الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لقد كان على فريسة المبغضين فى موطنين:
أحدهما: فى جماعة على، وقد برأه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ورد كيد الكائدين وأطفأ نيران الغضب عند من ظهر غضبه.
الموطن الثانى: فى خلافته وخروج البغاة عليه، وتحرك الضغائن، وفى هذه المرة لم يكن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم حيا، فلم يقف بغدير خم يقول:«اللهم وال من والاه وعاد من عاداه» .
تولية على قضاء اليمن:
694-
كان القضاء فى العادات العربية يتولاه أسن الرجال، وأكثرهم تجارب، ومعرفه لعادات القبائل، فكان يقضى مثل أكثم بن صيفى الذى عاش حتى بلغ نحو التسعين من عمره، لأن القضاء يحتاج إلى فضل تجربة وفضل تأثير، لتنفيذ الأحكام نفسيا، ويذعن المتخاصمون لها قلبيا ويكون له من الجلال فى وسط قومه ما يجعل قوله فصلا، يؤمنون بالعدل فيه.
ولذلك لما عهد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى على أن يقضى فى اليمن فى غير الحيز الذى كان فيه معاذ بن جبل وأبو موسى الأشعرى إذ كان اختصاصه يعم اليمن كله، لما عهد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك إلى على استصغر سنه وعرض على النبى صلى الله عليه وسلم أنه حدث السن، إذ لم يكن إلا فى حدود الثانية أو الثالثة والثلاثين.
روى ابن ماجة، والإمام أحمد عن على كرم الله وجهه، قال: بعثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، فقلت: يا رسول الله، تبعثنى إلى قوم أسن منى، وأنا حدث لا أبصر القضاء، فوضع يده على صدرى، وقال: اللهم ثبت لسانه، واهد قلبه، يا على إذا جاءك الخصمان، فلا تقض بينهما، حتى تسمع من الآخر ما سمعت من الأول، فانك إذا فعلت ذلك تبين لك الحق. فما اختلف على على قضاء بعد.
وإن هذه الدعوة النبوية قد صدقت فى على كرم الله وجهه، فقد ثبت الله تعالى لسانه، حتى كان أخطب الناس بعد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وأثبت الناس قولا بعده عليه الصلاة والسلام وكان مهديا، فما لان فى حق ولا مالا مبطلأ، وهداه فى القضاء حتى روى أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قال:«أقضاكم على» وكان عمر كما ذكرنا يسأله إذا أعضل عليه القضاء فى مسألة من مسائله، فيقول: مسألة، ولا أبا حسن لها.
وقد رويت عنه روايات فى قضائه دالة على نفاذ بصيرته، وانفتاق عقله الذى هو قبسة من الهدى المحمدى، إذ رضع لبان هذه الهداية صغيرا، وتربى عليها، ونزح بدلو المعرفة من أعظم ينبوع لها:
وقد ذكرت له مسائل فى القضاء هداه الله تعالى إليها، فقد كان يحاول الوصول إلى الحقيقة.
خصوصا فى الأنساب، فلا يترك من ولدا من حلال من غير أب.
تنازع اثنان فى نسب ولد، ولم يكن لأى واحد منهما دليل، وكان المنتظر أن يتهاتر الادعاآن، ولا يكون للولد نسب، فلما لم يجد سبيلا أقرع بينهما، وحكم بالنسب لمن تحكم له القرعة، وعليه أن يدفع الدية للآخر، وبهذا أنصف الرجلين ولم يهدر نسب الولد، وبهذا أخبر الإمام أحمد عن على، وقد أفرد عن غيره بهذا الرأى، وروى عن على كرم الله وجهه قضاء فى مسألة معقدة، وانتهى فيها إلى حكم، لا يزال موضع إعجاب رجال القضاء إلى اليوم.
روى الإمام أحمد أن قوما كان يغير عليهم أسد، فبنوا له زبية (مكانا يتردى فيه) فتدافع الناس فسقط رجل، فتعلق به آخر، ثم تعلق بالآخر ثالث، وتعلق بالثالث رابع، وقد جرحهم جميعا الأسد وماتوا. فجاء أولياء المقتولين، وهموا بأن يقتتلوا. فقال لهم إمام الهدى بعد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، أتريدون أن تتقاتلوا ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حى، إنى أقضى بينكم قضاء إن رضيتم به، فهو القضاء، وإلا أحجز بعضكم عن بعض، حتى تأتوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ليكون هو الذى يقضى بينكم فمن عدا بعد هذا فلا حق له.
كان قضاء على فى القضية، يسير على مبدأين:
أحدهما أنه لا يبطل دم فى الإسلام، وذلك مبدأ مقرر روى بعبارته عن على كرم الله وجهه فى الجنة.
الثانى- أن العجماء جبار، أى ما تجنى الدواب لا غرامة فيها إلا أن يكون صاحبها المتسبب فيغرم هو الدية كلها أو بعضها.
ونجد أن الأول تسبب فى هلاك الثلاثة بعد، وقد تمكن السبع من الجميع بترديه أولا، ثم تعلقه بالثانى والثانى بالثالث والثالث بالرابع.
وكانت الدية واجبة كاملة لهم جميعا بناء على القاعدة الأولى، ولكن ليستنزل من دية كل واحدة دية من تسبب فى قتله، وقد تسبب فى قتل ثلاثة، فيأخذ ربعا، بإسقاط ثلاثة أرباع لمن تسبب فى قتلهم، فهو السبب فى قتل ثلاثة.
والثانى تسبب فى قتل اثنين، فينقص من ديته الثلثان، فيكون له الثلث، والثالث، تسبب فى قتل الرابع، فيخصم من ديته النصف، والرابع، وهو الذى سقط أخيرا لم يتسبب فى قتل أحد، فلا يخصم من
ديته شيء قط، وبذلك يكون المطلوب ديتان وسدس دية، هذا معنى قول على فى قضائه، فقد قال:
«اجمعوا من قبائل الذين حفروا البئر، ربع الدية، وثلث الدية، ونصف الدية، والدية كاملة» .
فللأول الربع، لأنه هلك، والثانى ثلث الدية والثالث نصف الدية، والرابع الدية، هذا قضاء على، وقد طلبت هذه الديات ممن حفروا البئر، لأنهم المتسببون ابتداء والتسبب الآخر نسبى، فى دائرة التسبب الأصلى.
ولا نعلم فى هذه القضية المعقودة المتشابكة التى ترابطت فيها الأسباب، وتشابكت أعدل من هذا وإذا كان ثمة بعض الانفكاك فى المقدمات أو بتوهم ذلك، فإن قضاء على فى هذا هو أحكم القضاء.
ولكن أولياء المقتولين، لم يرتضوا ذلك، وكان كل ولى يريد دية كاملة لمقتوله.
وذهبوا إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وهو فى حجة الوداع، وهو عند مقام إبراهيم، فقصوا عليه القصة، فقال أنا أحكم بينكم، فقال رجل من القوم. يا رسول الله، إن عليا قضى علينا، وقصوا على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قضاء على، فأجازه رسول الله عليه الصلاة والسلام.
وبعد، فهذا على كرم الله وجهه فى اليمن، كان الداعية المستجاب فى دعوته للإسلام، فامنوا لفرط تقواه، وإشراق نور الإيمان فى قلبه، فما يخرج من القلب يصل إلى القلوب وإخلاص الداعى هو الجاذبية التى تحوط المدعو.
فتهديه إلى الإيمان إن لم تعتكر القلوب. وتفسد الضمائر. وهذا على الحاكم الحازم لم تأخذه فى الحق هوادة، وليس لباطل عنده إرادة وإن شكا الناس منه غلظة فلفساد قلوب تستغلط الحق، وتستطيب الباطل، وقد أنصفه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم منهم- ونعم المنصف العادل.
وهذا على فى قضائه العدل الحكيم، والله ولى المؤمنين.