الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولعل ما قلناه هو السر فى أن عمر بن الخطاب فاروق الإسلام الذى لم يفر أحد فريه فى الإسلام، لم يكن يعامله معاملة المطمئن إليه، وإن كان يقدر مقدرته الحربية.
إسلام عمرو بن العاص
568-
يتشابه إسلام عمرو بن العاص مع إسلام خالد بن الوليد، وإن كان فى إسلام خالد معان توميء إلى أنه أدرك بعض معانى الوحى، بدليل ما لاحظه فى صلاة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وإدراكه أن الله تعالى مانع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وأنه غير مسلمه وإدراكه مكانة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بين العرب والعجم، وأن شرفه هو شرف قريش، بل كانت المصلحة الدافعة أوضح فى عمرو بن العاص.
لو نذكر كيف دخل الإسلام قلبه بما حكاه الواقدى عنه.
يقول عمرو بن العاص: «كنت للإسلام مجانبا معاديا، حضرت بدرا مع المشركين فنجوت، ثم حضرت أحدا فنجوت، ثم حضرت الخندق فنجوت، فقلت فى نفسى: والله ليظهرن محمد على قريش فلحقت بمالى، وأقللت من الناس (أى من لقائهم) ، فلما حضر الحديبية رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وانصرف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فى الصلح، ورجعت قريش إلى مكة المكرمة، جعلت أقول يدخل محمد قابلا مكة المكرمة، ما مكة المكرمة بمنزل ولا الطائف، ولا شيء خير من الخروج، وأنا بعد ناء عن الإسلام، وأرى لو أسلمت قريش كلها لم أسلم، فقدمت مكة المكرمة، وجمعت رجالا من قومى، وكانوا يرون رأيى، ويسمعون منى، ويقدموننى فيما نابهم فقلت لهم كيف أنا فيكم، فقالوا ذو رأينا، ومدرهنا فى يمن نفس، وبركة أمر. قلت تعلمون أنى والله لأرى أمر محمد أمرا يعلو الأمور علوا منكرا وإنى قد رأيت رأيا. قالوا وما هو؟ قلت: نلحق بالنجاشى فنكون معه، فإن يظهر محمد كنا عند النجاشى، ونكون تحت يد النجاشى أحب إلينا من أن نكون تحت يد محمد، وإن تظهر قريش فنحن من قد عرفوا. قالوا: هذا الرأى- قلت فاجمعوا ما نهديه له.
جمعوا أحب ما يهدى إليه وهو الأدم، وذهبوا إلى النجاشى.
ثم يقول عمرو بن العاص فى لقائه مع النجاشى، فو الله إنا لعنده إذ جاء عمرو بن أمية الضمرى وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قد بعثه بكتاب كتبه يزوجه أم حبيبة بنت أبى سفيان، فدخل عليه، ثم خرج من عنده، فقلت لأصحابى: هذا عمرو بن أمية الضمرى، ولو دخلت على
النجاشى فسألته اياه، فأعطانيه فضربت عنقه، فإذا فعلت ذلك سرت قريش وكنت أجزأت عنها حتى قتلت رسول محمد.
فدخلت على النجاشى، فسجدت له، كما كنت أصنع، فقال: مرحبا بصديقى أهديت لى من بلادك شيئا!! قلت نعم أيها الملك أهديت لك أدما كثيرة. ثم قدمته فأعجبه، وفرق منه شيئا بين بطارقته، وأمر بسائره فأدخل فى موضع وأمر أن يكتب ويحتفظ به، فلما رأيت طيب نفسه قلت: أيها الملك إنى رأيت رجلا خرج من عندك، وهو رسول عدو لنا قد وترنا، وقتل أشرافنا وخيارنا فأعطنيه فأقتله.
فغضب من ذلك ورفع يده، فضرب بها أنفى ضربة، ظننت أنه كسره، فجعلت أتلقى الدم بثيابى، فأصابنى من الذل ما لو انشقت بى الأرض لدخلت فيها فرقا منه.
ثم قلت: أيها الملك لو ظننت أنك تكره ما قلت ما سألتك، فاستحيا وقال:«يا عمرو تسألنى أن أعطيك رسول من يأتيه الناموس الأكبر الذى كان يأتى موسى، والذى كان يأتى عيسى- لتقتله» .
قال عمرو: فغير الله قلبى عما كنت عليه، وقلت فى نفسى: عرفت هذا الحق العرب والعجم، وتخالف أنت، ثم قلت: أتشهد أيها الملك بذلك؟
قال الملك: نعم أشهد عند الله يا عمرو، فأطعنى واتبعه، فو الله إنه لعلى الحق، وليظهرن على من خالفه. كما ظهر موسى على فرعون وجنوده. قلت: أتبايعنى على الإسلام، قال نعم. فبسط يده، فبايعنى على الإسلام، ثم دعا بطست، فغسل عنى الدم، وكسانى ثيابا، وكانت ثيابى قد امتلأت بالدم فألقيتها.
ثم خرجت على أصحابى، فلما رأوا كسوة النجاشى سروا بذلك، وقالوا هل أدركت من صاحبك ما أردت؟ قلت: كرهت أن أكلمه فى أول مرة، وقلت: أعود إليه، فقالوا الرأى ما رأيت ففارقتهم، وكأنى أعمد إلى حاجة، فعمدت إلى موضع السفن، فأجد سفينة قد شحنت وتدفع فركبت معهم، ودفعوها، حتى انتهوا إلى الشعبة.
وخرجت من السفينة، ومعى نفقة، وابتعت بعيرا، وخرجت أريد المدينة المنورة مررت على الظهران ومضيت حتى إذا كنت بالهدة، فإذا رجلان قد سبقانى بغير كثير يريدان منزلا، وأحدهما داخل فى الخيمة، والآخر يمسك الراحلتين، فنظرت فإذا خالد بن الوليد، فقلت أين تريد قال محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم. دخل الناس فى الإسلام، فلم يبق أحد، والله لو أقسمت لأخذ برقابنا كما يؤخذ برقبة الضبع فى مغارتها، قال عمرو وأنا والله أردت محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم أو أردت الإسلام، فخرج عثمان بن أبى طلحة فرحب بى فنزلنا جميعا فى المنزل، ثم اتفقنا حتى أتينا المدينة المنورة فما أنسى
قول رجل لقيناه ببئر أبى عنبة يصيح يا رباح يا رباح فتفاء لنا، بقوله وسرنا، ثم نظر إلينا، فأسمعه يقول: قد أعطت مكة المكرمة المقادة بعد هذين فظننت أنه يعنينى، ويعنى خالد بن الوليد، وولى إلى المسجد سريعا، فظننت أنه بشر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بقدومنا، فكان كما ظننت وأنخنا بالحرة، فلبسنا من صالح ثيابنا، ثم نودى بالعصر فانطلقنا على محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وإن لوجهه تهللا والمسلمون حوله قد سروا بإسلامنا فتقدم خالد بن الوليد فبايع، ثم تقدم عثمان بن أبى طلحة فبايع، ثم تقدمت، فوالله ما هو إلا أن جلست بين يديه فما استطعت أن أرفع طرفى حياء منه، فبايعته على أن يدعو الله سبحانه وتعالى أن يغفر لى ما تقدم من ذنبى، فقال إن الإسلام يجب ما قبله والهجرة تجب ما قبلها، فوالله ما عدل بى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وبخالد بن الوليد أحدا من أصحابه فى أمر حزبه منذ أسلمنا» .
نقلنا الحديث بطوله، وكنا نود أن نحذف الجزء الأخير، وهو أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لم يعدل أحدا من أصحابه. فإنا لا نحسب يمينه فى هذا برة إن كانت صحيحة النسبة إليه، لقد كانت بعد ذلك غزوة مؤتة وتبوك وفتح مكة المكرمة وهوازن وحنين فلم يعدل بهما على بن أبى طالب والزبير بن العوام وأبا عبيدة عامر بن الجراح، وسعد بن أبى وقاص. إن هذه اليمين غير البرة فرية عليه أو غير ذلك، ولماذا كان اللواء لزيد بن حارثة، ثم لجعفر بن أبى طالب، ثم لعبد الله بن رواحة، ولم يتولها خالد إلا حيث لم يكن وال يحملها.
ومهما يكن من أمر هذه اليمين، فإن ما جاء على لسانه يدل كما دل كلام صاحبه على أن إسلامهم ابتداء كان لمصلحة، وقد أشرب قلوبهم الإيمان من بعد.
هذا عمرو كان يقول لو أسلمت قريش كلها ما أسلم، ثم يخرج ببعض قومه ليحرض النجاشى على المؤمنين، ويحاول أن يتمكن من قتل رسول من عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فيلطمه النجاشى لطمة جدعت أنفه. هذه اللطمة هى التى نبهته إلى الحق، أم نبهه غضب النجاشى، وإرادة إرضائه. ليس فى الوقائع التى ذكرها ما يدل على أنه رأى فى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن الله مانعه، فهو لم ير شيئا من ذلك، ولذلك نقول إن إسلامه كان لمصلحته الشخصية الدنيوية ولعل الإسلام قد دخل قلبه من بعد ذلك حتى صار إيمانا، وهذا ما رجحناه.
وفى قصة عمرو بن العاص عن نفسه ما يدل على أنه رجل لا يظهر فى الهيجاء، ويبغى لنفسه الانحياز عن مواطن الردى، فهو يحضر بدرا، وينجو، وأحدا وينجو، والخندق وينجو، ويظهر أنه لم يقتل ولم يقاتل بل كان من النظارة أو المدبرين، كما كان شأنه فى القتال بين إمام الهدى على بن أبى طالب ومعاوية يدبر فى حرب البغاة.