الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومنها قصة أعرابى يجاهد ويرد المغنم:
531-
روى البيهقى بسنده، أن رجلا من الأعراب جاء رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فامن به واتبعه فقال: أهاجر معك، فأوصى به بعض أصحابه، وغزا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وغنم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقسم المغنم، وقسم لهذا الأعرابى المؤمن، فأعطى ما قسم له، فقال: ما هذا؟ قالوا: قسم قسمه لك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ما على هذا اتبعتك، ولكن اتبعتك على أن أرمى هاهنا- وأشار إلى حلقه بسهم- فأموت فأدخل الجنة، فقال الرسول الأمين صلى الله تعالى عليه وسلم: إن تصدق الله يصدقك. رفض المال ولو أنه حق وحلال، ومنحة الغنيمة أخذها بحقها، وذلك فى سبيل أن يكون عمله خالصا لوجه الله تعالى، فهو لا يرد الحلال، ولكن لا يريد عوضا للجهاد.
ولما نهضوا للقتال كان معهم، فقتل بسهم أصابه حيث أشار إلى حلقه، فحمل إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فقدمه لله شهيدا، وقال:«اللهم هذا عبدك خرج مهاجرا فى سبيلك، قتل شهيدا، وأنا عليه شهيد» .
وقد ضرب هذا الأعرابى المؤمن أعلى مثل للإيمان، وطلب ما عند الله وحده لا شيء سواه، فطلب رضوانه ولا يريد مغنما، فرضى الله تبارك وتعالى عنه.
مؤمن يتحايل لماله بمكة المكرمة:
532-
وإن الإسلام فتح الطريق أمامه، لا تحول بينه وبين انتشاره قوة الطغاة، ولا صد عن سبيل الله، أخذ يطوف فى البلاد العربية فيعشو إليه من يريد الهداية، ومن يصغى قلبه للحق والنور والهداية.
وكان من ذلك إسلام الحجاج بن علاط السلمى، فإنه لما فتحت خيبر وزال كل ما كان يصد عن الإسلام جاء الحجاج هذا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إن لى مالا عند صاحبتى أم شيبة بنت أبى طلحة وكانت زوجه، وله منها ولد وأموال متفرقة فى تجارة مكة المكرمة والمؤمن يكون حريصا غير مستهين ولا يكون بخيلا، وفرق بين البخل والحرص، لأن الحرص معناه ألا يفرط فى حق اكتسبه بحله، ولا يكون هملا فرطا لا يعطى كل ذى حق حقه، ولا يفرط فى حقه مع التسامح فى موضعه أما البخل فإنه يشح بالمال ولا يضعه فى مواضعه.
فالمؤمن حريص غير مفرط، ولا بخيل، أراد الحجاج أن يصل إلى ماله وهو بمكة المكرمة، ولو أعلن إسلامه منع ماله، فاستأذن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن يخفى أمره، ويقول ما يسهل
الوصول إلى ماله من غير تعمد للكذب، ولا خدع لمؤمن، فأذن له رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.
خرج الحجاج إلى مكة المكرمة، حتى إذا التقى برجال من قريش يستمعون الأخبار، ويسألون عن أمر الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، وقد بلغهم أنه سار إلى خيبر، وهم يعلمون أنها قرية الحجاز، ريفا ومنعة ورجالا، فهم يتحسسون الأخبار، ويسألون الركبان.
فلما قابلوا الحجاج، ولم يكونوا علموا بإسلامه، ولم يظهره لهم، فسألوه عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وعن أمر خيبر، وقالوا له قد بلغنا أن القاطع (أى محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم) قد سار إلى خيبر، (وهى بلد يهود وريف الحجاز) .
قال: قد بلغنى ذلك، وعندى من الخبر ما يسركم، هزم هزيمة لم تسمعوا بمثلها قط، وقتل أصحابه قتلا لم نسمع أبدا بمثله قط، وأسر محمد أسرا، وقالوا: لا نقتله، حتى نبعث به إلى أهل مكة، فيقتلوه بين أظهرهم.
أعينونى على جمع مالى بمكة المكرمة، وعلى غرمائى، فإنى أريد أن أقدم خيبر، فأصيب من فل محمد وأصحابه قبل أن يسبقنى التجار إلى هنالك.
فقاموا فجمعوا له ماله يحثون الغرماء على ذلك.
وكان له عند امرأته مال موضوع، وأراد أن يأخذه، فطلب منها لعله يصيب من فرص البيع قبل أن يسبقه التجار.
تسامع الناس بخبر هزيمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، والناس يصغون دائما إلى ما يحبون، ويذيعونه وينشرونه فرحين مستبشرين، ويعميهم حبهم عن فحص الخبر ووزنه أو الشك فيه، بل يطمئنون إلى ما يحبون من غير تمحيص.
وفى مكة المكرمة محبون للنبى من ذوى قرباه، وعلى رأسهم العباس عم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فهاله الخبر، فذهب إلى الحجاج فسأله: ما الخبر الذى جئت به، فأشار إلى العباس أن عنده أخبارا وطلب إليه أن يسايره حتى يفرغ من جمع ماله، ويلقاه فى خلاء.
حتى إذا فرغ من جمع كل شيء كان له بمكة المكرمة، وأجمع الخروج لقى العباس رضى الله عنه، وقال: احفظ عنى حديثى يا أبا الفضل ثلاثا، فإنى أخشى الطلب، ثم قل ما شئت، قال:
أفعل، قال: فإنى والله لقد تركت ابن أخيك عروسا على بنت ملكهم صفية بنت حيى، ولقد افتتح
خيبر، وصارت له ولأصحابه ولقد أسلمت. وما جئت إلا لأخذ مالى فرقا من أن أغلب عليه، فإذا مضت ثلاث ليال، فأظهر أمرك فهو والله على ما نحب.
مكث العباس ثلاث ليال لا يلتقى بالناس، حتى إذا خرج لبس حلة، وتطيب، وأخذ عصاه، وخرج حتى أتى الكعبة المشرفة، فلما رأوه قالوا والله هذا التجلد لحر المصيبة.
قال: كلا والله الذى حلفتم به، لقد افتتح محمد صلى الله تعالى عليه وسلم خيبر، ونزل عروسا على بنت ملكهم، وأحرز أموالهم وما فيها، فأصبحت له، ولأصحابه. قالوا: من جاءك بهذا الخبر؟ قال: الذى جاءكم بما جاءكم به، ولقد دخل عليكم مسلما، فأخذ ماله، وانطلق ليلحق بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه، فيكون معه، قالوا: يالعباد الله أفلت عدو الله، أما والله لو علمنا لكان لنا وله شأن، ولم ينشبوا أن جاءهم الخبر.
ونقف وقفة قصيرة فى هذا، أيعد الرجل قد كذب، وهل يعد هذا الكذب إثما، ونقول قبل الإجابة أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لم يأذن له بالكذب، بل أذن بالقول، بأن يورى ولا يكذب، وأن يحاول من غير أن يتورط فى قول غير صحيح فى ذاته ولا فى موضعه.
ولكن هل يعتبر كذبا أن يوهم بالقول، ثم يوضح هو الحقيقة، وهو بين قوم ظالمين، ولا يمكن أن يصل إلى حقه المشروع إلا إذا أوهمهم، ثم أزال وهمهم بقول الحق الصريح، وهو قد ترك للعباس أن يصحح القول، ويبين مقصده من إيهامهم.
وإنى أحسب أنه لم يكذب ويصر على ما أدخله فى نفوسهم، والله سبحانه وتعالى أعلم.