الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بعض ما في سورة براءة من حكم وعبر
706-
نزلت سورة براءة عند حج الصديق رضى الله تعالى عنه، وعقب غزوة تبوك، ويلاحظ أنه أول حج تولى إمرته مؤمن من المؤمنين، ونفذ فيه مناسك الحج على مقتضى حكم الإسلام، وقد حطمت الأصنام، فكان الحج إسلاميا بالنسبة للمسلمين، ولكن المشركين كانوا يسيرون على ما كانوا عليه، ولم يمنعوا، لأنه لم يكن قد جاء الأمر بمنعهم، والإسلام لا يطبق إلا ما ينزل به الوحى، ولم يكن قد نزل الوحى بهذا المنع. ولكن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم امتنع عن أن يتولى بنفسه القيام بالحج، حتى لا يكون فى ذلك إقرار لما يفعلون، فأناب أبا بكر عنه.
ولما كانت هذه السورة مبينه لمنع المشركين من الحج، لأن هذا الحج أول حج إسلامى، وإن رنق بفعل أهل الجاهلية، وكانت مشتملة على أول المنع، وكانت هذه السورة بعد آخر غزوة غزاها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وقد اشتملت على منع المشركين أن يدخلوا المسجد بعد عامهم هذا، واشتملت على ما يجب لحفظ الجيوش الإسلامية وحمايتها، والحذر من الدخلاء فيها وكانت غزوة تبوك التى أخذت منها العبرة.
واشتملت السورة على ما يجب أن يتوقاه المؤمنون فى بناء جماعتهم، وما يجب أن يتحلوا به من صفات ليتكون منهم بناء اجتماعى قوى.
وأول ما يستفاد منه هو التوقى من أهل النفاق فإنهم العنصر المخرب فى بناء المجتمع، ولا يمكن أن يتماسك مجتمع إذا ساده النفاق، أو تحكم فيه المنافقون، ولذا أكثرت السورة الكريمة من ذكر النفاق وأحواله، وأن أهله لا يلتئمون، ولا يندمجون فى أهله، بل يكونون بمنأى عن شعوره، وعما يحس به، فهم يؤذون فضلاءه، ويستهزئون بفعل الخير، ويخوضون فى شؤون أهل الفضل والخير، وإذا قيل لهم فى ذلك، قالوا إنا نخوض ونلعب، وإن قلوبهم دائما تكون فى جانب، والمجتمع يكون فى جانب آخر.
ولذلك وجب أن يكون الجيش خاليا من المنافقين، فلا يخرجوا فيه لأنهم يخذلون المجاهدين، ويثبطون هممهم، ويتخذون من الضعفاء وأهل التردد، والهزيمة فريسة ينفثون فيها سمومهم، وإنهم يتخاذلون فى وقت الشدة، ويفرحون بما ينزل بأهل الحق من مصيبة تسوءهم، فإن تصبهم مصيبة يفرحوا بها، وإن تصبهم حسنة تسوءهم.
وإن الضعفاء إن اعترفوا بذنوبهم، وتابوا قبل الله سبحانه وتعالى، وإن كانوا قد خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، فإذا كانوا قد أساؤا بالقعود، فقد أحسنوا بالاعتراف ومع الاعتراف الندم ومع الندم التوبة، فهم لم
يصروا على الشر، وفرق بينهم وبين الذين انتحلوا أعذارا، وكذبوا، وحلفوا وهم يعلمون أنهم كاذبون، وما قصدوا إرضاء الله، بل قصدوا إرضاء العباد، فلم يتوبوا، وارتكبوا الشر وأصروا عليه إصرارا.
وإنه إذا كانت التوبة الصادقة جبت ما قبلها. وبينت السورة الكريمة أمورا ثلاثة تدخل فى بناء المجتمع الصالح، وإذا لم تكن تخريب.
أولها: أن الجهاد تجريد النفس عن أعلاق الدنيا، وما يتعلق بالأحباب والمحبوبات من الأشياء والمتع، وأن المجاهد إن لم يتجرد ذلك التجرد، فإن على الأمة أن تتربص حينها، وتذهب قوتها، إن الأمة التى تريد الحياة يجب أن تتسربل سربال الجهاد، وتستشعر حياته، ولا جهاد مع الأثرة، ولا جهاد مع التعلق بالحياة، فإن لم تفعل فإنها تذل وتهون، ويتحقق فناؤها فى غيرها، وتعيش ذليلة مهينة.
ثانيها: أن النفاق كما أشرنا هو مقوض الجماعات يمنع توافر الثقة بين آحادها، والثقة أساس بنيانها، فما لم توجد الثقة لا توجد المحبة، والمحبة هى الرباط الذى يربط بين الآحاد، ويربط الجماعة، ولا يقطع حبال المودة والمحبة إلا أن يظن الإنسان بأخيه شرا ولا يمكن أن يكون التئام بين الأمة إذا كان كل واحد يتظنن بأخيه، والنفاق هو المادة التى بها تقطع الصلات. ولذلك وصف الله تعالى المنافقين والكافرين بأنهم يقطعون ما أمر الله به أن يوصل، وما أمر الله به أن يوصل هو المودة والمحبة والأخوة، وإن النفاق يفسد نفوس المنافقين، فيأمرون بالمنكر، وينهون عن المعروف ويفسدون الناس فتسرى عدواهم إلى الضعفاء ويلقون بالفرقة بين الأقوياء وما ساد النفاق فى قوم إلا تقطعوا فرقا ومزقوا مزقا.
ولقد بين القرآن الكريم صور النفاق فى هذه السورة بما لم يبين به فى سورة أخرى، وإذا كانت سورة (المنافقون الصغرى) قد بينت خلالا للمنافقين فى أطواء نفوسهم وانحرافاتهم، ومعاملتهم فسورة براءة، وقد أسميها سورة النفاق الكبرى قد بينت حالهم عندما تشتد الشديدة وعندما تكون الحرب وعندما تكون الأزمات.
وبينت أن النفاق قد يتجاوز العلاقات الإنسانية إلى مظاهر العبادات، فهم ينشئون مسجدا يكون ملتقى لاجتماعاتهم المريبة، ويبنونه إرصاد للاتصال بينهم وبين الرومان فى الشام، فهو إرصاد لمن حارب الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، ويتظاهرون بأنه مسجد، فيكشف الله سترهم، ويكون فى التاريخ الإسلامى مسجد الضرار.
وإنه يجب لكى تكون الجيوش مجتمعة القوى لا بد أن تكون مجتمعة العزم، وذلك بإبعاد المنافقين وعدم دعوتهم فإنهم يريدون الفتنة، ويبتغونها والفتنة فى الجيوش طريق مؤكد لهزيمتها.
الأمر الثالث: الذى ذكرته السورة الكريمة وأكدته، أمر المترددين والضعفاء فى إيمانهم لا فى أبدانهم فإن أولئك يجب أن يخلو الجيش منهم، لأنهم يكونون العش الذى يفرخ فيه المنافقون، ويبثون فيهم روح الفزع والخوف، والفرار يوم الزحف.
وإن أمر هؤلاء مرجأ، عساهم أن يتوبوا، ولكنهم لا يكونون فى جيش قوى يخط خطوط النصر.
وأخيرا إن سورة براءة درس حكيم للأمة المجاهدة وقد جعل سبحانه وتعالى من غزوة تبوك التى لم يحدث فيها قتال، بل رجع المسلمون منها ولم يلقوا كيدا، وقد جعلها تعالى درسا فى ذلك فكان التكوين انتقاء للأقوياء، ومن تسلل فيه من الضعفاء وأهل النفاق كشف أمرهم.
وفى سورة براءة بيان حال الذين وصل إليهم الإسلام، فاعتنقوه بحكم اتباع القوى، لا بحكم الاقتناع كأولئك الأعراب الذين كانوا يتغلغلون فى البلاد العربية، فدخلوا فى الإسلام، ولما يدخل الإيمان قلوبهم، وبينت السورة الكريمة أن مظاهر الخضوع الكامل الزكاة، فإن دفعها من يدفعها مغرما، سواء أكان الدفع طوعا أم كرها، فهو ليس من أهل الإيمان، وإن قدم الطاعة، وإن دفعها قربات إلى الله تعالى فإنه يكون مؤمنا مخلصا لله تعالى وللجماعة الإنسانية.
هذه كلمات موجزة فى حكمة نلتمسها فى نزول سورة براءة عقب غزوة تبوك، وعند حج الصديق رضى الله تبارك وتعالى عنه بتأمير النبى صلى الله تعالى عليه وسلم له، والله سبحانه وتعالى هو الحكيم الخبير، لا يسأل عما يفعل، وكلنا نسأل عما نفعل، وإذا تلمسنا الحكمة فإنما نقرب إلى الأفهام ولا نتعرف الأسباب فنحن نقارب، ونطلب المعرفة من الله العلى الحكيم.