الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثالثها: أننا رأينا أمراء العرب، أو جلهم كانوا أكثر استعداد للإجابة من غيرهم، وأن النصارى منهم كانوا أميل إلى الإجابة، وأبعد عن التعنت وخصوصا الذين كانوا يعلمون علم الكتاب، ويدرسون المسيحية فى أصلها الأول، وإن لم يكونوا غير مذكورين فى التاريخ.
وإنه فى الجملة قد أخذت الدعوة الإسلامية تعم بلاد العرب كلها، وإذا كان قد أرسل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بعد ذلك مجاهدين، فقد كان عملهم تعليم الإسلام، كما سنتكلم عن غزوات النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى اليمن بقيادة على بن أبى طالب، ومعاذ بن جبل رضى الله تعالى عنهما.
لقد كانت الاستجابة سريعة، والإجابة صادقة، إذ لم يكن منهم من بعد ذلك ردة كأهل اليمامة، وكان فيهم علم.
الذمى
587-
جاء فى رد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم على المنذر بن ساوى عندما سأله عن اليهود والمجوس، الذين يريدون الإقامة تحت سلطانه، ماذا يصنع بهم.
فذكر له النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يبقيهم مع الاحتفاظ بشعائر دينهم، وألا يضاروا فى تدينهم، على أن يدفعوا الجزية.
وقد تكلمنا فى الجزية بكلمات مجملة، تليق بكتاب مكتوب فى سيرة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، وإن الذى يبقى فى ظل المسلمين مقدما للأمير المسلم حق الطاعة، يسمى ذميا.
ذلك أن العهود التى يعقدها المسلمون أقسام ثلاثة:
أولها: العهد مع دولة غير إسلامية بهدنة، أو عدم اعتداء، كالعهد الذى كان بين المشركين والمسلمين فى صلح الحديبية، ويمكن عقده مع أى دولة أخرى غير دولة الشرك فى قريش.
وثانيها: عهد سلم مع المسلمين، بأن يجيبوا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى دعوته إلى الإسلام أو الحرب بأن يرضوا العهد بدل القتال، على أن يبقوا آمنين، لا يعتدون على المسلمين، ولا يظاهرون عليهم.
وثالثها: عهد يعطى للآحاد حق أن يقيموا مع المسلمين يكون لهم مالهم وعليهم ما عليهم، وتطلق لهم حرية التدين، وإقامة شعائر دينهم غير مضارين ولا محاربين، ويكونون فى الرعوية الإسلامية، كما يعبر الكتاب فى القوانين الدولية الآن.
وسمى هؤلاء ذميون، لأن لهم ذمة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم يقول «من آذى ذميا، فأنا خصمه يوم القيامة ومن خاصمته خصمته» .
ولقد كانت لهؤلاء الذميين رعاية خاصة احتفاظا بحرمات الأديان.
وقد قرر الفقهاء جواز عقد الذمة لليهود والنصارى والمجوس، وقد عقد الذمة لأهل الكتاب من اليهود والنصارى، بنص القرآن الكريم، فقد قال تعالى فى ذلك: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ. (التوبة- 29)
فثبت بهذا أن أخذ الجزية يعفيهم من القتال، وقد شرحنا ذلك عند الكلام فى أخذ الجزية.
أما أخذ الجزية من المجوس، وغيرهم كأهل الكتاب، فى أن يكونوا ذميين وتؤخذ الجزية منهم فإنه ثبت ذلك عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى كتابه للمنذر بن ساوى، وفى غيره من الأخبار والأحاديث.
ومشركو العرب يقتلون أو يسلمون حتى لا يكون فى الأرض العربية دينان وتكون خالصة للإسلام والمؤمنين، لأنها أرض الإسلام، منها انبعث، وإليها يعود.
بقى حكم الوثنيين غير العرب كالهنود وعبدة النجوم وكالبوذيين الذين يعبدون بوذا وتمثال بوذا إلى غير هؤلاء، فقد قرر أبو حنيفة وأصحابه أن الجزية تؤخذ منهم، ويكونون ذميين، وذلك بالقياس على المجوس، لأنهم ليسوا أسوأ حالا من عبدة النار، فليس عبدة الشمس بأسوأ من عبدة النار، وكذلك غيرهم، وإلى هذا الرأى نميل.
وإن الذمة عقد يثبت بالأمان والإقامة، وهو يوجد التزاما على ولى الأمر من المؤمنين بأن يتركهم وما يدينون، لا يضطهدون فى شعائرهم بل يقيمونها، وأن يعاملوا معاملة المؤمنين فى التمكين من الحياة وحمايتهم فى أنفسهم وأموالهم وحرماتهم، وأنكحتهم، وكل شؤون أسرتهم فيما بينهم، ولا يحرمون من حق وعليهم أن يلتزموا أولا بكل الأحكام الإسلامية، فتطبق عليهم العقوبات الإسلامية كاملة، يطبق عليهم القصاص، وتطبق عليهم الحدود كلها: حد السرقة، وحد الزنا، وحد القذف، فيقام عليهم إن قذفوا محصنة أو محصنا من المسلمين، ويحدون حد قطاع الطريق.
وتطبق عليهم الأحكام الإسلامية فى المعاملات من بيوع وإجارة ومداينات، ولا يأكلون الربا، ويخضعون معاملاتهم لأحكام ربا البيوع.
وألا يظهروا مخالفة الشريعة الإسلامية معلنين ذلك بألا يقيموا بيوتا للأوثان أو النيران بين المسلمين، وفى الجملة لا يظهرون بما قد يفتن المسلمين فى دينهم.
ولا يكون من هم أى خيانة للمسلمين، فلا ينتموا لدولة غير إسلامية تحارب الإسلام، ولا يناصروها وإن ذلك محادة للإسلام وأهله، ويجب أن يكون ولاؤهم للدولة الإسلامية، كولاء المسلمين لتحقق القاعدة الإسلامية: لهم ما لنا، وعليهم ما علينا.
ويلتزمون بألا يكون منهم سب للإسلام، ولا للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، ولا لأى أحد من صحابته، فإن كانوا فهم على عهدهم وأمنهم، وإلا ينبذ إليهم، ولا يقيموا فى ظل الإسلام، أو ينالهم العقاب.
ويلتزمون بألا يلحقوا بدار الحرب، وإلا كانوا أهل حرب، ولا يكونوا أهل ذمة.
وفى الجملة يجب عليهم ما يجب على المسلم على سواء، وقد قال أبو حنيفة لهم أن يشربوا الخمر. وتكون مالا متقوما بالنسبة لهم، بحيث إذا أراقه مسلم وجب عليه دفع قيمته، والخنزير لهم أن يأكلوه، وهو مال متقوم بالنسبة لهم، وإذا اعتدى مسلم وقتل خنزيرا فعليه قيمته، كما لو قتل شاة لمسلم.
وقال أبو حنيفة: نكاح بعض المحرمات فى الإسلام صحيح إذا كانوا يعتقدون صحته، وإذا ترافعوا إلى القاضى المسلم فى نفقة زوجية بناء على هذا النوع من النكاح حكم بها، وإذا ترافعوا بنسب كذلك حكم به، وذلك تطبيق للقاعدة الفقهية، أمرنا بتركهم وما يدينون، ويجوز لولى الأمر المسلم أن يعين قاضيا من بينهم يقضى بينهم.
وإذا اتفقوا على أن يتحاكموا لدى القاضى المسلم حكم بينهم لقوله تعالى فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ، وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ، فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً (المائدة- 42) .
وإذا كانوا يخاصمون مسلما، لا يحكم بينهم إلا القاضى المسلم، حفظا لحق المسلم، ولكمال الولاية عليه. ولأنه لا ولاية لغير المسلم على المسلم.
وإذا كان خصمان من الذميين وطالب أحدهما أمام القاضى المسلم ألزم الآخر عند بعض الفقهاء، لأنه يكون كما إذا كان الخصم مسلما. وقال آخر لا يلزم. لأن له قاضيا يقضى بينهم.
وأحسب أن تعيين قاض لهم إنما هو فى شؤون الأسرة، وأمور دينهم.