المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌بعث معاذ بن جبل - خاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم - جـ ٣

[محمد أبو زهرة]

فهرس الكتاب

- ‌ الجزء الثالث

- ‌رسائله صلى الله تعالى عليه وسلم

- ‌إلى خيبر

- ‌القائد حامل الراية:

- ‌الصلح والغنائم

- ‌خيانة وجزاؤها:

- ‌الأرض والنخيل:

- ‌فدك

- ‌حوادث ذات مغزى في خيبر

- ‌منها أمر الأسود الراعى:

- ‌ومنها قصة أعرابى يجاهد ويرد المغنم:

- ‌مؤمن يتحايل لماله بمكة المكرمة:

- ‌زواج النبي صلي الله تعالي عليه وسلم بأم المؤمنين صفية

- ‌غدر وسماحة

- ‌قدوم جعفر بن أبى طالب ومن معه من المهاجرين

- ‌وادى القرى

- ‌صلح تيماء

- ‌إجلاء عمر لليهود

- ‌الأحكام الشرعية التى تقررت في خيبر

- ‌إباحة المزارعة والمساقاة:

- ‌تحريم أكل لحم الحمر الإنسية:

- ‌تحريم سباع البهائم:

- ‌تحريم وطء الحبالى من السبايا وغيرهن:

- ‌قسمة الغنائم ومالا تقسم منها ووقتها:

- ‌الأمانة واجبة مع الأعداء:

- ‌النبى صلى الله تعالى عليه وسلم تفوته الصلاة:

- ‌تحريم المتعة في خيبر

- ‌حقيقة المتعة:

- ‌وتختص بالأحكام الآتية:

- ‌نهى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عن المتعة:

- ‌تحريم ربا البيوع

- ‌الحكمة فى تحريم البيوع فيها إلا بالمثل:

- ‌علة القياس فى الأموال الربوية:

- ‌تنبيهات:

- ‌شرعية الجزية

- ‌صحيفة مكذوبة:

- ‌الجزية التى كان يأخذها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم:

- ‌وخلاصة عقد الذمة أنه تضمن:

- ‌سرايا بعد خيبر

- ‌سرية أبى بكر الصديق إلى فزارة

- ‌سرية عمر بن الخطاب

- ‌سرية عبد الله بن رواحة إلى يسير اليهودى

- ‌سرية بشير بن سعد إلى بنى مرة من فدك

- ‌سرية أبي حدود

- ‌عمرة القضاء

- ‌عمرة القضاء فى القرآن الكريم

- ‌حكم شرعى فى عمرة القضاء

- ‌سرية ابن أبى العوجاء السلمى

- ‌إسلام خالد بن الوليد

- ‌إسلام عمرو بن العاص

- ‌سرايا للتعرف في البلاد

- ‌إلي بني قضاعة

- ‌غزوة مؤتة

- ‌نتيجة الغزوة

- ‌سرية ذات السلاسل

- ‌سرية أبي عبيدة

- ‌سرية أبي قتادة

- ‌انتشار الإسلام فى البلاد العربية

- ‌بعث الرسائل إلى الملوك

- ‌كتابه إلى هرقل وأثره

- ‌كتابه إلي كسري ملك الفرس

- ‌كتابه إلى النجاشى

- ‌كتاب رسول الله صلي الله تعالى عليه وسلم إلى المقوقس

- ‌كتابه إلى المنذر بن ساوى

- ‌الكتاب إلى ملك عمان

- ‌كتابه عليه الصلاة والسلام إلى صاحب اليمامة

- ‌الذمى

- ‌الفتح المبين

- ‌نقض قريش لصلح الحديبية:

- ‌ذل الغدر

- ‌الاستعداد للفتح

- ‌خروج الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم

- ‌قريش تتحسس الأخبار

- ‌اللقاء

- ‌دخول رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مكة المكرمة:

- ‌إسلام أبى قحافة:

- ‌قتال فى جوانب من مكة المكرمة:

- ‌دخول النبى صلى الله تعالى عليه وسلم المسجد الحرام:

- ‌العفو الكريم الشامل:

- ‌الأمان العام:

- ‌الأنصار يتوهمون أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يعود إلى مكة المكرمة

- ‌حرمة مكة المكرمة

- ‌محطم الأوثان

- ‌بعثة خالد بن الوليد إلى جذيمة

- ‌مدة إقامة رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة المكرمة

- ‌أحكام فقهية شرعت فى الفتح

- ‌مكة المكرمة وما يحرم فيها:

- ‌دية شبه العمد

- ‌الميراث بين المسلم والكافر

- ‌الولد للفراش

- ‌قطع اليد

- ‌المتعة وتحريمها

- ‌المبايعة على الإسلام

- ‌نفقة الزوجة

- ‌حكم الهجرة بعد الفتح

- ‌ملكية أرض مكة المكرمة

- ‌سب النبى صلى الله عليه وسلم

- ‌غزوة هوازن

- ‌ابتداء المعركة:

- ‌الانهزام ثم الانتصار:

- ‌الانتهاء بالهزيمة الساحقة:

- ‌ أوطاس

- ‌ثمرات المعركة

- ‌موجدة الأنصار

- ‌الشفاعة في الغنائم بعد توزيعها

- ‌أحكام شرعية في غزوة حنين

- ‌العارية المضمونة:

- ‌عطاء المؤلفة قلوبهم من غنيمة هوازن

- ‌تبادل الرقيق بالحيوان

- ‌غزوة الطائف

- ‌عود إلي غنائم هوازن

- ‌عمرة الجعرانة

- ‌قدوم كعب بن زهير

- ‌السرايا بعد هوازن

- ‌سرية الضحاك بن سفيان:

- ‌سرية قطبة بن عامر:

- ‌سرية علقمة بن محرز:

- ‌سرية على بن أبى طالب لهدم صنم طيئ:

- ‌غزوة تبوك

- ‌الحال عند الغزو:

- ‌المسير

- ‌وصول رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم إلى تبوك وخطبته

- ‌نتائج تبوك

- ‌كتاب قيصر إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم

- ‌مصالحته عليه الصلاة والسلام ملك أيلة:

- ‌سرية خالد إلى أكيدر دومة

- ‌عودة المسلمين من تبوك

- ‌القائد يرعى جنده حيا وميتا:

- ‌عصمة الله تعالى لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم

- ‌مسجد الضرار

- ‌الثلاثة الذين خلفوا

- ‌العبرة والتربية:

- ‌سبعة ربطوا أنفسهم بأعمدة المسجد

- ‌الوفود

- ‌وفد مزينة

- ‌وفد بنى تميم

- ‌وفد ثقيف

- ‌وفد بني عامر

- ‌وفد عبد القيس

- ‌وفد بنى حنيفة

- ‌وفد طيىء

- ‌وفد كندة

- ‌وفد الأشعريين وأهل اليمن

- ‌غدا نلقى الأحبة…محمدا وصحبه

- ‌وفد الأزد

- ‌وفد بني الحارث بن كعب

- ‌وفد همذان

- ‌قدوم وفد دوس

- ‌قدوم رسول ملوك حمير

- ‌671- كتاب آخر لليمن:

- ‌وفد نجران

- ‌ما يدل عليه أمر هذا الوفد

- ‌الإذعان والإيمان:

- ‌قدوم وفد بنى سعد بن بكر

- ‌وفد تجيب

- ‌وفد بنى سعد من قضاعة

- ‌وفد فزارة

- ‌وفد بهراء

- ‌قدوم وفد عذرة

- ‌وفد بلى

- ‌وفد ذى مرة

- ‌وفد خولان

- ‌وفد محارب

- ‌وفد صداء

- ‌قدوم وفد سلامان

- ‌وفد غامد

- ‌وفد الأزد

- ‌قدوم وائل بن حجر

- ‌وفد النخع

- ‌المغزى فى هذه الوفود

- ‌بعث معاذ بن جبل

- ‌بعث علي رضى الله عنه

- ‌وننبه هنا إلى أمور ثلاثة يوجب الحق التنبيه إليها:

- ‌أولها:

- ‌ثانيها:

- ‌ثالثها:

- ‌تولية على قضاء اليمن:

- ‌بعث الصديق ليكون أمير الحج

- ‌تنبيهان لا بد منهما:

- ‌697- التنبيه الأول:

- ‌التنبيه الثاني:

- ‌سورة براءة

- ‌ما اشتملت عليه سورة براءة:

- ‌غزوة تبوك فى سورة براءة:

- ‌لمز المنافقين فى الصدقات وغيرها:

- ‌جهاد النفاق والكفر:

- ‌أعذار النفاق:

- ‌ما بين الإيمان والضعف والنفاق:

- ‌بعض ما في سورة براءة من حكم وعبر

- ‌انتشار الدعوة الإسلامية

- ‌الحديبية:

- ‌حجة الوداع

- ‌الخروج لحجة البلاغ، وما قام به من مناسك:

- ‌الأماكن التى نزلها، والأدعية التى ذكرها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم

- ‌دعاؤه صلى الله تعالى عليه وسلم فى عرفة:

- ‌العودة إلى المدينة المنورة

- ‌الوداع بعد التمام

- ‌بعث أسامة بن زيد

- ‌بعث اسامة إلى أرض فلسطين:

- ‌الوداع

- ‌أولها:

- ‌الأمر الثانى:

- ‌الأمر الثالث:

- ‌توديعه لابنته:

- ‌إنك ميت وإنهم ميتون

- ‌صلاة أبى بكر:

- ‌لكل أجل كتاب:

- ‌غسل الجثمان الطاهر ودفنه:

- ‌تركة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم

- ‌زوجات النبي صلى الله تعالى عليه وسلم

- ‌زواجه عليه الصلاة والسلام ببقية نسائه:

- ‌العبرة

- ‌أما بعد

- ‌فهرس المحتويات

- ‌المجلد الأول

- ‌المجلد الثانى

- ‌المجلد الثالث

الفصل: ‌بعث معاذ بن جبل

وإن الإرسال تدل عباراته وما أحاط به علي أنه ما كان للقتال وإن كان علي المقاتل الأول، إنما كان للتعليم، وتفقيه الناس في دينهم الذى ارتضوه.

‌بعث معاذ بن جبل

692-

عندما بعث النبي صلى الله تعالى عليه وسلم معاذ بن جبل إلي اليمن بعث أيضا أبا موسي الأشعري، قال البخاري بسنده، بعث النبي صلى الله تعالى عليه وسلم معاذ بن جبل إلى اليمن وأبا موسي الأشعري، وبعث كل واحد علي مخلاف، واليمن مخلافان ثم قال: يسروا ولا تعسروا، وبشروا، ولا تنفروا.

وانطلق كل واحد منهما إلى عمله، وكان كل واحد منهما إذا سار في أرضه وكان قريبا من صاحبه سلم عليه، فسار معاذ في أرضه قريبا من صاحبه أبى موسي فسلم، فجاء يسير علي بغلته حتي انتهي إليه، فإذا هو جالس، وقد اجتمع الناس إليه، وإذا رجل عنده قد جمعت يداه إلي عنقه، فقال معاذ يا عبد الله بن قيس أثم هذا؟ قال هذا رجل كفر بعد إسلامه فقال لا أنزل حتي يقتل، قال أبو موسي، إنما جئ به لذلك فانزل؟ قال ما أنزل حتي يقتل، فقتل.

سقنا ذلك الخبر من البخاري للدلالة على أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم اختار من فقهاء صحابته لتعليم الناس في اليمن وغيره أمور دينهم، ويدعوهم إلي الإسلام.

ولا بد أن يذكر فى هذا المقام أن معاذا رضي الله تعالى عنه قد بعث مزودا بمقاتلين، ليبدأ بالدعوة إلي الإسلام فإن أسلموا علمهم الإسلام، واقتصرت بعثته علي التعليم والهداية.

وإن كانت الآخرى قاتل.

وقد روي السرخسى في مبسوطه في السير الصغير وصية لرسول الله صلي الله تعالى عليه وسلم أوصي بها معاذا عند قدومه علي اليمن ومعه مقاتلون وهذا نص الوصية.

«لا تقاتلهم حتي تدعوهم، فإن أبوا فلا تقاتلوهم حتي يبدأوكم، فإن بدأوكم فلا تقاتلوهم حتي يقتلوا منكم قتيلا، ثم أروهم ذلك القتيل، وقولوا لهم: «هل إلي خير من سبيل، فلأن يهدي الله تعالي على يديك رجلا واحدا خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت» «1» .

(1) مبسوط السرخسى ج 10 ص 21.

ص: 1031

وقد أغناه الله تعالي عن القتال، فقد استجابوا، فانتقل من الحرب إلي الموعظة الحسنة التي علمه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إياها.

وإذا كان قد أوصاه الله تعالى بما يجب عند الحرب، فقد أوصاه أيضا بما يجب علي المؤمن فى كل الأحوال، ولقد ذكر هو هذه الوصية عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فيما رواه الإمام أحمد رضى الله تعالي عنه فقد جاء في هذه الوصية:«لا تشرك بالله شيئا وإن قتلت وحرقت، ولا تعقن والديك، وإن أمراك أن تخرج من مالك وأهلك، ولا تتركن صلاة مكتوبة متعمدا فإن من ترك صلاة مكتوبة متعمدا، فقد برئت منه ذمة الله، ولا تشربن خمرا، فإنه رأس كل فاحشة، وإياك والمعصية فإنه بالمعصية يحل كل سخط، وإياك والفرار من الزحف، وإن هلك الناس، وإذا أصاب الناس موت وأنت فيهم فاثبت، وأنفق على عيالك من طولك، ولا ترفع عنهم عصاك أدبا وأحببهم فى الله عز وجل» .

ومن وصية النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قوله له: «إياك والتنعم فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين» .

وبهذه الوصايا كان يعلم الناس واجبات الدين ومكارم الأخلاق، ومما علمه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قوله:«مفتاح الجنة شهادة أن لا إله الله تعالى» .

وإذا كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد ترك معاذ بن جبل بمكة المكرمة عند فتحها ليقيم فيها يعلم الناس، فقد أرسله أيضا إلي اليمن ليعلم أهله مع صاحبه أبى موسى الأشعري لتعليم الناس الإسلام.

ومع هذا العمل الجليل، وهو تعليم الناس، كان رضى الله تعالي عنه يجمع الجزية دينارا من كل حالم ويقول في ذلك:«بعثني رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم إلى اليمن وأمرني أن آخذ من كل حالم دينارا وعددا من المعافرى (أى الثياب) وأمرني أن آخذ من كل أربعين بقرة مسنة، ومن كل ثلاثين بقرة تبيعا حوليا، وأمرنى فيما سقت السماء العشر، وما سقي بالدوالى نصف العشر» وذلك فى زكوات الأموال الظاهرة.

ومن هذا يظهر أنه ولاه الخراج والجزية، وولاه الصدقات فكانت الولاية العامة شاملة- لكل ما يتعلق بإرادة الحكم.

وقد روى الإمام أحمد فى مسنده، وإن كان لا يخرج عما اتفق عليه الأئمة أصحاب السنن، كما جاء فى الحديث السابق، وهذا نص ما جاء في رواية الإمام أحمد.

ص: 1032

أمرني أن آخذ من كل ثلاثين تبيعا «1» ، ومن كل أربعين مسنة، ومن الستين تبيعين، ومن السبعين مسنة وتبيعا، ومن الثمانين مسنتين، ومن التسعين ثلاثة أتباع، ومن المائة مسنة وتبيعين، ومن العشر ومائة مسنتين وتبيعا، ومن العشرين ومائة ثلاث مسنات، أو أربعة أتباع.

هذه رواية أحمد، وهي لا تخرج عن الرواية الأولي كما ذكرنا، وإن كانت أكثر تفصيلا، وإن الذى يهمنا فى هذه المسألة التي نترك تفصيلها لكتب الفقه علي نص الرسول صلي الله عليه وسلم في باب الزكاة بالنسبة للنعم والزرع والنقود.

إن الذى يهمنا أن نذكر لماذا قصرت تعليمات النبي صلى الله تعالى عليه وسلم للزكاة على هذين الأمرين وهما زكاة الزرع وزكاة البقر، ولم يذكر لمعاذ رضي الله تعالي عنه أمرا فيما يتعلق بزكاة غير البقر من النعم وهي الغنم والإبل، ونقول: إن ذلك فيما يظهر لنا يرجع إلي أمرين:

أولهما: أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أمر والي الصدقات بأن يجمع الأموال الظاهرة، وهى النعم والزروع والثمار، وترك غيرها من الأموال التي سميت في الفقه بالأموال الباطنة لدين الناس يقدمونها من غير تفتيش أو تكشف، لأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم دعا الناس إلي أن يعدوا الزكاة مغنما وألا يعدوها مغرما.

الأمر الثاني: وهو الخاص بالعناية بذكر البقر دون غيرها من النعم، وقد بين عليه الصلاة والسلام زكاة غيرها من النعم في مواضع أخري، كان يذكرها لمن يرسله لجمع الزكوات من القبائل التي تسكن الصحراء، لأن السوائم فيها كان أغلبها من الغنم والإبل.

أما السبب في أنه فى أمره لمعاذ بن جبل ذكر له زكاة البقر والزرع، ولم يذكرها، لأنه فيما يظهر كانت اليمن أرضا زراعية، وفيها الخصب، وقد قال الله تعالى: لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ، كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ، وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ، وَرَبٌّ غَفُورٌ

(سبأ: 15)

وإن البقر يكثر حيث تكثر الزراعة، وحيث تكون أرض خصبة منتجة، ولذلك ذكر النبي صلي الله تعالى عليه وسلم لمبعوثه إلي اليمن زكاة ما يكثر فى اليمن من زروع وثمار وأبقار.

ويروى أن معاذا اتجر في المال الذي جمعه، لأنه باع كل ماله فى دين مستغرق كان عليه، وجاء إلى اليمن خاليا من كل عرض من أعراض الدنيا، فتجر وكسب، ولم ينقص من هذا المال شيئا.

(1) التبيع الذى لم يبلغ السنة ويتبع أمه، والمسنة، أو المسن بالغ سنة.

ص: 1033

وقد كان اتجاره لأن النبي صلي الله تعالي عليه وسلم قد علم خصاصته، فأرسله إلي اليمن، وظن أن ذلك ليجبر فقره في حلال، ولم يعد إلي المدينة المنورة إلا بعد وفاة النبي صلي الله تعالي عليه وسلم، وقد صار أبو بكر خليفة رسول الله ولكنه تظنن في حل هذا المال الذي اكتسبه بالتجارة.

جاء إلي عمر رضي الله عنه وقص عليه خبر هذا المال، وسأله ماذا يصنع به فقال الفاروق ادفعه إلى أبى بكر؛ فإن أعطاكه فاقبله، فقال الصحابي الجليل، لماذا أدفعه إليه، وإنما بعثني رسول الله صلي الله تعالى عليه وسلم ليجبرني.

انطلق عمر به إلي أبى بكر، وطلب إليه أن يرسل إلي معاذ فخذ منه ودع له، أي فشاركه كسبه، فقال الصديق: ما كنت لأفعل إنما بعثه رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم ليجبره، فلست آخذ منه.

ولكن معاذ التقي الذي اقتبس من نور الصحبة انطلق إلى أبي بكر يدفع إليه المال كله حتي السوط الذي كان يساق به فقال أبو بكر: خذه فهو لك.

هذا وقد فوض النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إليه أمر قضاء اليمن، وشرح للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم كيف يقضى إذا عرض له قضاء. فقد روي عنه نحو سبعين من أهل حمص أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حين بعثه إلى اليمن قال: كيف تصنع إن عرض قضاء: قال أقضي بكتاب الله. قال عليه الصلاة والسلام، فإن لم يكن: قال فبسنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: فإن لم يكن في سنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم؟ قال أجتهد رأيي، وإني لا آلو، فضرب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم علي صدره، وقال: الحمد لله الذى وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله، صلى الله تعالى عليه وسلم.

وإن ذلك الخبر كان أصلا للاجتهاد في الفقه، أخذ به من أخذوا بالقياس وعارض فيه من عارضوا القياس، وإنهم لشرذمة قليلون.

وقد أثر له رأي في القضاء، وهو أنه لا يرث الكافر من المسلم، ولكن يرث المسلم من الكافر، وبهذا الرأي أخذ الإمامية من الشيعة، وعمل به معاوية، ولكن الجمهور الأعظم من الفقهاء لم يأخذ به.

روي الإمام أحمد بسنده عن أبي الأسود الدؤلي قال «كان معاذ باليمن فارتفعوا إليه في يهودى مات، وترك أخا مسلما، فورث معاذ المسلم من اليهودى، وقال: «إني سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: «إن الإسلام يعلوولا يعلي عليه» وأخذ الحكم من القياس باعتبار أن الإسلام يعلو،

ص: 1034

والميراث يكون ثمرة لهذا العلو، ولأن الكفر باطل والإسلام حق يوجب الميراث، ولا يزول الحق لأجل الباطل.

ولكن الجمهور الأعظم قالوا غير ذلك، وحجتهم صريح السنة قولا وعملا، فقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم كما روي في الصحيحين:«لا يرث الكافر المسلم، ولا المسلم الكافر» . وقد ثبت عملا، فإن عقيل بن أبى طالب هو الذي ورث دور أبى طالب، ولم يرث منها جعفر، ولا علي، ولا أم هانئ ولا غيرهم من المسلمين عند وفاة أبي طالب، وقال النبى صلى الله عليه وسلم فى فتح مكة المكرمة: ما ترك عقيل من دار، ولا يرث المسلم الكافر.

وخلاصة القول أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أرسل معاذا محاربا، ومعلما، وجامعا للصدقات والجزية وقاضيا في الخصومات، فكان هاديا مهديا.

ويقول الحافظ ابن كثير في ولايته: كان قاضيا للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وحاكما في الحروب، ومصدقا إليه تدفع له الصدقات.

وقد ذكرنا ما قاله رسول رسول الله معاذ بن جبل فى اليمن هو وصاحبه عبد الله بن قيس (أبو موسى الأشعرى) ليعرف القارئ أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان يرسل الرسل من قبله إلى الجهات النائية على أنها سرايا أحيانا، وعلى أنهم معلمون، وإن لم تذهب عنهم صفة السرايا.

فالدعوة الإسلامية أو تبليغ الرسالة المحمدية هي الأصل، وهي الغاية، فإن لم تقف في سبيلها عقبات، اكتفي، وإن وقفت محاجزات الأمراء والملوك كان الجيش المؤمن مزيلا لهذه المحاجزات حتى يخلو وجه الإسلام للدعوة المحمدية دعوة الله والحق.

ولقد كانت كل بعثة محمدية معها قوة، لأنه يجتاز فيافي وقفارا، والأمن غير مستتب، وقد حدث أن جاء ناس من المشركين يخادعون النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وذكروا له أن عندهم من يريد الإسلام فأرسل لهم من يعلمهم، أرسل معهم قراء، فأخذوهم، وباعوهم للمشركين، وآخرون قد قتلوهم، وقد تكرر ذلك، فكان الحذر يوجب على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ألا يرسل قراء وحدهم، بل لا بد من سرية حربية معهم، والله تعالي في عون عباده المخلصين.

ص: 1035