الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَصْلٌ
قد ذكرنا من الآيات الواردة في الإرشاد إلى التشبه بالصالحين ما تيسر إيراده، وأما الأحاديث الواردة في ذلك فكثيرة جداً، وأكثرها مما صح، أو حَسُنَ إسناده.
فمن ذلك ما روى أبو داود، والترمذي - وقال: حسن صحيح -، وابن ماجه، وابن حبان في "صحيحه"، والشيخ نصر المقدسي في كتاب "الحجة"، واللالكائي في "السنة"، وغيرهم عن العِرْباض بن سَارية رضي الله تعالى عنه قال: وَعَظَنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم موعظة وَجِلت منها القلوب، وذَرَفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله! كأنها موعظة مُودِّع، فأوصنا، قال:"أُوْصِيْكُمْ بِتَقْوَىْ اللهِ، وَالسَّمْعِ، وَالطَّاعَةِ - وإِنْ تأَمَّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ -، وإنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَىْ اخْتِلافاً كَثِيْراً، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِيْ، وَسُنَّةِ الْخُلَفاءِ الرَّاشِدِيْنَ الْمَهْدِيِّيْنَ؛ عَضُّوْا عَلَيْهَا بِالنَّواجِذِ، وإيَّاكُمْ وَمُحْدَثاتِ الأُمُوْرِ، فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ"(1).
(1) رواه أبو داود (4607)، والترمذي (2676) وقال: حسن صحيح، وابن ماجه (42)، وابن حبان في "صحيحه"(5)، واللالكائي في "اعتقاد أهل السنة"(1/ 22).
وروى مسلم عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَ أَحْسَنَ الْحَدِيْثِ كِتابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْي هَدْيُ مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم، وَشَرَّ الأمُوْرِ مُحْدَثَاتُها، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ ضَلالَةٌ"(1).
والهدي هو: المذهب، والطريقة.
وروى الشيخان عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "بَلَغَنِيْ أَنَّكَ تَصُوْمُ النَّهارَ، وَتَقُوْمُ اللَّيْلَ، فَلا تَفْعَلْ؛ فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقَّا، وَلِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقَّا، وإنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، صُمْ وَأفطِرْ، صُمْ مِنْ كُل شَهْرٍ ثَلاثَةَ أيَّامٍ فَذَلِكَ صَوْمُ الدَّهْرِ"، فقلت: يا رسول الله! إن لي قوة، فقال:"فَصُمْ صَوْمَ دَاوُدَ عليه السلام صُمْ يَوْماً، وَأَفْطِرْ يَوْماً"، وكان يقول: يا ليتني أخذت بالرخصة (2).
ورويا عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَىْ اللهِ صِيامُ دَاوُدَ، وَأَحَبُّ الصَّلاةِ إِلَىْ اللهِ صَلاةُ دَاوُدَ؛ كانَ يَنامُ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَيَقُوْمُ ثُلُثَهُ، وَيَنامُ سُدُسَهُ، وَكانَ يُفْطِرُ يَوْماً، وَيَصُوْمُ يَوْماً"(3).
وروى البخاري، وغيره عن المقدام بن مَعْدِي كَرب رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَاماً قَطُّ خَيْراً مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدهِ، وَإِنَّ نبَيَّ اللهِ دَاوُدَ عليه السلام كانَ يَأكُلُ
(1) رواه مسلم (867).
(2)
رواه البخاري (1878)، ومسلم (1159) واللفظ له.
(3)
رواه البخاري (1079)، ومسلم (1159).
مِنْ عَمَلِ يَدهِ" (1).
وروى ابن ماجه، والحاكم - وقال: صحيح الإسناد، واعْتُرِضَ في تصحيحه - عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! ما هذه الأضاحي؟ قال: "سُنَّةُ أَبِيْكُمْ إِبْراهِيْمَ عليه السلام"، قالوا: فما لنا فيها يا رسول الله؛ قال: "بِكُلِّ شَعْرَة حَسَنَةٌ"، قالوا: فالصوف؟ قال: "بِكُلِّ شَعْرَةٍ مِنَ الصُّوْفِ حَسَنةٌ"(2).
وروى الإمام أحمد، والبخاري عن سَلَمة بن الأَكْوع رضي الله تعالى عنه، والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ارْمُوْا بَنِيْ إِسْماعِيْلَ؛ فَإِنَّ أَباكُمْ كانَ رامِياً"(3).
وروى الإمام أحمد، والترمذي وحسنه، وغيرهما عن أبي أيوب رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أَرْبَعٌ مِنْ سُنَنِ الْمُرْسَلِيْنَ، الْحَياءُ، وَالتَّعَطُّرُ، وَالنِّكاحُ، وَالسِّواكُ"(4).
وروى أبو عوانة، وغيره - بإسناد صحيح - في كتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى عتبة بن فَرقد - وهو أمير الجيش بأذربيجان - قال:
(1) رواه البخاري (1966).
(2)
رواه ابن ماجه (3127)، والحاكم في "المستدرك "(3467)، ونقل البيهقي في "السنن الكبرى" (9/ 261): أن البخاري قال: عائذ الله المجاشعي عن أبي داود، روى عنه سلام بن مسكين، لا يصح حديثه.
(3)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(4/ 50)، والبخاري (2743).
(4)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(5/ 421)، والترمذي (1080) وحسنه.
أَمَّا بَعْدُ فَاتَّزِرُوْا، وَارْتَدُوْا، وَألقُوْا الْخِفافَ، وَالسَّرَاويلاتِ، وَعَلَيْكُمْ بِلِباسِ أَبِيْكُمْ إِسْماعِيْلَ، وَإِيَّاكُمْ وَالتنَعُّمَ، وَزِيَّ الأَعَاجِمِ (1).
وروى الإمام ابن أبي حاتم الرازي، ومحيى السنة البغوي في "تفسيريهما" عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: ظَلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صائماً، ثم طوى، ثم ظل صائماً، ثم طوى، ثم ظل صائماً، قالَ:"يا عائِشَةُ! إِنَّ الدُّنْيا لا تنبَغِيْ لِمُحَمَّدٍ، وَلا لآلِ مُحَمَّدٍ، إِنَّ اللهَ لَمْ يَرْضَ مِنْ أُوْلِيْ الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ إِلَّا بِالصَّبْرِ عَلَىْ مَكْرُوْهِها، وَالصَّبْرِ عَنْ مَحْمُوْدها، وَلَمْ يَرْضَ مِنِّيَ إِلَّا أَنْ يُكَلِّفَنِيْ ما كَلَّفَهُمْ؛ قالَ: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35]، وإِني لا بُدَّ لِيْ مِنْ طاعَتِهِ، وإِني - وَاللهِ - لأَصْبِرَنَّ كَمَا صَبَرُوْا جُهْدِيَ، وَلا قُوَّةَ إِلَاّ بِاللهِ"(2).
وروى مسلم، والترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إِلَاّ طَيِّباً، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِيْنَ بِما أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِيْنَ، فَقَالَ:{يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51]، وَقالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
(1) رواه أبو عوانة في "المسند"(8514)، وابن حبان في "صحيحه"(5454)، وصححه النووي في "شرح مسلم"(14/ 47).
(2)
رواه ابن أبي حاتم في "التفسير"(10/ 3297)، والبغوي في "التفسير" (4/ 176). قال العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء" (11/ 1103): مجالد - يعني: ابن سعيد - مختلف في الاحتجاج به.
آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172]، ثُمَّ ذَكر الرَّجُلَ يُطِيْلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَىْ السَّماءِ: يا رَبِّ، يا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرامِ، فَأَنَّىْ يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ! " (1).
وهذا الحديث نص أن الله تعالى أوجب على المؤمنين أن يقتدوا بالمرسلين في أكل الطيب - وهو الحلال - وأن يتشبهوا بهم في ذلك، وفي العمل الصالح أيضاً.
وروى أبو داود، والنسائي عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما: أن رجلاً قال: يا رسول الله! إن المؤذنين يفضلوننا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"قُلْ كَما يَقُوْلُوْنَ، فَإِذا انتهَيْتَ فَسَلْ تُعْطَهْ"(2).
وروى أبو داود، والحافظ ضياء الدين في "الأحاديث المختارة" عن أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أَيَعْجَزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُوْنَ كَأَبِيْ ضَمْضَمَ! كانَ إِذا خَرَجَ مِنْ مَنْزِلهِ قالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي قَدْ تَصَدَّقْتُ بِعِرْضِيَ عَلَىْ عِبادِكَ"(3).
(1) رواه مسلم (1015)، والترمذي (2989).
(2)
رواه أبو داود (524)، والنسائي في "السنن الكبرى"(9872)، وصححه ابن القيم في "جلاء الأفهام في الصلاة على خير الأنام" (ص: 373).
(3)
رواه أبو داود (4887)، والضياء المقدسي في "الأحاديث المختارة" (5/ 150) وقال: رجاله ثقات وإرساله أصح.
ورواه البزار، وابن السُّنِّي، ولفظه:"أَيَعْجَزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُوْنَ كَأَبِيْ ضَمْضَمَ؟ " قالوا: ومن أبو ضمضم يا رسول الله؟ قال: "كانَ إِذَا أَصْبَحَ قالَ: اللَّهُمَّ إِني قَدْ وَهَبْتُ نَفْسِيَ وَعِرْضِيَ لَكَ، فَلا يَشْتُمُ مَنْ شَتَمَهُ، وَلا يَظْلِمُ مَنْ ظَلَمَهُ، وَلا يَضْرِبُ مَنْ ضَرَبَهُ"(1).
وفي رواية قيل: ماذا كان يصنع أبو ضمضم؟ قال: "كانَ رَجُلاً مِمَّنْ كانَ قَبْلَنا إِذا أَصْبَحَ قالَ: اللَّهُمَّ إِني قَدْ تَصَدَّقْتُ الْيَوْمَ بِعِرْضِيَ عَلَىْ مَنْ ظَلَمَنِيْ؛ فَمَنْ ضَرَيَنيْ لا أَضْرِبُهُ، وَمَنْ شَتَمَنِيْ لا أَشْتُمُهُ، وَمَنْ ظَلَمَنِيْ لا أَظْلِمُهُ"(2).
وروى الإمام أحمد، والترمذي وحسنه، وابن ماجه، وابن حبان في "صحيحه" عن حذيفة رضي الله تعالى عنه قال: كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:"إِني لا أَدْرِيْ ما قَدْرُ مُقامِيَ فِيْكُمْ، فَاقْتَدُوْا بِالَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِيَ - وأشار إلى أبي بكر، وعمر رضي الله تعالى عنهما - وَاهْتَدُوْا بِهَدْيِ عَمَّارَ، وَما حَدَّثَكُمُ ابْنُ مَسْعُوْدٍ فَصَدِّقُوْه"(3).
وروى البخاري، وغيره عن عبد الرحمن بن زيد قال: سألنا
(1) رواه البزار في "المسند"(7269)، وابن السني في "عمل اليوم والليلة" (ص: 60) واللفظ له. وضعفه العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء"(2/ 825).
(2)
رواه الطبراني في "مكارم الأخلاق"(ص: 64).
(3)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(23324)، والترمذي (3799) وحسنه، وابن ماجه (97) مختصراً، وابن حبان في "صحيحه"(6902).
حذيفة رضي الله عنه عن رجل قريبِ السَّمْتِ والهَدْي من النبي صلى الله عليه وسلم حتى نأخذ عنه، فقال: ما أعلم أحداً أقربَ سمتاً، وهدياً، ودَلاًّ بالنبي صلى الله عليه وسلم من ابن أُمِّ عبَد (1).
يعني: عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
والسَّمت: حسن الهيئة.
والهدي: المذهب، والطريقة.
والدَّل: الشكل والشمائل - كما أفاد شيخ الإسلام الوالد رحمه الله تعالى في معاني الألفاظ الثلاثة، وقرأته بخطه -.
وروى أبو الفرج بن الجوزي في "صفة الصفوة" عن مالك بن أنس رحمه الله تعالى قال: لم يكن في زمان سالم بن عبد الله - رضي الله تعالى عنه وعن أبيه وجده - أشبه بمن مضى من الصالحين في الزهد والقصد والعيش منه؛ كان يلبس الثوب بدرهمين، ورآه سليمان بن عبد الملك، وراه حسن السَّحَنة (2)، فقال له: أي شيء تأكل؟ قال: الخبز والزيت، وإذا وجدت اللحم أكلته، قال له: أو تشتهيه؟ قال: إذا لم أشتهه تركته حتى أشتهيَه (3).
(1) رواه البخاري (3551) واللفظ له، والترمذي (3807).
(2)
السحنة: بين البشرة والنعمة، وقيل الهيئة واللون. انظر:"المحكم" لابن سيده (3/ 199)(مادة: سحن).
(3)
رواه ابن الجوزي في "صفة الصفوة"(2/ 90).
وروى أبو نعيم في "الحلية" في مناقب علقمة بن قيس النخعي رحمه الله تعالى: أن أبا معمر قال: دخلت على عمرو بن شرحبيل، فقال: انطلقوا بنا إلى أشبه الناس هدياً وسمتا بعبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: فدخلنا على علقمة (1).
وروى - أيضاً - عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود رضي الله عنها قال: كان الربيع بن خُثَيم إذا دخل على عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنهما لم يكن عليه إذن لأحد حتى يفرغ كل واحد من صاحبه، قال: فقال عبد الله: يا أبا يزيد! لو رآك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحبَّك، وما رأيتُك إلا ذكرتُ المُخْبتينَ (2).
أي: لِمَا أَراه منك من تحلِّيك بحُلاهم من الوَجَل، والصبر، وملازمة الصلوات، والإنفاق مما رزقت، كما قال الله تعالى:{وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الحج: 34، 35].
وقال ابن عباس (3)، وقتادة (4):{وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} [الحج: 34]: المتواضعين.
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(2/ 98)، ورواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(34896).
(2)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(2/ 106).
(3)
انظر "تفسير الثعلبي"(7/ 22).
(4)
رواه الطبري في "التفسير"(17/ 161).
وقال مجاهد: المطمئنين إلى الله (1).
وقال عمرو بن أويس: الذين لا يظلمون، وإذا ظلموا لم ينتصروا (2).
فانظر كيف أثنى ابن مسعود رضي الله عنه على الربيع بن خُثَيم رحمه الله تعالى، ومدحه بما يلوح عليه من آثار مَنْ هَذِهِ صِفاتُهم، ولولا تخلقه بأخلاقهم، وتشبهه بهم لم تلح عليه آثارهم، ولم يشهد له بها ابن مسعود رضي الله تعالى عنه.
وروى ابن الجوزي في "صفة الصفوة": أن أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى سئل عن مالك رحمه الله تعالى فقال: مالك سيد من سادات أهل العلم، وهو إمام في العلم والفقه، ثم قال: ومن مثل مالك؟ متبعٌ لآثار من تقدم مع عقل وأدب (3).
وروى البخاري في "الصحيح" عن ابن أبي مُلَيكة: أنه سمع ابن عباس رضي الله عنهما يقول: وُضع عمر رضي الله عنه على سريره، وقد كنفه الناس يدعون، ويصلون قبل أن يرفع، وأنا فيهم، فلم يَرُعْني إلا رجل أخذ بمنكبي، فإذا علي رضي الله تعالى عنه فترحَّم على عمر، وقال: ما خلَّفتَ أحدًا أحبَّ إليَّ أن ألقى الله بمثل عمله منك، وايم الله إن كنت أظن أن يجعلك الله
(1) رواه الطبري في "التفسير"(17/ 161).
(2)
رواه الإمام أحمد في "الزهد"(ص: 381)، والطبري في "التفسير"(17/ 161).
(3)
رواه ابن الجوزي في "صفة الصفو"(2/ 179).
مع صاحبيك، إني كنت كثيراً أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:"ذهبْتُ أَنَا وَأَبُوْ بَكْرٍ وَعُمَرُ"(1).
وروى ابن الجوزي عن جعفر بن محمد رحمهما الله تعالى، عن أبيه قال: لما غسل عمر، وكفن، وحمل على سريره، وقف عليٌّ رضي الله عنه فقال: والله ما على الأرض رجل أحبُّ أن ألقى الله بصحيفته من هذا المُسَجَّى بالثوب (2).
فانظر في تمني علي رضي الله تعالى عنه أن يلقى الله بعمل مثل عمل عمر رضي الله تعالى عنه وصحيفة مثل صحيفته؛ فإنه من أعظم الأدلة على استحباب موافقة الصالحين في أعمالهم وخلائقهم.
وروى أبو نعيم عن سعيد بن المسيِّب قال: مات ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يوم مات، وما في الأرض أحد أحب إليَّ أن ألقى الله بمثل عمله منه (3).
وروى ابن الجوزي عن تميم بن خُرَيم قال: جالست أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر، وعمر رضي الله تعالى عنهما، ما رأيت أزهد في الدنيا، ولا أرغب في الآخرة، ولا أحب إلي أن كون في مسلاخه (4) من
(1) رواه البخاري (3428)، ومسلم (2389).
(2)
رواه ابن الجوزي في "صفة الصفوة"(1/ 292)، وكذا رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى"(3/ 370).
(3)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(1/ 305).
(4)
أي في ثيابه التي يجددها استعارة كأنه تمنى أن يكون في مثل هديه =
عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه (1).
وروى أبو نعيم عن سليمانَ التَّيمي قال: ما أجد أحب إلي أن ألقى الله عز وجل بمثل صحيفته إلا محمد بن واسع رحمه الله تعالى (2).
وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن أبي عبيدة بن مسعود أنه قال: ما من الناس من - أحمر ولا أسود، ولا عبد عجمي أو فصيح - أعلم أنه أفضل مني بتقوى إلا أحببت أن أكون في مسلاخه (3).
وروى عبد الله - ابنه - في "زوائد الزهد" عن أبي إسحاق - يعني: السَّبيعي - قال: كان الحسن البصري يُشبه أصحابَ النبي صلى الله عليه وسلم (4).
وروي فيه عن ابن الشَّعبي: أن أباه والحسن اجتمعا لما أتيا ابن هُبيرة، فنزلا منزلاً، فجعل الشعبي يخف للحسن ويعاطيه، فقال له ابنه: يا أبتاه! إني أراك تصنع مع هذا الشيخ شيئاً لم أرك تصنعه بأحد؟ قال: يا بني! أدركت سبعين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فلم أر أحداً أشبه بهم
=وطريقته ما استحسنه منه. انظر: "تفسير غريب" في الصحيحين" للحميدي (ص: 529).
(1)
رواه ابن الجوزي في "صفة الصفوة"(1/ 403).
(2)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(2/ 346)، وابن الجوزي في "صفة الصفوة"(3/ 269).
(3)
رواه الإمام أحمد في "الزهد"(ص: 184).
(4)
رواه الإمام أحمد في "الزهد"(ص: 264).
من هذا الشيخ (1).
وقال أبو طالب المكي: روينا عن أبي إسحاق الفزاري قال: زارنا الثوري، فحدثنا، ثم قمت إلى المرأة، فقلت: أخلصي لنا عصيدة (2)، قال: فقدمتها إليه في قصعة، وقلت: كل يا أبا عبد الله، فقال: لولا أني صائم لأحببت أن آكل معك، فقلت: اسمع حتى أحدثك عن أخيك إبراهيم بن أدهم رحمه الله تعالى: زارني يوماً، فقعد في موضعك هذا، فقمت إلى المرأة، فأمرتها أن تصنع لنا مثل هذا، ثم قدمته إليه، وقلت: كل يا أبا إسحاق، فأكل، فلما أراد أن يخرج قال: أما إني كنت صائماً، ولكني أفطرت لأجلك، قال: فوضع سفيان يده في القصعة تأسِّياً بإبراهيم (3).
وروى الإمام أبو بكر بن أبي شيبة عن كُلْثوم بن جبر قال: كان المتمني بالبصرة يقول: فقهُ الحسنِ، وورعُ محمد بن سيرين، وعبادةُ طَلْق بن جبيب، وحِلْمُ ابن يَسَار (4).
وروى أبو نعيم عن سعيد بن جُبير قال: لو خيرت عبداً لله أكون في
(1) ورواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى"(7/ 162).
(2)
العصيدة: دقيق يلت بالسمن ويطبخ. انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 246).
(3)
رواه أبو طالب المكي في "قوت القلوب"(2/ 297).
(4)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(35325).
مسلاخه لاخترت زبيداً اليَامي (1).
وروى هو من طريق عبد الله ابن الإمام أحمد، عن سَلَمة بن كُهَيل قال: ما بالكوفة أحد أكون في مسلاخه أحب إلي من ابن أَبجر (2).
يعني: الإمام التابعي عبد الملك بن سعيد الكوفي، وكان من الورعين البكَّائين من خشية الله تعالى.
وروى ابن الجوزي عن محمد بن فضيل قال: سمعت ابن شُبْرُمَة يقول: [من البسيط]
لَوْ شِئْتَ كُنْتَ كَكُرْزٍ فِيْ تَعَبُّدهِ
…
أَوْ كَابْنِ طارِقَ حَوْلَ الْبَيْتِ وَالْحَرَمِ
قَدْ حالَ دُوْنَ لَذِيْذِ الْعَيْشِ خَوْفُهُما
…
وَسارَعا فِيْ طِلابِ الْفَوْزِ وَالْكَرَمِ (3)
وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد"، ومن طريقه أبو نعيم عن محمد بن فضيل، قال: رأيت ابن طارق في الطواف قد انفرج له أهل الطواف، وعليه نعلان مطرقتان، فحزر طوافه في ذلك الزمان،
(1) ورواه ابن سعد "الطبقات الكبرى"(6/ 309)، وابن الجوزي في "صفة الصفوة"(3/ 100).
(2)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(5/ 84).
(3)
رواه ابن الجوزي في "صفة الصفوة"(2/ 217)، والفاكهي في "أخبار مكة"(2/ 324).
فإذا هو يطوف في اليوم والليلة عشرة فراسخ (1).
صرويا عنه عن أبيه فُضيل بن غزوان قال: دخلت على كُرز بن وَبْرة بيته، فإذا عند مصلاه حفيرة قد ملأها تِبناً، وبسط عليها كساءً من طول القيام، وكان يقرأ في اليوم والليلة القرآن ثلاث مرات (2).
ورويا عنه عن أبيه قال: كان لكرز عِذْقٌ عند المحراب يعتمد عليه إذا نَعِس (3).
وروى أبو نعيم عنه، عن أبيه: أن كرز بن وبرة الحارثي دخل على ابن شبرمة يعوده وهو مبرسم، فتفل في أذنه، فبرئ (4).
وروى أبو نعيم - أيضاً - عن ابن شبرمة قال: سأل كرز بن وبرة ربه أن يعطيَه اسمه الأعظم على أن لا يسأل به شيئاً من الدنيا، فأعطاه الله ذلك، فسأل أن يقوى حتى يختم القرآن في اليوم والليلة ثلاث ختمات (5).
ومن هنا أرشد ابن شبرمة - في كلامه المتقدم - إلى التشبه بكرز بن وبرة، وابن طارق رحمهم الله تعالى أجمعين.
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(5/ 82).
(2)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(5/ 79).
(3)
رواه الإمام أحمد في "الزهد"(ص: 167)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء"(5/ 80).
(4)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(5/ 80).
(5)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(5/ 79).
وأمثال ذلك ما ورد من الآثار في الإرشاد إلى التشبه بالصالحين كثير لا يحصى، ولا يكاد لكثرته يستقصى.
وقد فتح الله تعالى علينا بأبيات ملائمة لهذا المقام، حَرِيَّةٍ بالإثبات في سلك هذا النظام، وهي:[من المتقارب]
عَلَيْكَ بِسُنَّةِ خَيْرِ السَّلَفْ
…
فَكُنْ لَهُمُ مِنْ خِيارِ الْخَلَفْ
بِحُسْنِ اتِّباعٍ لآثارِهِمْ
…
فَشابِهْ وَلا تَكُ مِمَّنْ وَصَفْ
وَما يَنْفَعُ الْوَصْفُ مِنْ واصفٍ
…
إِذا كانَ عَنْ فِعْلِ خَيْر وَقَفْ
فَحاوِلْ مُشابَهَةَ الصَّالِحِيـ
…
ـنَ إِنْ كُنْتَ يا صاحِ مِمَّنْ عَرَفْ
فَمَنْ يَتَحَلَّىْ حِلاهُمْ ينا
…
لُ مِنْ نيلِهِمْ فِيْ عَوالِيْ الْغُرَفْ
وإِنِّيْ أُحِبُّ لَوَاَنِّيْ فَتًى
…
تَحَلَّىْ بِأَوْصافِهِمْ وَاتَّصَفْ
فَمِنْ دُوْنِ هَذا الْمَقامِ السَّنا
…
ءُ وَمَنْ لِلْمُلُوْكِ بِهَذا الشَّرَفْ
مَقامٌ إِذا مَا ارْتَقاهُ الْفَتَىْ
…
يُلاقِيْ الْمُنَىْ فِيْ مَراقِيْ الزُّلَفْ
وَيَظْفَرُ بِالدُّر مَهْما يَحُمْ
…
سِوَاهُ مِنَ النَّاسِ حَوْلَ الصَّدَفْ
فَشَابِهْ خِيارَ الْبَرايا تَكُنْ
…
مَعَ الْقَوْمِ فِيْ ظِلِّ عَرْشٍ وَرَفْ
وَيَهْتِفُ بِالسْمِكَ فِيْهِمْ إِذا
…
دَعاهُمْ مُنادِيْ النَّدَىْ أَوْ هَتَفْ
فَيا لِسَبِيْلِ الْهُدَىْ وَالرِّضَا
…
وَطُوْبَىْ لِعَبدٍ إِلَيْهَا عَطَفْ
يُحاوِلُ راحاً بِحاناتِها
…
مِنَ الْغُرِّ كُلُّ نَدِيْمٍ عَكَفْ
عَلَىْ دَنِّ خَمْرِ الْهَوَىْ خَاطِباً
…
عَرائِسَ أَبْكار غِيْدَ التُّحَفْ
يُواصِلُ فِيْ الشُّرْبِ أَوْقاتَهُ
…
وَعَمَّا سِوَىْ حبِّ سُعْداهُ كَفْ
فوقفت بعد نظم هذه الأبيات بمدة طويلة على كلام لطيف في المعنى رواه الخطيب أبو بكر البغدادي في "شرف أصحاب الحديث" عن الأوزاعي: أنه قال: عليك بآثار من سلف كان رفضك الناس، وإياك ورأي الرجال كان زخرفوه بالقول؛ فإن الأمر ينجلي وأنت على طريق مستقيم (1).
والآثار في عرف أصحاب الحديث عبارة عن الأخبار المروية عن الصحابة فمن بعدهم موقوفةً عليهم.
ومنهم من جعلها أعم من ذلك، فأطلقها على الحديث المرفوع - أيضاً -، ولكنا في هذا المقام نحملها على أعم مما ذكر.
فالمراد بآثار السلف كلامهم وأعمالهم وأخلاقهم وآدابهم. وفي كتاب الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس: 12].
والأثر في أصل اللغة: بقية الشيء، ولكنه يطلق على ما يدل على الشيء من خُلُقِ، أو عمل أو غير ذلك؛ لأنه بدلالته عليه كان بعضه.
وقد قلت: [من الكامل]
(1) رواه الخطيب البغدادي في "شرف أصحاب الحديث"(ص: 7).
أثَرِيْ يَدُلُّ عَلَيَّ إِنْ لَمْ تَدْرِنيْ
…
فَانْظُرْ إِلَىْ أثَرِيْ لِتَعْرِفَ مَنْ أَنا