الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفي "الحلية" لأبي نعيم: عن سفيان الثوري رحمه الله تعالى قال: إذا رأيت القارئ يلوذ بباب السلطان فاعلم أنه لصٌّ، وإذا رأيته يلوذ بالأغنياء فهو مرائي (1).
وقوله: يلوذ بالأغنياء؛ أي: يلزمهم، ويحرص على صحبتهم.
*
فَائِدَةٌ زَائِدَةٌ:
كما أن محبة أولياء الله تعالى من شرطها الإيمان به، كذلك - أيضاً - من شرط محبة الله تعالى الإيمان به، فلا يصح دعواها لغير مؤمن.
ولذلك أكذب الله تعالى اليهود في قولهم: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] بقوله: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} [المائدة: 18]، وذلك لأنهم لو أحبُّوه لأحبَّهم، ولو أحبَّهم لم يعذبهم.
ودليل أنهم لم يحبوه، أنهم لم يؤمنوا به كما ينبغي، ولو آمنوا به لم يؤثروا عليه شيئاً، ولَمَّا لم يحبهم عذَّبهم بذنوبهم.
وفي الحديث: "وإِذا أَحَبَّ اللهُ عَبْداً لَمْ يَضُرَّهُ ذَنْبٌ". رواه القشيري في "الرسالة"، وغيره عن أنس (2).
= وقال العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء"(2/ 873): منقطع.
(1)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(6/ 387).
(2)
رواه القشيري في "رسالته"(ص: 126) والديلمي في "مسند الفردوس"(2432).=
ومعنى أنه "لم يضره ذنب": أنه لم يعذبه به بأن يوفقه للتوبة، أو يعفو عنه.
ثمَّ لا بد مع الإيمان أن لا يقع من المحب المعصية على قصد المخالفة، والمعاندة لمباينتها للإيمان حينئذٍ، وهذا ما كان يقصده عبد الله ابن المبارك، ورابعة العدوية رحمهما الله تعالى بما كانا يتمثلان به من قول أبي العتاهية:[من الكامل]
تَعْصِيْ الإِلَهَ وَأَنْتَ تُظْهِرُ حُبَّهُ
…
هَذَا لَعَمْرِيْ فِيْ الأَنامِ بَدِيْع
لَوْ كانَ حُبُّكَ صادِقًا لأَطَعْتَهُ
…
إِنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيْعُ
بخلاف المعصية التي تكون عن خطأ وزلة؛ فإن ذلك مقتضى جِبِلَّة البشر، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"كُلُّ يَنِيْ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِيْنَ التَّوَّابُوْنُ". رواه الإمام أحمد، وابن ماجه، والترمذي، والحاكم - وصححاه - من حديث أنس رضي الله تعالى عنه (1).
= قال ابن القيم في "بدائع الفوائد"(3/ 522): وهذا كذب قطعاً مناف للإسلام، فالذنوب تضر بالذات لكل أحد، كضرر السم للبدن، ولو قدر أن هذا الكلام صح عن بعض الشيوخ، وأما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمعاذ الله.
(1)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(3/ 198)، وابن ماجه (4251)، والترمذي (2499)، ورواه الحاكم في "المستدرك"(7617).
فهذه المعصية لا تناقض محبة العبد لله تعالى، ولا تقعد بمحب الله ورسوله وأنبيائه وصالحي خلقه عن اللحاق بهم في جوار الله تعالى وداره.
وعلى ذلك ما روي في الحديث الصحيح: أن نعيمان رضي الله
تعالى عنه كان يؤتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم شارباً، فأتي به مرة، فحدَّه النبي صلى الله عليه وسلم، وضربه بالنِّعال، فلعنه رجل، وقال: ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا تَلْعَنْهُ"، وفي رواية:"لا تَسُبُّوْا نُعيْمانَ؛ فَإِنَّهُ يُحِبُّ اللهَ وَرَسُوْلَهُ"(1).
فأثبت له النبي صلى الله عليه وسلم محبة الله ورسوله مع هذه المعصية؛ لأنها كانت عن خطأ وزلة، لا عن قصد المباينة والمخالفة؛ فإنها لو كانت كذلك لكانت مناقضة للمحبة؛ فإن هذه المعصية لا تجامع المحبة
(1) رواه عبد الرزاق في "المصنف"(17802)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى"(3/ 493) عن زيد بن أسلم.
وأصل الحديث عند البخاري (2191) عن عقبة بن الحارث، وفي البخاري أيضاً (6398) نحو هذا اللفظ لكن عن عمر رضي الله عنه وفيه: أن عبد الله الملقب بحمار جلد لشربه الخمر.
وقد ظن بعضهم أن الحادثة متحدة، قال الحافظ في "الفتح" (12/ 77): قصة عبد الله كانت في خيبر، فهي سابقة على قصة النعيمان.
وقال في "الإصابة في تمييز الصحابة"(6/ 464) - بعد أن بين أن اللاعن هو عمر -: قاله لعبد الله الذي كان يلقب حماراً، فهو يقوي قول من زعم أنه ابن النعيمان، فيكون ذلك وقع للنعيمان وابنه، ومن يشابه أباه فما ظلم.
أصلاً بخلاف تلك.
وأنت فتأمل في قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31]؛ فإنه أثبت للمحبين ذنوباً تغفر، وهي ذنوب الخطأ والزلات، لا ذنوب القصد والمخالفات.
وفي الآية لطيفةٌ، وهي أنه سبحانه وتعالى جعل وجود المحبة مشروطاً بوجود الاتباع، لا بعدم المعصية.
قال وهب بن منبه: قال إبليس: يا رب! إن عبادك يحبونك ويعصونك، ويبغضوني ويطيعوني، فقال الله تعالى: إني قد غفرت لهم ما يعصوني بما أحبوني، وعفوت عما يطيعونك بما أبغضوك.
وروى الطبراني، والبيهقي في "شعب الإيمان" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ ذَنْباً يَعْتَادُهُ الْفَيْنَةَ (1) بَعْدَ الْفَيْنَةِ، أَوْ ذَنْباً لا يَتْرُكُهُ حَتَّىْ يَمُوْتَ، إِنَّ الْمُؤْمِنَ خُلِقَ خَطَّاءَ نسَّاءَ، فَإِذَا ذَكَرَ ذُكِرَ"(2).
وروى البزار، والطبرانيُ - وحسنه ابن حجر في "أماليه" - عن جابر رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الْمُؤْمِنُ وَاهٍ رَاقِعٌ (3)، وَسَعِيْدٌ
(1) أي: الحين بعد الحين.
(2)
رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(10666)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(7124)، وحسنه العراقي في " تخريج أحاديث الإحياء"(2/ 1002).
(3)
قوله: (واهٍ راقع)؛ أي: يَهِيْ دينه بمعصيته، ويرقعه بتوبته، من رقعت الثوب: إذا رممته. انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (2/ 251).