الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولقد قال الله تعالى فى ذلك الجمع الحاشد: وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ، وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ. رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ، وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ، فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ. لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ. لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ، وَلا عَلَى الْمَرْضى، وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ، إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ، تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ. إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ، وَهُمْ أَغْنِياءُ، رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ» (التوبة: 86: 93) .
وقبل أن يسير الجيش الكبير كان بعض البكائين من الأنصار الذين لم يجد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما يحملهم عليه- وقد وجد من يعينه، فابن يامين بن عمير بن كعب لقى اثنين منهما وهما يبكيان، فقال ما يبكيكما، قالا جئنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فلم نجد عنده ما يحملنا عليه وليس عندنا ما نتقوى به على الخروج، فأعطاهما ناضحا له فارتحلاه.
وإن بعضهم، وهو عطية بن زيد قد أخذ يعتذر إلى الله تعالى عن عدم خروجه، ويقول:«اللهم إنك أمرت بالجهاد، ورغبت فيه، ثم لم تجعل عندى ما أتقوى به، ولم تجعل فى يد رسولك ما يحملنى عليه، وإنى أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابنى فيها فى مال أو حد جسد أو عرض، ثم أصبح مع الناس» .
المسير
642-
أخذ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فى السير بجيشه الذى بلغ نحو ثلاثين ألفا، وتبعه عبد الله بن أبى مع المنافقين وأهل الريب فلما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم تخلف، وما كان سيره ثم تخلفه إلا ليخذل المؤمنين ليثير الريب بعمله، كما أثاره بقوله.
وقد جعل على المدينة المنورة محمد بن سلمة الأنصارى.
وخلف على بن أبى طالب فى أهله، ويظهر أن هذه تشبه ما خلفه به على الودائع يوم الهجرة، لأن الشقة كانت بعيدة، فاختار رجلا من أهله ليقوم على أهله وأهله، وما كان لعلى أن يكون له بعد أمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الخيرة من أمره، بل عليه الطاعة المجردة، ولكن المنافقين الذين من شأنهم أن يثيروا الريب، والإفساد ويسعوا بالنميمة بالأحبة- أشاعوا قالة غير صحيحة أصلا، قالوا: ما خلف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على بن أبى طالب إلا استثقالا له وتخففا منه.
فلما أكثروا من القول فى ذلك، أخذ على رضى الله تعالى عنه سلاحه، ثم خرج حتى لحق رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو نازل بالجرف فأخبره بما قالوا، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم:«كذبوا، ولكنى خلفتك لما ورائى فارجع فى أهلى وأهلك، أفلا ترضى أن تكون منى بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبى بعدى» روى هذا الحديث البخارى ومسلم وأبو داود الطيالسى.
وروى الإمام أحمد رضى الله تعالى عنه أن عليا المجاهد، استكثر على نفسه أن يكون ميدان الجهاد متسعا، وفى غزوة كثر فيها التخلف، أن يبقى ولا يحمل سيفه البتار، فقال للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم «يا رسول الله لا تخلفنى فى النساء والصبيان! فقال: يا على أما ترضى أن تكون منى بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبى بعدى» .
وإن هذا كان المنتظر من على هذا، فإن المؤمنين المتقين كانوا يتسابقون فى الخروج لأنهم لا يرضون لأنفسهم أن يبقوا فى راحة بين أهليهم والرسول صلى الله تعالى عليه وسلم يسير فى الصحراء حيث الحر اللافح.
قعد أبو خيثمة وله امرأتان عربيتان قد رشتا حول عريشهما الماء لتكونا مع زوجهما فى جو رطيب، فلما رأى ذلك قال:«يكون رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فى الضح والريح والحر. وأبو خيثمة فى ظل بارد، ومكان مهيأ وامرأة حسناء فى حاله مقيم، ما هذا بالنصف، والله لا أدخل عريش واحدة منكما، حتى ألحق برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فهيئالى زادا» ، وأخلف عنه بعض الصحابة فى أهله، وارتحل ناضحا له، وأسرع حتى وصل إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.
كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم معتمدا على الله تعالى، والناس معه، وبعضهم يقول تخلف فلان، فيقول عليه الصلاة والسلام: دعوه، فإن يكن فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحنا الله منه، حتى قيل تخلف أبو ذر، وتلوم به بعيره.
ولما أبطأ بعير أبى ذر، وهو يريد أن يلحق رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، نزل وترك البعير، وتخفف ماشيا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، حتى قارب ركب النبى صلى الله تعالى عليه
وسلم، فنظر ناظر من المسلمين، فقال: يا رسول الله هذا رجل ماش على الطريق فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «كن أبا ذر» فلما تأمله الناس قالوا يا رسول الله هو والله أبو ذر فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «يرحم الله أبا ذر يمشى وحده ويموت وحده، ويبعث وحده» .
وقد مات أبو ذر، وقد نفاه عثمان إلى الربذة، فمات وحيدا حتى عثر به فى الصحراء عبد الله بن مسعود، فدفنه، وبكاه، وقال صدق رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.
ولقد كانت هذه الغزوة رحلة إسلامية إلى حيث آثار عاد وثمود، فمر بها، ولقد مر بالحجر، فسجى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثوبه على وجهه واستحث راحلته، ثم قال: لا تدخلوا بيوت الذين ظلموا أنفسهم، إلا وأنتم باكون، خوفا من أن يصيبكم مثل ما أصابهم فهو يدعو إلى الاعتبار بالآثار، لا بمجرد التطواف بالرسوم من غير نظر إلى ما تدل.
وبينما المؤمنون سائرون أصابهم عطش شديد ولا ماء يروون به غلتهم، فشكوا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فدعا عليه الصلاة والسلام واستسقى، فأرسل الله سحابة مملوءة ماء، فأمطرت، وألقت حمولتها، وارتوى الناس، واحتملوا معهم ماء يرويهم عند حاجتهم إلى الماء.
ولقد ضلت ناقة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فأخبر عن مكانها وبعث بعض الناس فوجدوها، وقد مضى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فى لأواء الصحراء وشدتها، والمؤمنون الذين نصحوا لله ولرسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، يركبون الصعاب وهم حوله يعاونونه، ويشدون من أزره، وكان بعض الذين تخلفوا منهم منافقون لا يكتفون بأن يكونوا مع الخوالف، بل يتهكمون ويسخرون من النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ومن معه من المؤمنين، وهو فى منطلقه إلى تبوك يقولون: أتحسبون جلاد بنى الأصفر كقتال العرب، والله لكأننا بكم غدا مقرنين بالحبال يقولون ذلك إرجافا وترهيبا.
ولقد بلغ النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ما قالوا، فأتوا إليه يعتذرون بقول قائل إنما كنا نخوض ونلعب، فقال الله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ (التوبة: 65) .
كان ذلك أمر الذين نصحوا لله ولرسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، وأخلصوا، وهذا الذى ذكرناه شأن الذين رضوا بالقعود، وأولئك يقطعون الفيافى والقفار ليصلوا إلى الغاية التى يتحقق فيها أمر الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، وقد وصلوا سالمين وعادوا سالمين.