّدت لعنته.
وقد رغب آدم عليه السلام في التَّشبه بالملائكة حين حدَّثه إبليس أن أكل الشجرة يلحقه بالملائكة، فكان ذلك هو الدَّاعي له على أكل الشجرة، كما قال تعالى:{وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف: 20، 21].
قال قتادة: حلف لهما بالله إبليس حتى خدعهما، وقد يُخدع المؤمن بالله (1).
قال: وكان بعض أهل العلم يقول: من خادعنا بالله خدعنا. رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم، وغيرهما (2).
فلمَّا حَلف ظنَّ آدم أن أحدًا لا يحلف بالله إلا صادقًا.
(1) رواه الطبري في "التفسير"(8/ 141).
(2)
رواه الطبري في "التفسير"(8/ 141)، وابن أبي حاتم في "التفسير"(5/ 1451).
وقد استدل بالآية من فضل الملائكة على الأنبياء عليهم السلام. ولا دليل فيها؛ لأنَّه استقرَّ في العقول أنَّ الحقائق لا تنقلب، ولكن رغب آدم وحواء أن يكون لهما ما للملائكة من تمام القوَّة، وكمال القدرة على الطَّاعة، وطول العمر فيها، وكمال الفطرة، والغنية عن المأكل والمشرب.
أو كان ذلك قبل اصطفاءآدم عليه السلام.
أو ذلك على معتقد إبليس من أنَّ جنس الملك أفضل من جنس البشر، كما نصَّ على ذلك شيخ الإِسلام والدي في "تفسيره" وغيرُه (1).
والمقصود: أنَّ طلب العبد لمشاركة الملائكة فيما هم عليه من كمال الطَّاعة، وسائر الخصال الحميدة من شأن الكلّ.
ومن أعظم الأحاديث الدَّالة على استحباب التَّشبه بالملائكة عليهم السلام ما ثبت في "صحيح مسلم"، وغيره عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثِّياب، شديد سواد الشَّعر، لا يرى عليه أثر السَّفر، ولا يعرفه منَّا أحد، حتَّى جلس إلى النَّبيِّ، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفَّيه على فخذيه، قال: يا محمَّد! أخبرني عن الإِسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لا إِلَهَ إِلَاّ اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُوْلُ اللهِ، وَتُقِيْمَ الصَّلاةَ، وَتُؤتيَ الزَّكاةَ، وَتَصُوْمَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ
(1) انظر: "الحبائك في أخبار الملائك" للسيوطي (ص: 223).
سَبِيْلاً"، قال: صدقت، فعجبنا له يسأله، ويصدِّقه، قال: فأخبرني عن الإيمان، قال: "أَنْ تُؤْمِنَ باللهِ، وَمَلائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الَاخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ؛ خَيْرِهِ، وَشَرِّهِ"، قال: صدقت، قال: فأخبرني عن "الإحسان" قال: "أَنْ تَعْبُدَ الله كَأنَّكَ تَراهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَراهُ فَإِنَّهُ يَراك"، قال: فأخبرني عن السَّاعة، قال: "مَا الْمَسْؤُوْلُ عَنْها بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ"، قال: فأخبرني عن أماراتها، قال: "أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبتَها، وَأَنْ تَرَى الْحُفاةَ الْعُراةَ رِعاءَ الشَّاءِ يتَطاوَلُوْنَ فِيْ الْبُنْيانِ"، ثمَّ انطلق، فلبث مليًّا، ثمَّ قال: "أتَدرِيْ يا عُمَرُ مَنِ السَّائِلُ؟ " قلت: الله، ورسوله أعلم، قال: "فَإِنَّهُ جِبْرِيْلُ أَتاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِيْنَكُمْ" (1).
فقوله: "أَتاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِيْنَكُمْ"؛ أي: يعلمكم أحكام دينكم، وكيف تأخذون دينكم، وتسألون عنه.
أي: فعل ذلك معلِّمًا لكم لتتشبَّهوا به في أخذكم دينكم من نبيكم، ومن علمائكم.
وقد اشتمل هذا الحديث على جملة من أخلاق الملائكة التي ينبغي التَّخلُّق بها كلبس الثّياب البيض، والتَّجمُّل للدخول على المعلِّم، والتَّادُّب معه في الجلوس بين يديه على نعت الأدب، ووضع اليدين على الرُّكبتين، والسؤال عن أحكام الدين، وعن دقائق العلم ورقائقه، ومكافأة المعلِّم بالتصديق فيما يقول، والسؤال عن العلم - وإن كان
(1) رواه مسلم (8).
السَّائل عالمًا به- ليستفيد الحاضرون، وليتعلَّموا كيفية السؤال، وحمل المعلِّم -وهو معنى الاستملاء الذي اعتاده المحدِّثون -، والبداءة في تعلُّم العلم بالأهم فالأهم، وطلب رقائق العلم بعد التضلُّع من المحتاج إليه منه، وعدم الاعتراض على الأستاذ، والإقبال عليه دون غيره في مجلس التعلُّم، وغير ذلك.
وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى النَّدب إلى التَّشبه بجبريل عليه السلام في هذه الخصال بقوله: "هَذَا جِبْرِيْلُ أتاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِيْنَكُمْ".
وقد قلت ملمِّحاً بهذا الحديث الشَّريف: [من الطويل]
لَقَدْ جاءَ جِبْرِيْلُ النَّبيَّ مُحَمَّداً
…
يُعَلّمُنا الدِّيْنَ الْقَوِيْمَ الْمُؤَيَّدَا
لَهُ أَدَبٌ فِيْ سَمْتِهِ وَتَجَمُّلٌ
…
لِيُتْبَعَ فِيْ حَمْلِ الْعُلُوْمِ وَيُقْتَدَىْ
يُسائِلُ عَنْ أَحْكامِ دِيْنٍ وَيَبْتَدِيْ
…
بِأَوْلَىْ فَأَوْلَىْ فِيْ اسْتِفَادتِهِ الْهُدَىْ
وَمِنْ بَعْدِ حُكْمِ الدِّيْنِ يَسْأَلُ عَنْ دَقا
…
ئِقَ تَعْلِيْماً لِعَبْدٍ بِهِ اقْتَدَا
تَشَبَّهْ بِهِ فِيْما ذَكَرْتُ مُحاذِراً
…
هَوَىْ مَنْ يُتابِعُهُ إِلَىْ الأَرْضِ أَخْلَدا
فَمَنْ يَكُنِ الرُّوْحُ الأَمِيْنُ إِمامَهُ
…
فَفِيْ جَنَّةِ الْفِرْدَوْسِ يَبْقَىْ مُؤَبَّدا
وذكر الإِمام أبو طالب المكي في كتاب "قوت القلوب": أنَّ في بعض كتب الله تعالى: يا بني إسرائيل! لا تقولوا: العلمُ في السَّماء من ينزل به؟ ولا في تخوم الأرض من يصعد به؟ ولا: من وراء البحار من يعبر فيجيء به؟
العلم مجعول في قلوبكم، تأدبوا بين يديَّ بآداب الروحانيين، وتخلَّقوا لي بأخلاق الصدِّيقين أظهر العلم من قلوبكم حتَّى يغطيكم، ويغمركم (1).
أراد بالرُّوحانيين: الملائكة عليهم السلام.
وقوله: مجعول في قلوبكم؛ يعني: إنَّ القلوب لها قابلية العلم، وإنَّما ينمو العلم فيها، ويظهر منها إذا تشبَّه العبد بالملائكة في الآداب، والصديقين في الأخلاق؛ لأنَّ الطَّاعة التي هي عبارة عن العمل بالعلم شكر لنعمة العلم، والشكر يقتضي المزيد.
وفي الحديث: "مَنْ عَمِلَ بِما عَلِمَ وَرَّثَهُ اللهُ عِلْمَ ما لَمْ يَعْلَمْ". رواه أبو نعيم من حديث أنس رضي الله عنه (2).
(1) انظر: "قوت القلوب" لأبي طالب المكي (2/ 398).
(2)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(10/ 15) وقال: ذكر أحمد بن حنبل هذا الكلام عن بعض التابعين عن عيسى بن مريم عليه السلام فوهم بعض الرواة =