الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فإنهم يَقْتَاتون بالذِّكر، والتسبيح.
قال جعفر الصادق رحمه الله تعالى: الصيام فيه تشبه بالملائكة عليهم السلام؛ لأنهم لا يأكلون ولا يشربون، يسبحون الليل والنهار، لا يَفْتُرُوْنَ.
وقال الله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} [هود: 69، 70].
قال القاضي ناصر الدين البيضاوي رحمه الله تعالى في "تفسيره": إنا ملائكة مرسلة إليهم، وإنما لم نمد أيدينا إليه لأنا لا نأكل (1).
63 - ومنها: الاقتيات بالذكر:
وهو أبلغ من الصيام، وهو حال الصمدانيين الذين كانوا يطوون الأربعينيات، وأكثر منها، ودونها بحيث يكون خارقًا للعادة، فيكتفون بالذكر، والفكر عن الطعام، والشراب.
وقد قيل: [من البسيط]
لها مَنَاهل مِنْ ذكراكَ تَشْغَلُها
…
عن الشَّرابِ وتُلْهيها عن الزَّادِ
ومن هذا القبيل ما ذكره أبو طالب المكي في "القوت"، وأبو حامد
(1) انظر: "تفسير البيضاوي"(3/ 245).
الغزالي في "الإحياء": عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه: أنه كان يطوي ستة أيام، وعن عبد الله بن الزُّبير رضي الله تعالى عنهما: أنه كان يطوي سبعة أيام، وعن الثوري، وابن أدهم: أنهما كانا يطويان ثلاثة أيام، وعن محمد بن عمر العوفي، وعبد الرحمن بن إبراهيم دُحَيْم، وإبراهيم التَّيمي، وحجَّاج بن قرافصة، وحفص العابد المصِّيصي، والمستلم بن سعيد، وزهير الباني، وسليمان الخَوَّاص، وسهل بن عبد الله، وإبراهيم بن أحمد الخواص: أن طَيَّهم وصل إلى ثلاثين يومًا (1).
وعن بعض هذه الطائفة: أنه وقف على راهب، فذاكره بحاله، وطمع في إسلامه، وترك ما هو عليه من الغرور، وكلمه في ذلك بكلام كثير إلى أن قال له الراهب: إن المسيح عليه السلام كان يطوي أربعين، وإنه معجزة لا تكون إلا لنبي صادق، قال له الصوفي: فإن طويت خمسين يومًا تترك ما أنت عليه، وتدخل في دين الإسلام، وتعلم أنه حق، وأنك على باطل؟ قال: نعم، فقعد لا يبرح إلا حيث يراه، فطوى خمسين يوماً، فقال: أزيدك أيضاً؟ فطوى إلى تمام الستين، فعجب الراهب منه، وقال: ما كنت أظن أن أحداً يجاوز المسيح، وكان ذلك سبب إسلامه (2).
وقال أبو عثمان المغربي رحمه الله تعالى: الرباني يأكل مرة في
(1) انظر: "قوت القلوب" لأبي طالب المكي (2/ 279)، و"إحياء علوم الدين" للغزالي (3/ 90).
(2)
انظر: "قوت القلوب" لأبي طالب المكي (2/ 280) و"إحياء علوم الدين" للغزالي (3/ 90).
أربعين يومًا، والصمداني في ثمانين يومًا (1).
ومن أعجب ما في هذا الباب ما روي عن سهل بن عبد الله: أنه اقتات بثلاثة دراهم في ثلاث سنوات (2).
وعن الشيخ محي الدين بن العربي: أنه اقتات من أول المحرم إلى عيد الفطر بلوزة واحدة.
وذلك كله من باب خرق العادة، والالتحاق بالملائكة عليهم السلام في هذا الْخُلُقِ الشريف، وهو محمول على الاقتيات بالذكر.
وعن بعض العلماء العاملين أنه قال: إني لأقتات بوردي من الذكر كما أقتات بالطَّعام والشَّراب.
وقد قلت في المعنى: [من السريع]
ذِكْرُكَ لِيْ قُوْتٌ وَمَنْ لَمْ يَجِدْ
…
قُوْتا فَقَدْ فاتَ بِهِ الْفَوْتُ
وَأَنْتَ لِيْ رُوْحٌ وَمَنْ يَنْفَصِلْ
…
عَنْ رُوْحِهِ أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ
وقال الشيخ العارف بالله شهاب الدين السُّهروردي في "عوارف المعارف": قيل لسهل بن عبد الله: هذا الذي يأكل في كل أربعين، وأكثر
(1) انظر: "الرسالة القشيرية" للقشيري (ص: 178).
(2)
انظر: "إحياء علوم الدين" للغزالي (3/ 97).
مرةً (1)؛ أين يذهب لهب الجوع عنه؟ قال: يطفئه النور.
قال: وقد سألت بعض الصالحين عن ذلك، فذكر لي كلامًا بعبارة دلت على أنه يجد فرحاً بربه ينطفئ معه لهب الجوع.
قال: وهذا واقع في الخلق أن الشخص يطرقه فرح - وقد كان جائعاً - فيذهب عنه الجوع، وهكذا في طَرق الخوف يقع ذلك (2). انتهى.
فإن قيل: قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الوصال في الصوم، فقيل له: إنك تواصل، فقال:"لَسْتُ كَأَحَدِكُمْ؛ إِنَّ اللهَ يُطْعِمُنِيْ، وَيَسْقِيْنِي"(3)، فهذا يخالفه ما تقدم؟
فالجواب: أن هذا النهي إنما هو في مقام الدَّعوة العامة، والتشريع لكافة الناس، ولئلا يتخذ الوِصال سنة جارية يتعاطاه القادر عليه والضعيف عنه، فيحتاج إلى التكلف، فأما من كان يقتات بالذكر بحيث يستغني عن الطَّعام والشَّراب فقد يقال في حقه بإباحة الوصال له خاصة (4).
وعلى ذلك يخرج أحوال من أسلفنا ذكرهم من السَّلف رضوان الله عليهم أجمعين.
(1) في "العوارف": "أكلة" بدل "مرة".
(2)
انظر: "عوارف المعارف" للسهروردي (ص: 205).
(3)
رواه البخاري (6869)، ومسلم (1103)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(4)
قال ابن حزم في "المحلى"(7/ 22): لا حجة في أحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم لا صاحب ولا غيره فقد واصل قوم من الصحابة رضي الله عنهم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وتأولوا في ذلك التأويلات البعيدة فكيف بعده عليه السلام؟ فكيف من دونهم؟
وقد حكى القاضي عِياض رحمه الله تعالى عن ابن وهب، وإسحاق ابن راهويه، وأحمد بن حنبل رحمهم الله تعالى: أنهم أجازوا الوصال (1).
وحكى ابن حزم أن ابن وَضَّاح من المالكية كان يواصل أربعة أيام (2).
وأطلق أكثر الشافعية العبارة بكراهية الوصال، واختلفوا هل هي كراهة تنزيه، أو تحريم على وجهين؛ أصحهما الثاني (3)، وهو ظاهر كلام الشَّافعيِّ رضي الله تعالى عنه؛ فإنه قال بعد أن ذكر حديث النهي عن الوصال: وفرق الله تعالى بين رسوله وبين خلقه في أمور أباحها له، وحظرها عليهم (4).
وكذلك مذهب أبي حنيفة، ومالك رضي الله عنهما (5).
(1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (7/ 212) وفيه كلام القاضي عياض، لكنه قيد إباحة الوصال بالسحر، ونقل عن الاكثرين كراهته.
(2)
انظر: "المحلى" لابن حزم (7/ 22).
(3)
قال الإمام النووي: وممن صرح به من أصحابنا بتصحيح تحريمه - أي تحريم الوصال - صاحب "العدة" والرافعي وآخرون، وقطع به جماعة من أصحابنا؛ منهم القاضي أبو الطيب في كتابه "المجرد"، والخطابي في "المعالم"، وسليم الرازي في "الكفاية"، وإمام الحرمين في "النهاية"، والبغوي، والروياني في "الحلية"، والشيخ نصر في كتابه "الكافي" وآخرون، كلهم صرحوا بتحريمه من غير خلاف. انظر:"المجموع" للنووي (6/ 374).
(4)
انظر: "المجموع" للنووي (6/ 374).
(5)
قال الإمام ابن القيم في "زاد المعاد"(2/ 38): والقول الثالث - وهو=
وقال الحافظ زين العراقي في "شرح الترمذي": وأصرح ما يستدل به على عدم تحريم الوصال: ما رواه أبو داود بإسناد صحيح، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: حدثني رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الحجامة، والمواصلة، ولم يحرمهما إبقاءً على أصحابه، فقيل له: يا رسول الله! إنك تواصل إلى السحر؟ فقال: "إِنِّي أُواصِلُ إِلَىْ السَّحَرِ وَرَبِّي يُطْعِمُنِيْ، وَيَسْقِيْنِيْ"(1)، انتهى (2).
قلت: وهنا أصل أصيل، وهو أن إدخال الطعام والشراب في الجوف إنما هو في الأصل مباح، وإنما يندب تعاطيه، أو يلزم إذا احتاج إليه الإنسان من حيث إنه يتقوت به، ويتحفظ به على حياته، فإذا أخذ الإنسان منه حاجته وكفايته لم يحسن في حقه أن يتناول زيادة عنها، بل إذا شبع منه حرم الزيادة عليه حذراً من الهلاك الذي من حذره ألجئ إلى استعمال الطعام والشراب إذا احتاج إليه، فإذا كان في عباد الله من
= أعدل الأقوال -: أن الوصال يجوز من سحر إلى سحر، وهذا هو المحفوظ عن أحمد وإسحاق لحديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم:"لا تواصلوا فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر" رواه البخاري، وهو أعدل الوصال وأسهله على الصائم، وهو في الحقيقة بمنزلة عشائه إلا أنه تأخر، فالصائم له في اليوم والليلة أكلة، فإذا أكلها في السحر، كان قد نقلها من أول الليل إلى آخره، والله أعلم.
(1)
رواه أبو داود (2374).
(2)
انظر: "طرح التثريب" للعراقي (4/ 126).
رزقه الله تعالى حالة شريفة لحالة الشبع بحيث لا يحصل له معها وَهن في بدنه، ولا ضعف في قواه، ولا توقان إلى الطعام يشغله عن الذكر والطاعة، فظاهر هذا القياس أنه ما دام غنيًا عن الطعام والشراب، ففي هذه الحالة لا نكلفه تناول شيء من المطعومات ولا من المشروبات حتى يحتاج إليه، بل الدنيا - وإن كان الأصل في مطعوماتها ومشروياتها الإباحة - فإن اشتغال المقبل على الله تعالى بها اشتغال بما لا يعنيه، فمقتضى طريقه أن لا يتناول منها شيئا إلا أن يحتاج إليه، ويضطر إلى الأخذ منه، فمهما أغناه الله تعالى عنه فلا يتناوله أصلاً، فمن رزقه الله تعالى حالة تغنيه عن الطعام والشراب، وتدفع عنه المحذور المدفوع بهما كما يدفعانه، وزيادة ينبغي أن لا نكلفه بها، ولو واصل الصيامَ عُمُرَه.
ثم كان بعض الطاوين من أهل الله تعالى إذا طوى يتناول عند الغروب مفطراً ما - ولو قطرة ماء - عملاً بالسنة، وخروجاً من الخلاف.
وعلى ذلك: فينبغي أن يتناول عند السحر شيئًا ما بنية السحور عملاً بالنسبة أيضًا، واغتناما لصلاة الله وملائكته، كما في الحديث المتقدم "إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّوْنَ عَلَىْ الْمُتَسَحِّرِيْنَ"(1).
ولما وقف شيخنا الإمام أبو العباس أحمد ابن الشيخ الإمام أبي النَّدى يونس العيثاوىِ الشافعي - نفع الله به، وفسح فى مدته - على ما كتبته هنا استجاده، ثم قال: وفي تناوله لمفطر ما عند الغروب وعند
(1) تقدم تخريجه.