الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأمثال
: قالوا: «أهرم «1» من لبد» . قال «2» الشاعر:
إن معاذ بن مسلم رجل
…
ليس لميقات عمره أمد
قد شاب رأس الزمان واكتهل
…
الدهر وأثواب عمره جدد
قل لمعاذ إذا مررت به
…
قد ضجّ من طول عمرك الأبد
يا بكر حواء كم تعيش وكم
…
تسحب ذيل الحياة يا لبد
مصححا كالظليم ترفل في
…
برديك مثل السعير تتقد
صاحبت نوحا ورضت بغلة ذي
…
القرنين شيخا لولدك الولد
فارحل ودعنا فإن غايتك
…
الموت وإن شد ركنك الجلد
اللبوءة:
بضم الباء وبعدها همزة: أنثى الأسد، واللبأة واللبوة، ساكنة الباء، غير مهموزة لغتان فيها حكاهما ابن السكيت، ويقال لها: العرس أيضا.
قال عون بن أبي شداد العبدي: بلغني أن الحجاج بن يوسف الثقفي، لما ذكر له سعيد بن جبير رحمة الله تعالى عليه، بعد قتل عبد الرحمن بن الأشعث «3» ، أرسل إليه قائدا من أهل الشأم من خاصة أصحابه، فبينما هم يطلبون، إذا هم براهب في صومعة له، فسألوه عنه فقال الراهب:
صفوه لي. فوصفوه له، فدلهم عليه، فانطلقوا فوجدوه ساجدا يناجي ربه تعالى بأعلى صوته، فدنوا منه وسلموا عليه فرفع رأسه، فأتم بقية صلاته، ثم رد عليهم السلام، فقالوا له:
إن الحجاج أرسل إليك فأجبه. فقال: ولا بد من الإجابة؟ فقالوا: لا بد. فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قام يمشي معهم حتى انتهوا إلى دير الراهب، فقال الراهب: يا معشر الفرسان أصبتم صاحبكم؟ قالوا: نعم. فقال لهم: اصعدوا الدير، فإن اللبوة والأسد يأويان حول الدير، فعجلوا الدخول قبل المساء ففعلوا ذلك، وأبى سعيد رضي الله عنه، أن يدخل الدير! فقالوا: ما نراك إلا تريد الهرب منا؟ قال: لا ولكني لا أدخل منزل مشرك أبدا.
فقالوا: إن لا ندعك فإن السباع تقتلك.
قال سعيد: فإن معي ربي يصرفها عني، ويجعلها حراسا حولي تحرسني من كل سوء، إن شاء الله تعالى. قالوا: فأنت من الأنبياء؟ قال: ما أنا من الأنبياء، ولكني عبد من عباد الله خاطىء مذنب. قالوا له: فاحلف لنا أنك لا تبرح. فحلف لهم. فقال لهم الراهب: اصعدوا الدير، وأوتروا القسي لتنفروا السباع عن هذا العبد الصالح، فإنه كره الدخول علي في الصومعة، فدخلوا وأوتروا القسي فإذا هم بلبوة قد أقبلت، فلما دنت من سعيد بن جبير، تحككت به وتمسحت به، ثم ربضت قريبا منه، وأقبل الأسد فصنع مثل ذلك، فلما رأى الراهب ذلك دخلت
في قلبه هيبة، فلما أصبحوا نزلوا إليه، فسأله الراهب عن شرائع دينه وسنن نبيه صلى الله عليه وسلم فقرر له سعيد ذلك كله، فأسلم الراهب وحسن إسلامه.
وأقبل القوم على سعيد يعتذرون إليه ويقبلون يديه ورجليه، ويأخذون التراب الذي وطئه بالليل يصلون عليه، ويقولون: يا سعيد حلفنا الحجاج بالطلاق والعتاق، إن نحن رأيناك لا ندعك حتى نشخصك إليه، فمرنا بما شئت. فقال سعيد: امضوا لشأنكم فإني لائذ بخالقي ولا راد لقضاء ربي.
فساروا حتى وصلوا إلى واسط، فلما انتهوا إليها، قال لهم سعيد رضي الله تعالى عنه: يا معشر القوم، قد تحرمت بكم وصحبتكم، ولست أشك أن أجلي قد قرب وحضر، وأن المدة قد انقضت ودنت، فدعوني الليلة آخذ أهبة الموت، وأستعد لمنكر ونكير، وأذكر عذاب القبر، وما يحثى على من التراب، فإذا أصبحتم فالميعاد بيني وبينكم المكان الذي تريدون، فقال بعضهم: لا نريد أثرا بعد عين. وقال بعضهم: إنكم قد بلغتم أمنكم، واستوجبتم جوائزكم من الأمير، فلا تعجزوا عنه. وقال بعضهم: هو علي أدفعه إليكم إن شاء الله تعالى. فنظروا إلى سعيد وقد دمعت عيناه واغبر لونه، وكان لم يأكل ولم يشرب ولم يضحك، منذ لقوه وصحبوه، فقالوا بأجمعهم: يا خير أهل الأرض ليتنا لم نعرفك ولم نرسل لك، الويل لنا كيف ابتلينا بك! فاعذرنا عند خالقنا، يوم الحشر الأكبر، فإنه القاضي الأكبر، والعادل الذي لا يجوز. فلما فرغوا من البكاء والمجاوبة له ولهم، قال كفيله: أسألك بالله يا سعيد إلا ما زودتنا من دعائك وكلامك، فإنا لن نلقي مثلك أبدا.
فدعا لهم سعيد رضي الله تعالى عنه. ثم خلوا سبيله، فغسل رأسه ومدرعته وكساءه، وأقبل على الصلاة والدعاء والاستعداد للموت، ليله كله، وهم مختفون الليل كله فلما انشق عمود الصبح، جاءهم سعيد بن جبير رضي الله تعالى عنه فقرع الباب، فقالوا: صاحبكم ورب الكعبة، فنزلوا إليه فبكى وبكوا معه طويلا، ثم ذهبوا به إلى الحجاج فدخل عليه المتلمس فسلم عليه وبشره بقدوم سعيد بن جبير، فلما مثل بين يديه قال له:
ما اسمك؟ قال: سعيد بن جبير. فقال: بل أنت شقي بن كسير. قال سعيد: بل أمي كانت أعلم باسمي منك. فقال الحجاج: شقيت أنت وشقيت أمك. فقال سعيد: الغيب يعلمه غيرك. قال الحجاج: لأبدلنك بالدنيا نارا تلظى. قال: لو علمت أن بيدك لاتخذتك إلها. قال:
فما قولك في محمد صلى الله عليه وسلم؟ قال: نبي الرحمة. قال: فما قولك في علي أفي الجنة هو أم النار؟ قال: لو دخلتهما وعرفت أهلهما عرفت من فيهما. قال: فما قولك في الخلفاء؟ قال: لست عليهم بوكيل.
قال: فأيهم أعجب إليك؟ قال: أرضاهم لخالقه. قال: فأيهم أرضى للخالق؟ قال: علم ذلك عند الذي يعلم سرهم ونجواهم. قال: فما بالك لا تضحك؟ قال: أيضحك مخلوق خلق من الطين والطين تأكله النار؟ قال: فما بالنا نضحك؟ قال: لم تستو القلوب. قال: ثم إن الحجاج أمر باللؤلؤ والزبرجد والياقوت، وغير ذلك من الجواهر، فوضعت بين يدي سعيد، فقال سعيد رضي الله تعالى عنه: إن كنت جمعت هذا لتفدى به من فزع يوم القيامة، فصالح، وإلا ففزعة واحدة
تذهل كل مرضعة عما أرضعت، لا خير في شيء جمع للدنيا إلا ما طاب وزكا.
ثم دعا الحجاج بآلات اللهو، فضربت بين يدي سعيد فبكى سعيد. فقال الحجاج: ويلك يا سعيد. فقال سعيد: الويل لمن زحزح عن الجنة، وأدخل النار. فقال: يا سعيد أي قتلة تريد أن أقتلك بها؟ قال: اختر لنفسك يا حجاج، فو الله لا تقتلني قتلة إلا قتلك الله مثلها في الآخرة.
قال: فتريد أن أعفو عنك؟ قال: إن كان العفو من الله فنعم، وأما منك أنت فلا. فقال: اذهبوا به فاقتلوه. فلما أخرج من الباب ضحك، فأخبر الحجاج بذلك، فأمر برده فقال: ما أضحكك وقد بلغني أن لك أربعين سنة لم تضحك؟ قال: ضحكت عجبا من جراءتك على الله، ومن حلم الله عليك، فأمر بالنطع فبسط بين يديه، وقال: اقتلوه.
فقال سعيد: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ*
«1» . ثم قال: وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ
«2» . قال: وجهوه لغير القبلة. فقال سعيد: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ
«3» فقال: كبوه لوجهه. فقال: مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى
«4» فقال الحجاج: اذبحوه. فقال سعيد: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله. ثم قال: اللهم لا تسلطه على أحد يقتله بعدي. فذبح على النطع رحمة الله تعالى عليه، فكان رأسه يقول بعد قطعه: لا إله إلا الله مرارا. وذلك في شعبان سنة خمس وتسعين. وكان عمر سعيد تسعا وأربعين سنة، وعاش الحجاج بعده خمس عشرة ليلة، ولم يسلط على قتل أحد بعده.
ولما بلغ الحسن البصري «5» رضي الله تعالى عنه قتل سعيد بن جبير، قال: اللهم أنت على فاسق ثقيق رقيب، والله لو أن أهل المشرق والمغرب اشتركوا في قتله، لكبهم الله تعالى في النار، والله لقد مات وأهل الأرض من المشرق إلى المغرب محتاجون إلى علمه. ونقل أن سعيدا رضي الله تعالى عنه كان يقول: وشى بي واش، وأنا في بلد الله الحرام، أكله إلى الله، يعني خالد القسري.
وروي أن الحجاج لما حضرته الوفاة، كان يغيب ثم يفيق، ويقول: ما لي ولسعيد بن جبير.
وقيل: إنه كان في مدة مرضه كلما نام، رأى سعيد بن جبير آخذا بثوبه، وهو يقول: يا عدو الله فيم قتلتني فيستيقظ مذعورا.
وروي أن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى، رآه بعد موته في المنام، وهو جيفة منتنة، وأنه قال له: ما فعل الله بك؟ فقال: قتلني الله بكل قتيل قتلته قتلة واحدة، وقتلني بسعيد بن جبير سبعين قتلة.
فإن قيل ما الحكمة في أن الله تعالى قتل الحجاج بكل قتيل قتلة وقتله بسعيد سبعين قتلة؟
وقد قتل من هو أفضل من سعيد، وهو عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما، لأنه صحابي،