الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومعنى الآية أن بورك فيك يا موسى، وفي الملائكة الذين حول النار، وهذه تحية من الله عز وجل لموسى عليه السلام، وتكرمة له. كما حيا إبراهيم عليه السلام، على ألسنة الملائكة، حين دخلوا عليه، فقالوا: رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد، فحمد نفسه تعالى بواسطة فعله. قلت: وكذلك إذا ذكر العبد ربه أو حمده فما ذكر الله إلا الله، ولا حمد الله إلا الله، لأنه تعالى ذكر نفسه وحمدها، بواسطة فعله. والعبد آلة ليس له شيء. قال «1» تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ
وقال تعالى: وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ
«2» ففعل العبد ينسب إلى الله خلق وايجاد. قال تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ
«3» وينسب إلى العبد نسبة كسب وإسناد ليعاقب عليه أو يثاب، والله تعالى أعلم. وقال بعضهم: هذه البركة راجعة إلى النار نفسها.
وأما وجه قوله تعالى: بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ
«4» فإن العرب تقول بارك الله لك وبارك فيك وبارك عليك وباركك، أربع لغات. قال الشاعر:
فبوركت مولودا وبوركت ناشئا
…
وبوركت عند الشيب إذ أنت أشيب
وأما الكلام المسموع من الشجرة، فاعلم أن مذهب أهل الحق، أن الله تعالى مستغن عن الحد والكلام والمكان والجهة والزمان، لأن ذلك من أمارات الحدوث، وهي خلقه وملكه، وهو سبحانه أجل وأعظم من أن يوصف بالجهات، أو يحد بالصفات، أو تحصيه الأوقات، أو تحويه الأماكن والأقطار، ولما كان جل وعلا كذلك، استحال أن توصف ذاته بأنها مختصة بجهة، أو متنقلة من مكان إلى مكان، أو حالة في مكان.
روي أن موسى عليه السلام، لما كلمه الله تعالى، سمع الكلام من سائر الجهات، ولم يسمعه من جهة واحدة، فعلم بذلك أنه كلام الله تعالى. وإذا ثبت هذا لم يجز أن يوصف تعالى بأنه يحل موضعا أو ينزل مكانا، كما لا يوصف بأنه جوهر ولا عرض، ولا يوصف كلامه بحرف ولا صوت، خلافا للحنابلة الحشوية، بل هو صفة قائمة بذاته تعالى، يوصف بها فينتفي عنه بها آفات الخرس والبكم، وما لا يليق بجلاله وكماله، ولا تقبل الانفصال والفراق بالانتقال إلى القلوب والأوراق. وأما الإفهام والإسماع، فيجوز أن يكون في موضع دون موضع، ومكان دون مكان، وحيث لم يقع إحاطة ولا إدراك بالوقوف على كنه ذاته، قال تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ
«5» وأما الهاء في قوله «6» تعالى: يا مُوسى إِنَّهُ
فهو عماد وليس بكناية.
فائدة أخرى
: اختلف في أن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم هل كلم ربه ليلة الإسراء بغير واسطة أم لا؟
فذهب ابن عباس وابن مسعود وجعفر الصادق وأبو الحسن الأشعري وطائفة من المتكلمين إلى أنه صلى الله عليه وسلم كلم الله بغير واسطة، وذهب جماعة إلى نفي ذلك. واختلف في جواز الرؤية، فأكثر المبتدعة على إنكار جوازها في الدنيا والآخرة، وأكثر أهل السنة والسلف على جوازها فيهما،
ووقوعهما في الآخرة. واختلف العلماء من السلف والخلف في أنه هل رأى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ربه تعالى أم لا؟ فأنكرته عائشة وأبو هريرة وابن مسعود وجماعة من السلف، وبه قال جماعة من المتكلمين والمحدثين، وأجازه جماعة من السلف وأنه صلى الله عليه وسلم رأى ربه ليلة الإسراء بعيني رأسه، وهو قول ابن عباس وأبي ذر وكعب الأحبار والحسن البصري والشافعي وأحمد بن حنبل. وحكي أيضا عن ابن مسعود، وأبي هريرة، والمشهور عنهما الأول، وبهذا القول الثاني قال أبو الحسن وجماعة من أصحابه، وهو الأصح، وهو مذهب المحققين من السادة الصوفية.
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: اختص موسى بالكلام، وابراهيم بالخلة ومحمد صلى الله عليه وسلم بالرؤية. وذهب جماعة من العلماء إلى الوقف، وقالوا: ليس عليه دليل قاطع نفيا ولا إثباتا، ولكنه جائز عقلا. وصححه القرطبي وغيره.
قلت: رؤية الله تعالى في الدنيا والآخرة جائزة بالأدلة العقلية والنقلية، أما العقلية فمعروفة في علم الكلام، وأما النقلية فمنها سؤال موسى عليه السلام رؤية الله تعالى. ووجه التمسك بذلك علم موسى بذلك، ولو علم استحالة ذلك لما سأله، ومحال أن يجهل موسى جواز ذلك، إذ يلزم منه أن يكون مع علو منصبه في النبوة وانتهائه إلى أن اصطفاه الله تعالى على الناس، وأسمعه كلامه بلا واسطة جاهلا بما يجب لله ويستحيل عليه ويجوز، وملتزم هذا كافر. نعوذ بالله من اعتقاد ذلك.
ومنها امتنانه تعالى على عباده بالنظر إلى وجهه في الدار الآخرة بقوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ، إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ
«1» وإذا جاز أن يروه في الدار الآخرة، جاز أن يروه في الدنيا لتساوي النظر بالنسبة إلى الأحكام. ومنها ما تواترت به الأحاديث من أخباره صلى الله عليه وسلم برؤية الله تعالى في الدار الآخرة، ووقوع ذلك كرامة للمؤمنين. فهذه الأدلة دالة على جواز رؤيته تعالى في الدنيا والآخرة.
وأما استدلال عائشة رضي الله تعالى عنها على عدم الرؤية بقوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ
«2» ففيه بعد إذا يقال بين الإدراك والابصار فرق، فيكون معنى لا تدركه الأبصار، أي لا تحيط به مع أنها تبصره. قاله سعيد بن المسيب وغيره وقد نفى الإدراك مع وجود الرؤية، في قوله تعالى: فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ، قالَ كَلَّا
«3» أي لا يدركونكم. وأيضا فإن الإبصار عموم، وهو قابل للتخصيص فيختص المنع بالكافرين، كما قال تعالى عنهم: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ
«4» ويكرم المؤمنين أو من شاء الله منهم بالرؤية كما قال تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ، إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ
«5» وبالجملة فالآية ليست نصا ولا من الظواهر الجلية في عدم جواز الرؤية، فلا حجة فيها والله أعلم. ولهذه المسألة أسرار وأغوار تركناها، لأن ذلك ليس من مقصود الكتاب، فمن أراد تحقيق هذه المسألة وغيرها من المسائل المهمة فعليه بكتابنا الجوهر الفريد، فإنا ذكرنا فيه اختلاف الفرق، وأقوال علماء الظاهر والباطن، وما اخترناه وما أيدناه وهو كتاب مهم عمدة في هذا الشأن، لا يستغني عنه