الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأحمق بيت قالته العرب، قول «1» القائل، وهو الأعشى أبو محجن الثقفي:
إذا متّ فادفني إلى جنب كرمة
…
تروي عظامي بعد موتي عروقها
ولا تدفنني في الفلاة فإنني
…
أخاف إذا ما متّ أن لا أذوقها
وروى في حديث معاوية رضي الله تعالى عنه، أنه قال لابن أبي محجن الثقفي: أبوك الذي يقول:
إذا متّ فادفني، البيتين فقال «2» : أبي الذي يقول:
وقد أجود وما مالي بذي قنع
…
وأكتم السرّ فيه ضربة العنق
وأغزل بيت قالته العرب قول «3» جرير:
إنّ العيون التي في طرفها حور
…
قتلننا ثم لم تحيين قتلانا
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به
…
وهنّ أضعف خلق الله إنسانا
فائدة
: روى الطبراني في الدعوات، من حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لا تسبوا الدنيا فنعمت مطية المؤمن، عليها يبلغ الجنة وبها ينجو من النار» . وقال علي رضي الله تعالى عنه: لا تسبوا الدنيا ففيها تصلون، وفيها تصومون، وفيها تعملون، فإن قيل: كيف يجمع بين هذا، وبين قوله «4» صلى الله عليه وسلم:«الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالما أو متعلما» . فالجواب ما قاله شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام، في آخر الفتاوى الموصيلة: إن الدنيا التي لعنت هي المحرمة التي أخذت بغير حقها أو صرفت إلى غير مستحقها.
وقد تقدم في باب الباء الموحدة في ذكر البعوض، ما قاله الشيخ أبو العباس القرطبي في ذلك وهو حسن فراجعه.
وفي الحديث «5» : «بئس مطية الرجل زعموا» شبه ما يقدمه المتكلم أمام كلامه، ويتوصل به إلى غرضه من قوله: زعموا كذا وكذا بالمطية التي يتوصل بها إلى الحاجة، وإنما يقال زعموا في حديث لا سند له ولا ثبت فيه. وإنما يحكى على الألسن على سبيل البلاغ، فذم من الحديث ما هذا سبيله.
وفي الكشاف وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «زعموا مطية الكذب» . وقال ابن عمر وشريح: لكل شيء كنية، وكنية الكذب زعموا. قال ابن عطية: ولا يوجد زعم مستعملة في فصيح الكلام، إلا عبارة عن الكذب، أو قول انفرد به قائله، وتبقى عهدته على الزاعم، ففي ذلك ما ينحو إلى تضعيف الزعم، وقول سيبويه زعم الخليل كذا إنما يجيء فيما تفرد الخليل به.
تتمة
: قال شيخ الإسلام النووي: روينا بالإسناد الصحيح، في جامع الترمذي وغيره، عن
أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يوشك أن يضرب الناس آباط المطي في طلب العلم، فلا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة» . قال الترمذي: حديث حسن. قال: وقد روي عن سفيان ابن عيينة أنه قال: هو مالك بن أنس انتهى.
والحديث المذكور رواه النسائي والحاكم، في أوائل المستدرك من حديث ابن عيينة، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «1» :«يوشك أن تضربوا أكباد الإبل فلا تجدوا عالما أعلم من عالم المدينة» ثم قال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجه انتهى.
قلت: إنما لم يخرجه مسلم لأنه سأل البخاري عنه فقال: له علة وهي أن أبا الزبير، لم يسمع من أبي صالح، ولما روى النسائي، في السنن الكبرى هذا الحديث، من رواية ابن عيينة، عن ابن جريج عن أبي الزناد، عن أبي هريرة عقبه بقوله: هذا خطأ. والصواب عن أبي الزبير عن أبي صالح عن أبي هريرة وقيل: عالم المدينة عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر بن الخطاب العمري المدني الزاهد، روى عنه ابن عيينة وابن المبارك وغيرهما. وكان من أزهد أهل زمانه وأشدهم تخليا للعبادة. وروي أن الرشيد قال: والله إني أريد الحج كل سنة، ما يمنعني من ذلك إلا رجل من ولد عمر رضي الله عنه يسمعني ما أكره يعني العمري. توفي العمري سنة أربع وثمانين ومائة بعد مالك بنحو ست سنين وهو ابن ست وستين سنة.
قال عمر بن شبة: حدثنا أبو يحيى الزهري، قال: قال عبد الله بن عبد العزيز العمري عند موته: بنعمة ربي أحدث، لو أن الدنيا أصبحت تحت قدمي، لا يمنعني من أخذها إلا أن أزيل قدمي عنها ما أزلتها، وكتب العمري إلى مالك وابن أبي ذئب وابن دينار وغيرهم بكتب، أغلظ لهم فيها، فجاوبه مالك جواب فقيه. قال ابن عبد البر، في التمهيد: كتب العمري العابد إلى مالك يحضه على الانفراد والعمل، ويرغبه به عن الاجتماع عليه في العلم، فكتب إليه مالك أن الله عز وجل قسم الأعمال، كما قسم الأرزاق، فرب رجل فتح له في الصلاة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الصدقة ولم يفتح له في الصيام، وآخر فتح له في الجهاد ولم يفتح له في الصلاة، ونشر العلم وتعليمه من أفضل أعمال البر، وقد رضيت بما فتح الله لي فيه من ذلك، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير وبر. ويجب على كل واحد منا أن يرضى بما قسم الله له والسلام.
وفي الإحياء، في الباب السادس من أبواب العلم، يحكى أن يحيى بن يزيد النوفلي، كتب إلى مالك بن أنس: بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد في الأولين والآخرين من يحيى بن يزيد إلى مالك بن أنس، أما بعد فقد بلغني أنك تلبس الرقاق، وتأكل الرقاق، وتجلس على الوطاء، وتجعل على بابك حجابا، وقد جلست مجلس العلم، وضربت إليك آباط المطي، وارتحل إليك الناس، فاتخذوك إماما ورضوا بقولك، فاتق الله يا مالك، وعليك بالتواضع. كتبت إليك بالنصيحة مني كتابا، ما اطلع عليه إلا الله والسلام.
فكتب إليه مالك بن أنس: بسم الله الرحمن الرحيم من مالك بن أنس إلى يحيى بن يزيد، سلام عليك أما بعد فقد وصل إلي كتابك، فوقع مني موقع النصيحة من المشفق، أمتعك الله بالتقوى، وجزاك وخولك بالنصيحة خيرا، وسأل الله التوفيق، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وأما ما ذكرت، من أني آكل الرقاق وألبس الرقاق وأجلس على الوطاء، فنحن نفعل ذلك ونستغفر الله تعالى، وقد قال سبحانه: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ
«1» وإني لا أعلم أن ترك ذلك، خير من الدخول فيه، فلا تدعنا من كتابك فإنا ليس ندعك من كتابنا والسلام. وفيه أيضا وروي أن الرشيد أعطاه ثلاثة آلاف دينار فأخذها ولم ينفقها، فلما أراد الرشيد الشخوص إلى العراق، قال لمالك: ينبغي أن تخرج معنا فإني عزمت أن أحمل الناس على الموطأ، كما حمل عثمان رضي الله عنه الناس على القرآن. فقال له: أما حمل الناس على الموطأ فليس إلى ذلك سبيل، فإن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم افترقوا بعده في الأمصار فحدثوا فعند أهل كل مصر علم، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«اختلاف أمتي رحمة» وأما الخروج معك فلا سبيل إليه، قال صلى الله عليه وسلم:«المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون» . وقال «2» صلى الله عليه وسلم: «المدينة تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد» . وهذه دنانيركم كما هي، إن شئتم فخذوها وإن شئتم فدعوها. يعني إنما تكلفني الخروج معك، ومفارقة المدينة بما اصطنعته لدي. فلا أوثر الدنيا على مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا يدل على زهده في الدنيا رحمه الله تعالى.
وفيه أيضا أن الشافعي رحمه الله، قال: شهدت مالكا رحمه الله وقد سئل عن ثمان وأربعين مسألة؛ فقال في اثنتين وثلاثين منها: لا أدري وهذا يدل على أنه كان يريد بعلمه وجه الله تعالى، فإن من يريد غير وجه الله بعلمه لا تسمح نفسه بأن يقر على نفسه بأنه لا يدري. ولذلك قال الشافعي: إذا ذكر العلماء فمالك البحر، وما أحد أمن علي من مالك.
وقيل: إن أبا جعفر المنصور منعه من رواية الحديث في طلاق المكره، ثم دس عليه من سأله؛ فروى عن ملأ من الناس: ليس على مكره طلاق. فضربه بالسياط. فانظر كيف اختار ضرب السياط، ولم يترك رواية الحديث.
وفي الحلية أن الشافعي رحمه الله، قال: قالت لي عمتي، ونحن بمكة: رأيت في هذه الليلة عجبا! فقلت لها: وما هو؟ قالت: رأيت كأن قائلا يقول لي: مات الليلة أعلم أهل الأرض. قال الشافعي: فحسبنا ذلك فإذا هي ليلة مات مالك بن أنس رحمه الله تعالى.
وقال عبد الرحمن بن مهدي: لا أقدم على مالك أحدا. وكان مالك يقول: إذا لم يكن للإنسان في نفسه خير، لم يكن للناس فيه خير. وفي الحلية أيضا، قال مالك: ما بت ليلة إلا رأيت فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى.
وكان مالك رحمه الله إماما عالما عابدا زاهدا ورعا عارفا بالله تعالى، وكان مبالغا في تعظيم علم الدين، لا سيما حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه كان إذا أراد أن يحدث توضأ وجلس على صدر