المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الثلاثة الذين خلفوا - خاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم - جـ ٣

[محمد أبو زهرة]

فهرس الكتاب

- ‌ الجزء الثالث

- ‌رسائله صلى الله تعالى عليه وسلم

- ‌إلى خيبر

- ‌القائد حامل الراية:

- ‌الصلح والغنائم

- ‌خيانة وجزاؤها:

- ‌الأرض والنخيل:

- ‌فدك

- ‌حوادث ذات مغزى في خيبر

- ‌منها أمر الأسود الراعى:

- ‌ومنها قصة أعرابى يجاهد ويرد المغنم:

- ‌مؤمن يتحايل لماله بمكة المكرمة:

- ‌زواج النبي صلي الله تعالي عليه وسلم بأم المؤمنين صفية

- ‌غدر وسماحة

- ‌قدوم جعفر بن أبى طالب ومن معه من المهاجرين

- ‌وادى القرى

- ‌صلح تيماء

- ‌إجلاء عمر لليهود

- ‌الأحكام الشرعية التى تقررت في خيبر

- ‌إباحة المزارعة والمساقاة:

- ‌تحريم أكل لحم الحمر الإنسية:

- ‌تحريم سباع البهائم:

- ‌تحريم وطء الحبالى من السبايا وغيرهن:

- ‌قسمة الغنائم ومالا تقسم منها ووقتها:

- ‌الأمانة واجبة مع الأعداء:

- ‌النبى صلى الله تعالى عليه وسلم تفوته الصلاة:

- ‌تحريم المتعة في خيبر

- ‌حقيقة المتعة:

- ‌وتختص بالأحكام الآتية:

- ‌نهى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عن المتعة:

- ‌تحريم ربا البيوع

- ‌الحكمة فى تحريم البيوع فيها إلا بالمثل:

- ‌علة القياس فى الأموال الربوية:

- ‌تنبيهات:

- ‌شرعية الجزية

- ‌صحيفة مكذوبة:

- ‌الجزية التى كان يأخذها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم:

- ‌وخلاصة عقد الذمة أنه تضمن:

- ‌سرايا بعد خيبر

- ‌سرية أبى بكر الصديق إلى فزارة

- ‌سرية عمر بن الخطاب

- ‌سرية عبد الله بن رواحة إلى يسير اليهودى

- ‌سرية بشير بن سعد إلى بنى مرة من فدك

- ‌سرية أبي حدود

- ‌عمرة القضاء

- ‌عمرة القضاء فى القرآن الكريم

- ‌حكم شرعى فى عمرة القضاء

- ‌سرية ابن أبى العوجاء السلمى

- ‌إسلام خالد بن الوليد

- ‌إسلام عمرو بن العاص

- ‌سرايا للتعرف في البلاد

- ‌إلي بني قضاعة

- ‌غزوة مؤتة

- ‌نتيجة الغزوة

- ‌سرية ذات السلاسل

- ‌سرية أبي عبيدة

- ‌سرية أبي قتادة

- ‌انتشار الإسلام فى البلاد العربية

- ‌بعث الرسائل إلى الملوك

- ‌كتابه إلى هرقل وأثره

- ‌كتابه إلي كسري ملك الفرس

- ‌كتابه إلى النجاشى

- ‌كتاب رسول الله صلي الله تعالى عليه وسلم إلى المقوقس

- ‌كتابه إلى المنذر بن ساوى

- ‌الكتاب إلى ملك عمان

- ‌كتابه عليه الصلاة والسلام إلى صاحب اليمامة

- ‌الذمى

- ‌الفتح المبين

- ‌نقض قريش لصلح الحديبية:

- ‌ذل الغدر

- ‌الاستعداد للفتح

- ‌خروج الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم

- ‌قريش تتحسس الأخبار

- ‌اللقاء

- ‌دخول رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مكة المكرمة:

- ‌إسلام أبى قحافة:

- ‌قتال فى جوانب من مكة المكرمة:

- ‌دخول النبى صلى الله تعالى عليه وسلم المسجد الحرام:

- ‌العفو الكريم الشامل:

- ‌الأمان العام:

- ‌الأنصار يتوهمون أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يعود إلى مكة المكرمة

- ‌حرمة مكة المكرمة

- ‌محطم الأوثان

- ‌بعثة خالد بن الوليد إلى جذيمة

- ‌مدة إقامة رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة المكرمة

- ‌أحكام فقهية شرعت فى الفتح

- ‌مكة المكرمة وما يحرم فيها:

- ‌دية شبه العمد

- ‌الميراث بين المسلم والكافر

- ‌الولد للفراش

- ‌قطع اليد

- ‌المتعة وتحريمها

- ‌المبايعة على الإسلام

- ‌نفقة الزوجة

- ‌حكم الهجرة بعد الفتح

- ‌ملكية أرض مكة المكرمة

- ‌سب النبى صلى الله عليه وسلم

- ‌غزوة هوازن

- ‌ابتداء المعركة:

- ‌الانهزام ثم الانتصار:

- ‌الانتهاء بالهزيمة الساحقة:

- ‌ أوطاس

- ‌ثمرات المعركة

- ‌موجدة الأنصار

- ‌الشفاعة في الغنائم بعد توزيعها

- ‌أحكام شرعية في غزوة حنين

- ‌العارية المضمونة:

- ‌عطاء المؤلفة قلوبهم من غنيمة هوازن

- ‌تبادل الرقيق بالحيوان

- ‌غزوة الطائف

- ‌عود إلي غنائم هوازن

- ‌عمرة الجعرانة

- ‌قدوم كعب بن زهير

- ‌السرايا بعد هوازن

- ‌سرية الضحاك بن سفيان:

- ‌سرية قطبة بن عامر:

- ‌سرية علقمة بن محرز:

- ‌سرية على بن أبى طالب لهدم صنم طيئ:

- ‌غزوة تبوك

- ‌الحال عند الغزو:

- ‌المسير

- ‌وصول رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم إلى تبوك وخطبته

- ‌نتائج تبوك

- ‌كتاب قيصر إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم

- ‌مصالحته عليه الصلاة والسلام ملك أيلة:

- ‌سرية خالد إلى أكيدر دومة

- ‌عودة المسلمين من تبوك

- ‌القائد يرعى جنده حيا وميتا:

- ‌عصمة الله تعالى لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم

- ‌مسجد الضرار

- ‌الثلاثة الذين خلفوا

- ‌العبرة والتربية:

- ‌سبعة ربطوا أنفسهم بأعمدة المسجد

- ‌الوفود

- ‌وفد مزينة

- ‌وفد بنى تميم

- ‌وفد ثقيف

- ‌وفد بني عامر

- ‌وفد عبد القيس

- ‌وفد بنى حنيفة

- ‌وفد طيىء

- ‌وفد كندة

- ‌وفد الأشعريين وأهل اليمن

- ‌غدا نلقى الأحبة…محمدا وصحبه

- ‌وفد الأزد

- ‌وفد بني الحارث بن كعب

- ‌وفد همذان

- ‌قدوم وفد دوس

- ‌قدوم رسول ملوك حمير

- ‌671- كتاب آخر لليمن:

- ‌وفد نجران

- ‌ما يدل عليه أمر هذا الوفد

- ‌الإذعان والإيمان:

- ‌قدوم وفد بنى سعد بن بكر

- ‌وفد تجيب

- ‌وفد بنى سعد من قضاعة

- ‌وفد فزارة

- ‌وفد بهراء

- ‌قدوم وفد عذرة

- ‌وفد بلى

- ‌وفد ذى مرة

- ‌وفد خولان

- ‌وفد محارب

- ‌وفد صداء

- ‌قدوم وفد سلامان

- ‌وفد غامد

- ‌وفد الأزد

- ‌قدوم وائل بن حجر

- ‌وفد النخع

- ‌المغزى فى هذه الوفود

- ‌بعث معاذ بن جبل

- ‌بعث علي رضى الله عنه

- ‌وننبه هنا إلى أمور ثلاثة يوجب الحق التنبيه إليها:

- ‌أولها:

- ‌ثانيها:

- ‌ثالثها:

- ‌تولية على قضاء اليمن:

- ‌بعث الصديق ليكون أمير الحج

- ‌تنبيهان لا بد منهما:

- ‌697- التنبيه الأول:

- ‌التنبيه الثاني:

- ‌سورة براءة

- ‌ما اشتملت عليه سورة براءة:

- ‌غزوة تبوك فى سورة براءة:

- ‌لمز المنافقين فى الصدقات وغيرها:

- ‌جهاد النفاق والكفر:

- ‌أعذار النفاق:

- ‌ما بين الإيمان والضعف والنفاق:

- ‌بعض ما في سورة براءة من حكم وعبر

- ‌انتشار الدعوة الإسلامية

- ‌الحديبية:

- ‌حجة الوداع

- ‌الخروج لحجة البلاغ، وما قام به من مناسك:

- ‌الأماكن التى نزلها، والأدعية التى ذكرها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم

- ‌دعاؤه صلى الله تعالى عليه وسلم فى عرفة:

- ‌العودة إلى المدينة المنورة

- ‌الوداع بعد التمام

- ‌بعث أسامة بن زيد

- ‌بعث اسامة إلى أرض فلسطين:

- ‌الوداع

- ‌أولها:

- ‌الأمر الثانى:

- ‌الأمر الثالث:

- ‌توديعه لابنته:

- ‌إنك ميت وإنهم ميتون

- ‌صلاة أبى بكر:

- ‌لكل أجل كتاب:

- ‌غسل الجثمان الطاهر ودفنه:

- ‌تركة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم

- ‌زوجات النبي صلى الله تعالى عليه وسلم

- ‌زواجه عليه الصلاة والسلام ببقية نسائه:

- ‌العبرة

- ‌أما بعد

- ‌فهرس المحتويات

- ‌المجلد الأول

- ‌المجلد الثانى

- ‌المجلد الثالث

الفصل: ‌الثلاثة الذين خلفوا

ولقد قال بعض الذين لم يدخلوا فى الإسلام «ابنوا مسجدكم، واستعدوا ما استطعتم من قوة ومن سلاح، فإنى ذاهب إلى قيصر الروم، فاتى بجنده من الروم، فأخرج محمدا وأصحابه» .

وإن هذا المقصد السيئ واضح من أن البناء كان والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم يتجهز، يجمع الجموع للذهاب إلى تبوك، وقد كانوا يتوقعون ما يتمنون، وهو انهزام النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وجيشه أمام الرومان، ولذلك دعا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم اثنين من صحابته فقال انطلقا إلى هذا المسجد الظالم فاهدماه واحرقاه، فخرجا مسرعين حتى أتيا بنى سالم بن عوف فقال أحدهما لصاحبه، انظر حتى أخرج إليك بنار من أهلى، وهم بنو سالم بن عوف وذهب إلى أهله، فأتى بسعف من النخل، فأشعلا فيه نارا، ثم خرجا يشتدان حتى دخلاه وفيه أهله، فحرقاه وهدماه، فتفرقوا عنه.

ولقد خيب الله ظنهم، فقد تخاذل الرومان عن أن يلتقوا مع جيش الإسلام، وذهب عنهم ما كانوا يتحدثون فيه من كلام منبعث من نفاقهم إذ جاء على لسانهم أن المسلمين لا يستطيعون جلاد الروم، فقد خاف الروم ولم يخف رجال محمد صلى الله تعالى عليه وسلم الذين قدموا أنفسهم لله تعالي.

‌الثلاثة الذين خلفوا

652-

انقسم المؤمنون الذين دعاهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عند الخروج إلى تبوك إلى ثلاثة أقسام:

وأول الأقسام وأظهرها، وهم قوة الإسلام الأولى، الذين شروا أنفسهم لله بأن لهم الجنة يقاتلون ويقتلون، وهم الذين تقدموا للذهاب مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وهم الذين قال الله تعالى فيهم لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (التوبة: 117) .

والقسم الثانى: جماعة تخلفوا عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ومنهم منافقون، ومنهم ضعفاء الإيمان، ومنهم من فيه خور، وضعف، وفى كل أحوالهم ليسوا من أقوياء الإيمان الذين يفدونه بأنفسهم وأموالهم، وراحتهم.

وأولئك اعتذروا وقبل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم اعتذارهم، وبعضهم كاذب لا محالة، وقال فيهم سبحانه وتعالى: إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ، رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ، فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ. يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ، قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ، قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ، وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ

ص: 970

وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ، فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ، فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ. يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (التوبة- 93: 96) .

عندما دخل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم المدينة المنورة بدأ بالمسجد فصلى ركعتين، ثم جاء إليه المخلفون الذين تخلفوا لمرضهم وضعفهم، والذين لا يجدون ما يحملهم، فكان عذرهم باديا، يسقط تكليفهم هذا الخروج الذى لا يكون إلا على أهل القوة والسلامة، والذين يجدون ما ينفقون، ولا ما يحملهم، فالله تعالى قد أسقط عنهم الحرج بقوله تعالت كلماته: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ (التوبة: 91) .

والباقون القادرون الأغنياء تقدموا بالاعتذار للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وطفقوا إليه يعتذرون ويحلفون له وكانوا بضعة وثمانين رجلا، فقبل منهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما أظهروه، وكما يقول ابن إسحاق قبل علانيتهم، وبايعهم، ووكل سرائرهم إلى الله تعالى، وهو يعلم أنه إن رضى عنهم، لا يرضى عنهم الله سبحانه وتعالى، ولكنه مأمور بألا يحكم إلا بالظاهر، وإذا قبل الظاهر، فقد يسيرون فى تحسين الباطن.

القسم الثالث- من أخلصوا دينهم لله تعالى، ولكنهم تخلفوا من غير معذرة، ولم يرتضوا الكذب على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وخير لهم أن يعترفوا بتقصيرهم عن أن يكذبوا على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وهؤلاء ثلاثة، لم يعدهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلا من أقوياء الإيمان، ولكن غلب هواهم فى القعود فى ساعة التجهيز أو غلب فيهم ضعف وقتى، وإحساس ببعد الشقة، فرضوا أن يكونوا مع الخوالف، ولكن فيهم قلوب، لم يطبع عليها كأولئك الذين طبع الله على قلوبهم.

لذلك كان لا بد من علاج نفسى لهذه القلوب التى لم ترن عليها روانى الإثم المقصود، وإن كان تقصير فقد أدركوه، وكان ذلك العلاج الذى رآه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحى يوحى، وذلك بالإعراض عنهم، ومهاجرتهم، وذلك لإيقاظ نفوسهم، وتعويدهم الصبر، وكانت هذه العقوبة تشبه الكفارة بالصوم ستين يوما متتابعة، لأنها تكون تربية للنفس وتهذيبها، لقد أعرض عنهم المؤمنون خمسين يوما ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، وظنوا أن لا ملجأ من الله تعالى إلا إليه.

ص: 971

ولنترك الحديث عنهم وعن نفوسهم وعن معاملة المسلمين إلى الذى تحدث بخوالج نفسه، وما تلقاه وما كان فيه من صبر فريد وهو كعب بن مالك:

«جاء كعب بن مالك، فلما سلم عليه صلى الله تعالى عليه وسلم «تبسم له تبسم المغضب، ثم قال: فجئت أمشى حتى جلست بين يديه. فقال: ما خلفك! ألم تكن قد ابتعت ظهرك» .

فقلت: بلى والله، إنى لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن سأخرج من سخطه بعذر ولقد أعطيت جدلا، ولكنى والله لقد علمت إن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى على ليوشكن الله تعالى أن يسخطك على، ولئن حدثتك حديث صدق تجد فيه عليّ إنى لأرجو فيه عفو الله عنى والله ما كان لى من عذر، والله ما كنت قط أقوى منى ولا أيسر حين تخلفت عنك، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أما هذا فقد صدق فقم، حتى يقضى الله تعالى فيك، فقمت، وكان رجال من بنى سلمة، فاتبعونى يؤنبوننى فقالوا لى، والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا، ولقد عجزت ألا تكون اعتذرت لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بما اعتذر إليه المخلفون، فقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لك، فو الله ما زالوا يؤنبوننى، حتى أردت أن أرجع، فأكذب نفسى ثم قلت لهم: هل لقى هذا معى أحد؟ قالوا: نعم رجلان قالا مثل ما قلت، فقيل لهما مثل الذى قيل لك، فقلت من هما، قالوا مرارة بن الربيع العامري، وهلال بن أمية، فذكروا لى رجلين صالحين شهدا بدرا، فهما أسوة، فرضيت حين ذكرا لى، ونهى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه، فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت لى الأرض، فما هى بالتى أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة.. فأما صاحباى فاستكانا وقعدا فى بيوتهما يبكيان. وأما أنا فكنت أشد القوم وأجلدهم، فكنت أخرج وأشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف فى الأسواق، ولا يكلمنى أحد، وآتى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأسلم عليه، وهو فى مجلسه بعد الصلاة، فأقول فى نفسى هل حرك شفتيه يرد السلام على أم لا، ثم أجلس قريبا منه، فأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتى أقبل إلى وإذا التفت نحوه أعرض عنى، حتى إذا طال على ذلك من جفوة المسلمين، مشيت حتى تسورت جدار حائط أبى قتادة، وهو ابن عمى وأحب الناس إلى، فسلمت عليه، فو الله ما رد على السلام فقلت يا أبا قتادة أنشدك الله، هل تعلمنى أحب الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، فسكت، فعدت له لنشدته، فقال: الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم أعلم، ففاضت عيناى وتوليت حتى تسورت الجدار، فبينا أنا أمشى بسوق المدينة المنورة وإذا نبطى من أنباط الشام ممن قدم بالطعام يبيعه فى المدينة المنورة يقول من يدل على كعب بن مالك. فطفق الناس يشيرون إلى حتى إذا جاءنى دفع إلى كتابا من ملك غسان فإذا فيه:

ص: 972

«أما بعد فإنه بلغنى أن صاحبك جافاك، ولم يجعلك الله بدار هوان، ولا مضيعة فالحق بنا نواسك» فقلت لما قرأتها: وهذا أيضا من البلاء، فتيممت التنور فسجرتها حتى مضت أربعون ليلة من الخمسين إذ رسول رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يأتينى فيقول: إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يأمرك أن تعتزل النساء فقلت: أطلقها، أم ماذا. قال: لا ولكن اعتزلها ولا تقربها. وأرسل إلى صاحبى مثل ذلك، فقلت لامرأتى الحقى بأهلك فكونى عندهم حتى يقضى الله فى هذا الأمر، فجاءت امرأة هلال بن أمية فقالت: يا رسول الله إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم. فهل تكره أن أخدمه قال: لا، ولكن لا يقربك. قالت: والله إنه ما به حركة إلى شيء، والله ما زال يبكى منذ كان من أمره إلى يومه هذا، قال كعب: فقال لى بعض أهلى لو استأذنت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فى امرأتك، كما أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه. فقلت: والله لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وما ندرى ما يقول رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذا استأذنته فيها، وأنا رجل شاب، ولبثت بعد ذلك عشر ليال حتى إذا كانت لنا خمسون من حين نهى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فلما صليت صلاة الفجر صبح خمسين ليلة على سطح بيت من بيوتنا، بينما أنا جالس على الحال فى ذكر الله تعالى، قد ضاقت على نفسى وضاقت علينا الأرض بما رحبت سمعت صوت صارخ بأعلى صوته: يا كعب بن مالك أبشر، فخررت ساجدا، فعرفت أن قد جاء فرج الله تعالي، وأذن له رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بتوبة الله تعالى علينا، حين صلى الفجر، فذهب الناس يبشروننا، وذهب قبلى صاحباى مستبشرين» .

هنأه الناس فلم يقبل تهنئتهم وذهب إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال له الرسول الكريم صلى الله تعالى عليه وسلم المربى المكمل أبشر بخير يوم يمر عليك منذ ولدتك أمك قال له كعب: أهو من عندك يا رسول الله أم من عند الله، قال: لا، بل من عند الله.

صفت نفس الرجل، وتهذب، وخرج من كل ماله صدقة لوجه الله تعالى ولرسوله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال له الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم: أبق بعض مالك، فأبقى سهمه من الغنائم التى استولى عليها المسلمون فى خيبر.

ولقد خص الله سبحانه وتعالى أولئك الذين تخلفوا فى الأرض بذكر قبول توبتهم مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مع المهاجرين والأنصار فقال تعالى كما تلونا لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ

ص: 973