الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
* وحيث كشف الله تعالى لهذه الأمة علم الأمم السابقة، وأخبارهم يترتب على ذلك فوائد وحكم، وهي في الحقيقة مترتبة على تأخير هذه الأمة أيضاً:
5 - فمنها: شهادة هذه الأمة على الأمم السابقة
.
قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143].
وفي "صحيح البخاري"، وغيره عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يُدْعَىْ نُوْحٌ يَوْمَ الْقِيامَةِ عليه السلام فَيُقالُ: هَلْ بَلَّغْتَ؟ فَيَقُوْلُ: نعمْ، فَتُدْعَىْ أُمَّتُهُ، فَيُقالُ لَهُمْ: هَلْ بَلَّغَكُمْ؟ فيَقُوْلُوْنَ: ما أَتانا مِنْ نَذِيْرٍ، وَما أَتانا مِنْ أَحَدٍ، فَيُقالُ: مَنْ يَشْهَدُ لَكَ؟ فَيقُوْلُ: مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم وَأُمَّتُهُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالَىْ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]، - قال: وَالْوَسَطُ الْعَدْلُ - فتدْعَوْنَ، فَتَشْهَدُوْنَ لَهُ بِالْبَلاغ، وَأَشْهَدُ عَلَيْكُمْ"(1).
فلولا تأخر هذه الأمة عن الأمم لم يكونوا شهداء على الناس؛ لأن الشاهد لا بد أن يشاهد ثم يشهد، ومحال أن يشاهد المرء شيئاً مات قبل وجوده، وإنما كانت شهادتهم على من تقدمهم مقبولة؛ لأن ذلك قد وصل إليهم بطريق يفيد اليقين، وهو خبر النبي صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن إخباره صلى الله عليه وسلم إياهم أتم في إفادتهم اليقين من مشاهدتهم له بالإبصار؛ لأن خبره مطابق
(1) رواه البخاري (6917).
للواقع كما هو عند الله تعالى بلا محالة، فخبره صلى الله عليه وسلم قائم مقام العيان، وأتم منه؛ إذ يمكن في المعاينة أن يحول بين المعاين وبين إدراكه الشيء على ما هو عليه حائل ما؛ كالغفلة المُكَدِّرة لإدراكه بنحو إفراط فرح أو تَرح، أو جوع أو عطش أو نعاس أو فتور أو مرض أو غلبة خلط أو غير ذلك، وهذا محال - أي: تكدير الإدراك بشيء من ذلك - في حقه صلى الله عليه وسلم؛ فإنه معصوم، ولذلك قال تعالى:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]، ولأن قلبه لم يكن لينام - وإن نامت عيناه -، كما قال صلى الله عليه وسلم:"يَا عَائِشَةُ إِنَّ عَيْنَيَّ تَنامانِ وَلا يَنامُ قَلْبِيْ". رواه الشيخان (1).
وروى أبو نعيم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: حضرت عصابة من اليهود يوماً النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لهم:"أَنْشُدُكُمْ بِاللهِ الَّذِيْ أَنْزَلَ التَّوْراةَ عَلَىْ مُوْسَىْ عليه السلام: هَلْ تَعْلَمُوْنَ أَنَّ هَذا النَّبِيَّ تَنامُ عَيْناهُ، وَلا يَنامُ قَلْبُه؟ قالُوْا: اللَّهُمَّ نعمْ، قالَ: "اللَّهُمَّ اشْهَدْ" (2).
وقال صلى الله عليه وسلم: "إِني لأَنْظُرُ إِلَىْ ما وَرائِيْ كَما أَنْظُرُ إِلَىْ ما بَيْنَ يَدَيَّ".
رواه الحاكم، وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه (3)، وأصله في "الصحيحين"(4).
(1) رواه البخاري (1909)، ومسلم (738) عن عائشة.
(2)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(1/ 278)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء"(4/ 305)، والبيهقي في "دلائل النبوة"(6/ 267).
(3)
رواه الحاكم في "المستدرك"(861)، والإمام أحمد في "المسند"(2/ 505).
(4)
رواه البخاري (409) بلفظ: "إنىِ لأَرَاكُمْ من وَرَائِي كما أَرَاكُمْ"، ومسلم=
وقال الله تعالى: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم: 17].
وقال: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم: 4].
فإن فرض أنه حصل من النبي صلى الله عليه وسلم ما قد يحول بينه وبين الإدراك من أحوال البشر - كالنسيان -، فإن ذلك يكون في غير وقت التبليغ، بل هو صلى الله عليه وسلم في نفس تلك الأحوال مقيم على وظيفة التشريع، والتبليغ، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"أَنا لا أَنْسَىْ، وَلَكِنْ أُنسًّى لأُشَرِّعَ (1) "، وفي رواية:"لأَسُنَّ". رواه الإمام مالك، وغيره (2).
وروى أبو داود عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه، فنهتني قريش، وقالوا: تكتب كل شيء ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر، فيتكلم في الغضب والرضى، فأمسكت عن الكتاب، وذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأومى بأصبعه إلى فيه، وقال لي:"اكْتُبْ، فَوَالَّذِيْ نَفْسِيْ بِيَدهِ ما يَخْرُجُ مِنْهُ إِلَاّ حَقٌّ"(3)؛ يعني: سواء
= (423) بلفظ: "والله لأُبْصِرُ من وَرَائِي كما أُبْصِرُ من بَيْنِ يَدَيَّ".
(1)
في "أ": "أشرع".
(2)
رواه الإمام مالك "في الموطأ"(1/ 100).
قال ابن عبد البر في "التمهيد"(24/ 375): هذا الحديث بهذا اللفظ لا أعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم بوجه من الوجوه مسنداً ولا مقطوعاً من غير هذا الوجه والله أعلم، وهو أحد الأحاديث الأربعة في الموطأ التي لا توجد في غيره مسندة ولا مرسلة والله أعلم، ومعناه صحيح في الأصول.
(3)
رواه أبو داود (3646)، والإمام أحمد في "المسند"(2/ 162).
في ذلك حالة الرضى وحالة الغضب.
ولهذا الذي ذكرناه بعينه كان صلى الله عليه وسلم شاهداً لأمته إذا شهدوا للأنبياء عليهم السلام على أممهم، ومزكياً لهم، وكفى به مزكياً.
كيف واللهُ تعالى زكَاهم في الدنيا بقوله تعالى: {أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143].
والوسط العدل، كما تقدم تفسيره في الحديث.
ويزكيهم في الآخرة - أيضاً -، كما يدل عليه ما رواه الإمام أحمد، والنسائي، والبيهقي عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَجِيْءُ النَّبِيُّ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمَعَهُ الرَّجُلُ، وَالنَّبِيُّ وَمَعَهُ الرَّجُلانِ، وَكثَرُ مِنْ فَلِكَ، فَيقالُ لَهُمْ: فَلْ بَلَّغْتُمْ؟ فَيُقُوْلُوْنَ: نعمْ، فَيُدْعَىْ قَوْمُهُمْ، فَيُقالُ لَهُمْ: هَلْ بَلّغُوْكُمْ؟ فَيقُوْلُوْنَ: لا، فَيُقالُ لِلنَّبِيِّيْنَ: مَنْ يَشْهَدُ لَكُمْ أَنَكمْ بَلَّغْتُم؟ فَيَقُوْلُوْنَ: أُمَّةُ مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم، فَتُدْعَىْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، فَيَشْهَدُوْنَ أَنّهمْ قَدْ بَلَّغُوْا، فَيُقالُ لَهُمْ: وَما عِلْمُكُمْ أَنَّهُمْ قَدْ بَلَّغُوْا؟ فَيَقُوْلُوْنَ: جَاءَنا نبِيُّنا بِكِتابٍ أَخْبَرَنا أَنَّهمْ قَدْ بَلَّغُوْا، فَصَدَّقْناهُ، فَيُقالُ: صَدَقْتُمْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَىْ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]، - قَالَ: عَدْلاً -، {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] الآية"(1).
(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(3/ 58)، والنسائي في "السنن الكبرى"(11007)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(264).