الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يفعل ذلك منها رؤساؤها. ومن طبعه أنه يحتكر قوته من زمن الصيف لزمن الشتاء، وله في الاحتكار من الحيل ما أنه إذ احتكر ما يخاف إنباته قسمه نصفين، ما خلا الكسفرة فإنه يقسمها أرباعا، لما ألهم من أن كل نصف منها ينبت، وإذا خاف العفن على الحب أخرجه إلى ظاهر الأرض ونشره، وأكثر ما يفعل ذلك ليلا في ضوء القمر، ويقال إن حياته ليست من قبل ما يأكله ولا قوامه، وذلك لأنه ليس له جوف ينفذ فيه الطعام، ولكنه مقطوع نصفين، وإنما قوته إذا قطع الحب في استنشاق ريحه فقط. وذلك يكفيه.
وقد تقدم في العقعق والفأر عن سفيان بن عيينة أنه قال: ليس شيء يحتال لقوته إلا الإنسان والعقعق والنمل والفأر، وبه جزم في الإحياء، في كتاب التوكل. وعن بعضهم أن البلبل يحتكر الطعام، ويقال: إن للعقعق مخابئ إلا أنه ينساها. والنمل شديد الشم ومن أسباب هلاكه نبات أجنحته، فإذا صار النمل كذلك أخصبت العصافير لأنها تصيدها في حال طيرانها. وقد أشار إلى ذلك أبو العتاهية بقوله «1» :
وإذا استوت للنمل أجنحة
…
حتى يطير فقد دنا عطبه
وكان الرشيد كثيرا ما ينشد ذلك عند نكبة البرامكة. وقد تقدمت الإشارة إليها في باب العين المهملة في لفظ العقاب، وهو يحفر قريته بقوائمه وهي ست، فإذا حفرها جعل فيها تعاريج لئلا يجري إليها ماء المطر، وربما اتخذ قرية بسبب ذلك، وإنما يفعل ذلك خوفا على ما يدخره من البلل.
قال البيهقي في الشعب: وكان عدي بن حاتم الطائي يفت الخبز للنمل، ويقول: إنهن جارات ولهن علينا حق الجوار، وسيأتي إن شاء الله تعالى، في الوحش عن الفتح بن سخرب الزاهد، أنه كان يفت الخبز لهن في كل يوم فإذا كان يوم عاشوراء لم تأكله. وليس في الحيوان ما يحمل ضعف بدنه مرارا غيره، على أنه لا يرضى بأضعاف الأضعاف، حتى إنه يتكلف لحمل نوى التمر، وهو لا ينتفع به، وإنما يحمله على حمله الحرص والشره. ويجمع غذاء سنين لو عاش، ولا يكون عمره أكثر من سنة. ومن عجائبه اتخاذ القرية تحت الأرض، وفيها منازل ودهاليز وغرف وطبقات معلقة، يملؤها حبوبا وذخائر للشتاء ومنه ما يسمى الذر الفارسي، وهو من النمل بمنزلة الزنابير من النحل، ومنه أيضا ما يسمى بنمل الأسد، سمي بذلك لأن مقدمه يشبه وجه الأسد ومؤخره يشبه النمل.
فائدة
: في الصحيحين «2» وسنن أبي داود والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «نزل نبي من الأنبياء عليهم السلام تحت شجرة، فلدغته نملة فأمر بجهازه فأخرج من تحتها، وأمر بها فأحرقت بالنار. فأوحى الله إليه: فهلا نملة واحدة» . قال أبو عبد الله الترمذي، في نوادر الأصول: لم يعاتبه الله على تحريقها، وإنما عاتبه على كونه أخذ البريء
بغير البريء.
وقال القرطبي: هذا النبي هو موسى بن عمران عليه السلام، وأنه قال: يا رب تعذب أهل قرية بمعاصيهم وفيهم الطائع، فكأنه جل وعلا أحب أن يريه ذلك من عنده، فسلط عليه الحر حتى التجأ إلى شجرة مستروحا إلى ظلها، وعندها قرية النمل فغلبه النوم، فلما وجد لذة النوم لدغته نملة. فدلكهن بقدمه فأهلكهن، وأحرق مسكنهن. فأراه الله تعالى الآية في ذلك عبرة لما لدغته نملة كيف أصيب الباقون بعقوبتها، يريد الله تعالى أن ينبهه على أن العقوبة من الله تعم الطائع والعاصي فتصير رحمة وطهارة وبركة على المطيع، وسوءا ونقمة وعذابا على العاصي. وعلى هذا ليس في الحديث ما يدل على كراهة ولا حظر في قتل النمل، فإن من آذاك حل لك دفعه عن نفسك، ولا أحد من خلق الله أعظم حرمة من المؤمن، وقد أبيح لك دفعه عنك بضرب أو قتل على ماله من المقدار، فكيف بالهوام والدواب التي قد سخرت للمؤمن، وسلط عليها وسلطت عليه، فإذا آذته أبيح له قتلها.
وقوله: «فهلا نملة واحدة» دليل على أن الذي يؤذي يقتل، وكل قتل كان لنفع أو دفع ضر فلا بأس به عند العلماء، ولم يخص تلك النملة التي لدغته من غيرها، لأنه ليس المراد القصاص، لأنه لو أراده لقال فهلا نملتك التي لدغتك، ولكن قال: فهلا نملة، فكأن نملة تعم البريء والجاني، وذلك ليعلم أنه أراد تنبيهه لمسألة ربه تعالى في عذاب أهل قرية فيهم المطيع والعاصي.
وقد قيل: إن في شرع هذا النبي عليه السلام كانت العقوبة للحيوان بالتحريق جائزة، فلذلك إنما عاتبه الله تعالى في إحراق الكثير لا في أصل الإحراق. ألا ترى قوله: فهلا نملة واحدة، وهو بخلاف شرعنا فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تعذيب الحيوان بالنار. وقال «1» :«لا يعذب بالنار إلا الله تعالى» . فلا يجوز إحراق الحيوان بالنار، إلا إذا أحرق إنسانا فمات بالإحراق فلوارثه الاقتصاص بالإحراق للجاني.
وأما قتل النمل، فمذهبنا لا يجوز لحديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى عن قتل أربع من الدواب: النملة والنخلة والهدهد والصرد» . رواه أبو داود «2» بإسناد صحيح، على شرط الشيخين. والمراد النمل الكبير، السليماني كما قاله الخطابي والبغوي في شرح السنة. وأما النمل الصغير المسمى بالذر فقتله جائز، وكره مالك رحمه الله قتل النمل، إلا أن يضر ولا يقدر على دفعه إلا بالقتل، وأطلق ابن أبي زيد جواز قتل النمل إذا آذت. وقيل: إنما عاتب الله هذا النبي عليه السلام لانتقامه بنفسه بإهلاك جمع آذاه واحد منهم، وكان الأولى به الصبر والصفح، لكن وقع للنبي عليه السلام، أن هذا النوع مؤذ لبني آدم، وحرمة بني آدم أعظم من حرمة غيره من الحيوان. فلو انفرد له هذا النظر، ولم ينضم إليه التشفي الطبيعي، لم يعاتب فعوتب على التشفي بذلك والله أعلم.