الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَابُ بَيَان الحِكَمِ الظَّاهِرَة فِي تَأخِيرِ هَذِهِ الأُمَّةِ
1 - التي منها: إرادة التشبه بالصالحين من الأمم السابقة، والتجنب عن قبائح الطالحين منهم
.
روى الشيخان في "الصحيحين" عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "نَحْنُ الآخِرُوْنَ السَّابِقُوْنَ يَوْمَ الْقِيامَةِ، بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوْتُوْا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِنا، وَأُوْتيْناهُ مِنْ بَعْدِهِمْ"، الحديث (1).
اعلم أن تأخير هذه الأمة عن سائر الأمم إنما هو لحكم كثيرة يظهر بها أن تأخيرهم عين تقديمهم، وتفضيلهم، وأن الله تعالى لم يُرد بتأخيرهم في الزمان إلا تزكيتهم، وتكريمهم.
قال بعض العلماء: أخَّر الله تعالى هذه الأمة إلى آخر الزمان؛ لئلا يطول مكثهم تحت الأرض، فكرَّمهم الله تعالى بأنهم أقل الأمم مكثاً تحت الأرض.
قلت: هذا من الحِكَم التي أشرنا إليها.
وقريب من هذا المعنى: أن الله تعالى جعل هذه الأمة أقصر الناس
(1) رواه البخاري (856)، ومسلم (855).
أعماراً، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أَعْمَارُ أُمَّتِيْ مِنَ السِّتّيْنَ إِلَى السَّبْعِيْنَ، وَأقلُّهُمْ مَنْ يَجُوْزُ ذَلِكَ". رواه الترمذي وحسنه، عن أبي هريرة، وأبو يعلى عن أنس رضي الله تعالى عنهم (1).
وروى الطبراني في "معجمه الكبير" عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أقل أُمَّتِيْ الَّذِيْنَ يَبْلُغُوْنَ السَّبْعِيْنَ"(2).
والحكمة في قصر أعمارهم: أن الله تعالى أراد بذلك تقصير مدة التكليف عليهم ليخف عليهم حمل المشاق، ومعاناة غروب الدنيا، وخطوبها، وقد اقتضى أمرُ الله تعالى أن تكون الدنيا سجن المؤمن، كما روى الإمام أحمد، وغيره، وصححه الحاكم، عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَسَنَتُهُ، فَإِذا فارَقَ الدُّنْيا فارَقَ السِّجْنَ وَالسَّنَةَ"(3)؛ أي: ولقي الراحة، والدَّعَة، والخصب، والسعة، وظفر بالتحفة، والبهجة، والمسرة،
(1) رواه الترمذي (3550) وقال: حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وابن ماجه (4236)، عن أبي هريرة.
ورواه أبو يعلى في "مسنده"(5990) عن أبي هريرة، وعن أنس (2902).
(2)
رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(13594)، وأبو يعلى في "المسند"(6544) عن أبي هريرة، وضعَّفَ إسنادَ أبي يعلى ابنُ كثير في "التفسير"(3/ 561).
(3)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(2/ 197)، والحاكم في "المستدرك"(7882).
والمبرة، كما قال صلى الله عليه وسلم:"تُحْفَةُ الْمُؤْمِنِ الْمَوْتُ"(1)، لما يرى من كرامة الله تعالى وثوابه.
وقال سفيان: كان يقال: الموت راحة العابدين.
رواهما ابن أبي الدنيا في كتاب "ذكر الموت".
فأراد الله تعالى أن يجعل الراحة لهذه الأمة من الدنيا وأكدارِها، بقصر آجالها وأعمارها.
ثم إنه الله تعالى ضاعف لهم الأعمال والأجور، واختصهم بخصائص تلحقهم في الزمن اليسير بمن سلف من أهل الجَدِّ والتشمير مع أعمارهم الطويلة، وآجالهم البعيدة، بل ورَقَّاهم الله تعالى عليهم، وجعلهم سابقين لهم، ولو حسبت ما يكتب لواحد من هذه الأمة في صلاة واحدة في المسجد الحرام من الحسنات لبلغت أرجح من عمر نوح عليه الصلاة السلام.
وليلة واحدة من ليالي هذه الأمة في كل سنة - وهي ليلة القدر - خير من ألف شهر من شهور الأمم الخالية من ليلة القدر.
وصيام يوم واحد من أيام هذه الأمة من نوافل صيامها - وهو صيام
(1) رواه ابن المبارك في "الزهد"(1/ 212)، والحاكم في "المستدرك"(7900)، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (2/ 325): رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات، وحسنه العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء"(2/ 1200).
يوم عرفة لغير الحاج - يكفر ذنوب سنة قبله، وسنة بعده، بل ورد أنه يكفر ذنوب ألف يوم، وورد أن العمل الصالح فيه بألفٍ في غيره كسائر أيام رمضان.
وصيام اليوم الذي قبل هذا اليوم - وهو يوم التروية - يكفر ذنوب عام.
وكذلك صيام يوم آخر من أيام هذه الأمة، وهو يوم عاشوراء.
وهذا كله في نوافل الصوم، فما ظنك برمضان، وما فيه من كثرة العتقاء من النار! ففي كل يوم منه مئة ألف عتيق، ويعتق في كل يوم جمعة منه وليلتها قدر ما أعتق في الأسبوع، وفي آخر يوم من رمضان قدر ما أعتق من أول الشهر إلى آخره.
والصلاة إلى الصلاة، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر.
والتسبيحة الواحدة كبدنة تُهدى إلى البيت العتيق، والتحميدة كفرس مسرجة في سبيل الله، والتكبيرة كالبعير في سبيل الله؛ مع مضاعفة ثواب التسبيح، وسائر الأعمال في يوم الجمعة، وفي الأشهر الحرم.
وكل حسنات هذه الأمة في أي وقت مضاعفة إلى عشر أمثالها، أو إلى سبعين ضعفاً، أو سبع مئة، أو ألوف كثيرة، ومعاصيها لا تكتب إلا بعد ست ساعات، أو سبع؛ فإن استغفر ذلك العاصي، أو تاب، أو أحسن بعدها، لم تكتب تلك السيئة، وإلا كتبت سيئة واحدة، ثم هي ممحوة