الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومن طرق العقل الحميدة: القناعة وهي كنز لا يفنى، والصدقة وهي عز باق، وتمام عز الرجل استغناؤه عن الناس. ومن طرقه أيضا الحياء، وقد قيل:
إذا قلّ ماء الوجه قلّ حياؤه
…
ولا خير في وجه إذا قلّ ماؤه
ومن طرقه أيضا حسن الخلق. روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا» «1» .
وروي أن يحيى بن زكريا عليهما السلام لقي عيسى ابن مريم عليهما السلام فتبسم عيسى في وجهه، فقال يحيى: ما لي أراك لاهيا كأنك آمن! فقال عيسى: ما لي أراك عابسا كأنك آيس! فقالا: لا نبرح حتى ينزل علينا وحي. فأوحى الله تعالى إليهما: أحبكما إلي أحسنكما خلقا.
تتمة
: ذكر الغزالي وابن بلبان وغيرهما، أن أبا جعفر المنصور حج ونزل في دار الندوة، وكان يخرج سحرا فيطوف بالبيت، فخرج ذات ليلة سحرا فبينما هو يطوف، إذ سمع قائلا يقول:
اللهم إني أشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض، وما يحول بين الحق وأهله من الطمع.
فهرول المنصور في مشيته حتى ملأ مسامعه، ثم رجع لدار الندوة، وقال لصاحب الشرطة: إن بالبيت رجلا يطوف فائتني به. فخرج صاحب الشرطة فوجد رجلا عند الركن اليماني، فقال:
أجب أمير المؤمنين، فلما دخل عليه، قال: ما الذي سمعتك آنفا تشكو إلى الله من ظهور البغي والفساد في الأرض وما يحول بين الحق وأهله من الطمع؟ فو الله لقد حشوت مسامعي ما أمرضني! فقال له: يا أمير المؤمنين إن الذي دخله الطمع حتى حال بين الحق وأهله، وامتلأت بلاد الله بذلك بغيا وفسادا أنت! فقال المنصور: ما هذا؟ أو قال: ويحك كيف يدخلني الطمع، والصفراء والبيضاء ببابي، وملك الأرض في قبضتى؟! فقال الرجل: سبحان الله يا أمير المؤمنين، وهل دخل أحدا من الطمع ما دخلك؟ استرعاك الله أمور المؤمنين وأموالهم، فأهملت أمورهم واهتممت بجمع أموالهم، واتخذت بينك وبين رعيتك حجابا من الجص والآجر، وحجبة معهم السلاح، وأمرت أن لا يدخل عليك إلا فلان وفلان، نفرا استخلصتهم لنفسك، وآثرتهم على رعيتك، ولم تأمر بإيصال المظلوم، ولا الجائع ولا العاري ولا أحد إلا وله في هذا المال حق! فلما رآك هؤلاء الذين استخلصتهم لنفسك، وآثرتهم على رعيتك، تجمع الأموال ولا تقسمها، قالوا:
هذا قد خان الله ورسوله، فما لنا لا نخونه؟ فأجمعوا على أن لا يصل إليك من أمور الناس إلا ما أرادوا، فصار هؤلاء شركاءك في سلطانك، وأنت غافل عنهم، فإذا جاء المظلوم إلى بابك، وجدك قد أوقفت ببابك رجلا ينظر في مظالم الناس، فإن كان الظالم من بطانتك، علل صاحب المظالم بالمظلوم، وسوّف به من وقت إلى وقت، فإذا جهد وظهرت أنت، صرخ بين يديك، فيضرب ضربا شديدا ليكون نكالا لغيره! وأنت ترى ذلك ولا تنكر، ولقد كانت الخلفاء قبلك، من بني أمية، إذا انتهت إليهم الظلامة أزيلت في الحال.
ولقد كنت أسافر الصين يا أمير المؤمنين فقدمته مرة، فوجدت الملك الذي به قد فقد سمعه فبكى، فقال له وزراؤه: ما يبكيك أيها الملك لا أبكى الله لك عينا؟ فقال: والله ما بكيت لمصيبة
نزلت بي، وإنما أبكي لمظلوم يصرخ بالباب، فلا أسمع صوته. ثم قال: إن كان سمعي قد ذهب فإن بصري لم يذهب، نادوا في الناس أن لا يلبس أحدا ثوبا أحمر إلا مظلوما. وكان يركب الفيل طرفي النهار، ويدور في البلد لعله يجد أحد لابسا ثوبا أحمر، فيعلم أنه مظلوم فينصفه، هذا يا أمير المؤمنين رجل مشرك غلبت رأفته على شح نفسه بالمشركين! فكيف لا تغلب رأفتك على شح نفسك بالمؤمنين وأنت مؤمن بالله وابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! يا أمير المؤمنين: إنما تجمع المال لإحدى ثلاث: إن قلت: إنما أجمع المال للولد، فقد أراك الله عبرة فيمن تقدم ممن جمع المال للولد، فلم يغن ذلك عنه، بل ربما مات فقيرا ذليلا حقيرا، إذ قد يسقط الطفل من بطن أمه وليس له مال، ولا على وجه الأرض من مال إلا ودونه يد شحيحة تحويه، فلم يزل يلطف الله تعالى بذلك الطفل، حتى تعظم رغبة الناس فيه، ويحوي ما حوته تلك اليد الشحيحة، ولست بالذي تعطي، وإنما الله المعطي. وإن قلت: إنما أجمعه لمصيبة تنزل بي، فقد أراك الله سبحانه وتعالى عبرة في الملوك والقرون الذين خلوا من قبلك، ما أغنى عنهم ما أعدوا من الأموال والرجال والكراع، حين أراد الله بهم ما أراد. وإن قلت: إنما أجمعه لغاية هي أجسم من الغاية التي أنت فيها، فو الله ما فوق منزلتك إلا منزلة، لا تدرك إلا بالعمل الصالح.
فبكى المنصور بكاء شديدا ثم قال: كيف أعمل والعلماء قد فرت مني، والعباد لم تقرب مني، والصالحون لم يدخلوا علي؟ فقال: يا أمير المؤمنين افتح الباب، وسهل الحجاب، وانتصر للمظلوم، وخذ من المال ما حل وطاب، وأقسمه بالحق والعدل، وأنا ضامن من هرب منك أن يعود إليك! فقال المنصور: نفعل إن شاء الله تعالى. وجاءه المؤذنون فآذنوه بالصلاة، فقام وصلى.
فلما قضى صلاته طلب الرجل فلم يجده. فقال لصاحب الشرطة: علي بالرجل الساعة فخرج يتطلبه، فوجده عند الركن اليماني، فقال له: أجب أمير المؤمنين. فقال له: ليس إلى ذلك سبيل.
فقال: إذا يضرب عنقي! فقال: لا، ولا الى ضرب عنقك من سبيل. ثم أخرج من مزود كان معه رقا مكتوبا، فقال: خذه فإن فيه دعاء الفرج، من دعا به صباحا، ومات من يومه مات شهيدا، ومن دعا به مساء، ومات من ليلته مات شهيدا، وذكر له فضلا عظيما وثوابا جزيلا.
فأخذه صاحب الشرطة، وأتى المنصور فلما رآه قال له: ويلك أو تحسن السحر! قال: لا والله يا أمير المؤمنين، ثم قص عليه فأمر المنصور بنقله، وأمر له بألف دينار. وهو هذا: اللهم كما لطفت في عظمتك وقدرتك دون اللطفاء، وعلوت بعظمتك على العظماء، وعلمت ما تحت أرضك كعلمك ما فوق عرشك، فكانت وساوس الصدور كالعلانية عندك، وعلانية القول كالسر في علمك، فانقاد كل شيء لعظمتك، وخضع كل ذي سلطان لسلطانك، وصار أمر الدنيا والآخرة كله بيدك، اجعل لي من كل غم وهم أصبحت أو أمسيت فيه فرجا ومخرجا، اللهم إن عفوك عن ذنوبي وتجاوزك عن خطيئتي وسترك على قبيح عملي أطمعني أن أسألك ما لا أستوجبه منك، مما قصرت فيه فصرت أدعوك آمنا، وأسألك مستأنسا، فإنك المحسن إلي وأنا المسيء إلى نفسي، فيما بيني وبينك تتودد إلي بالنعم، وأتبغض إليك بالمعاصي، فلم أجد كريما أعطف منك على عبد لئيم مثلي، ولكن الثقة بك حملتني على الجرأة عليك، فجد اللهم بفضلك وإحسانك علي، إنك أنت الرؤوف الرحيم. وروي أن الرجل المذكور كان الخضر عليه السلام.