الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
6 - ومن الفوائد المشار إليها: أن هذه الأمة لمَّا ورثوا علوم الأولين اطلعوا على أخبارهم
، وأحوالهم، وصبر أنبيائهم وصالحيهم، وما أوتي الصالحون منهم في مقابلة الصبر، والاحتمال كما قال تعالى:{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24].
فيكون ذلك تثبيتاً لأفئدتهم، وتسلية لقلوبهم، كما قال تعالى:{وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود: 120].
قال أبو عبد الرحمن السلمي في "حقائقه": سمعت محمد بن عبد الله، سمعت علي بن الأزهر الحلبي، سمعت أبا بكر الكسائي يقول: سألت الجنيد رحمه الله تعالى عن مجاراة الحكايات، فقال: هي جند من جنود الله في أرضه يقوي بها أحوال المريدين، فقلت: ألذلك أصل في الكتاب؟ قال: نعم؛ قوله تعالى: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود: 120].
7 - ومنها: أن الله تعالى حيث أورث هذه الأمة علوم المتقدمين
، وأطلعهم على أخبار الأمم السالفين، وما كانوا عليه من الاسترسال في المعاصي، وإيثار الحياة الدنيا على الآخرة، والمكابرة في الكفر مع ورود الآيات البينات، والحجج القاطعات، وكيف أمهلهم الله تعالى المدد الكثيرة، والأعمار الطويلة، ثم كيف استأصلهم بالعذاب وأخذهم الأخذة الوبيلة، فيكون سبباً لانزجار هذه الأمة، واتعاظها، واعتبارها، واستبصارها، واستقامتها على أعمال الخير، وتجنبها عن أعمال السوء، كما قال الله تعالى:{قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [آل عمران: 137].
يعني - والله أعلم -: أتعملون بأعمالهم، أم تؤمنون بالثه، وتطيعونه؟ وروى أبو الشيخ: أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قرأ هذه الآية فقال: صدق ربنا، ما جعلنا خلائف في الأرض إلا لينظر إلى أعمالنا، فأَرُوا الله خير أعمالكم بالليل والنهار، والسر والعلانية (1).
وفي كلامه إشارة إلى أن الله تعالى ينظر إلى سر العبد كما ينظر إلى علانيته.
وفي "صحيح مسلم" عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: "إِنَّ اللهَ لا يَنْظُرُ إِلَىْ صُوَرِكُمْ وَأَمْوالِكُمْ، وَلَكِنْ إِنَّما يَنْظُرُ إِلَىْ قُلُوْبِكُمْ وَأَعْمالِكُمْ"(2).
وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يَنْظُرُ إِلَىْ صُوَرِكُمْ وَأَمْوالِكُمْ"؛ أي: لا يعبأ بها،
(1) ورواه ابن أبي حاتم في "التفسير"(6/ 1934).
(2)
رواه مسلم (2564).
وإلا فإنه سبحانه بصير بكل شيء.
ومن لطائف الاعتبارات بأحوال الأمم الماضية: ما رواه أبو نعيم في "الحلية"، وغيره عن علقمة بن مرثد: أنه قيل للربيع بن خُثيم رحمه الله تعالى حين أصابه الفالج: لو تداويت! قال: لقد علمت أن الدواء حق، ولكن ذكرت عاداً وثموداً وأصحاب الرس، وقرونا بين ذلك كثيراً؛ كانت فيهم الأوجاع، وكانت لهم الأطباء، فما بقي المداوِي، ولا المداوَى (1).
وجه الاعتبار: أن المقيم في هذه الدنيا على أي حالة من نعمى أو بؤس، أو صحة أو مرض، فإن ثواه فيها قليل، ولا بد من الموت والانتقال إلى دار أخرى، واستعمال الدواء لا يفيد دفاع الموت - وإن أفاد البرء من المرض - فلا ينبغي الاهتمام به، بل بما ينفع في الدار الآخرة، فإن عادًا وثموداً، وسائر الأمم الماضية انقضت أيامهم، وبقيت آثامهم، فينبغي أن لا يكون على ما كانوا عليه من الاهتمام بنعيم الدنيا، ودفع مكروهها، بل بما نحن إليه صائرون، وعليه عابرون.
وقال أبو العتاهية في معنى كلام الربيع: [من الكامل]
إِنَّ الطَّبِيْبَ بِطِبِّهِ وَدَوائِه
…
لا يَسْتَطِيع دِفاعَ مَكْرُوهٍ أتىْ
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(2/ 106).
مَا لِلطَّبِيْبِ يَمُوْتُ بِالدَّاءِ الَّذِيْ
…
قَدْ كانَ يُبْرِيْ مِنْهُ فِيْما قَدْ مَضَىْ
ذَهَبَ الْمُداوِيْ وَالْمُداوَىْ والَّذِيْ
…
جَلَبَ الدَّواءَ وَباعَهُ وَمَنِ اشْتَرَىْ
وفي "الحلية" عن الربيع بن خُثيم - أيضاً - قال: عجبت لملك الموت، وإتيانه ثلاثة:
1 -
مَلِك ممتنع في حصونه، فيأتيه فينزع نفسه، ويدع مُلْكَه خلفه.
2 -
ومسكين منبوذ بالطريق يقذره الناس أن يدنوا منه، لا يقذره ملك الموت، فينزع نفسه.
3 -
وطبيب نحرير يداوي الناس، فيأتيه فينزع نفسه، ويدع طبه خلفه (1).
ووجه تعجبه من إتيان ملك الموت هؤلاء الثلاثة: أن الموت رصد لهم، والملك غافل عنه لشغله بملكه، والفقير ناس له لاشتغاله بالفقر، وخوفه مما يترتب عليه من جوع، أو عري، أو غيرهما، والطبيب مشغول بتشخيص علل غيره، وعلاجه، وسعيه في نفع من سواه، فجاءه الموت فأبطل حركته، وعطَّل علاجه، ولم يمكنه دفعه عن نفسه، وجاء المسكين فأخذه قبل نزول ما كان يتوقعه من المكروه، وجاء الملك فأخلى منه
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(2/ 115).