الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لقد أسلم فروة بن عمرو الجذامى الذى كان قائدا لإحدى الفرق الرومانية عندما اقتتل الرومان مع المسلمين فى مؤتة.
فضاق الرومان ذرعا بإسلامه، واتهموه بالخيانة وقتلوه، وما كان للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يترك دم هذا الرجل المسلم هدرا، بل لا بد من القصاص، وإن قتله فتنة تمنع غيره من أن يدخل فى الإسلام، فحق أمر الله وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ، وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ (البقرة: 193) وجبت الطاعة لقوله تعالى: قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ، وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً (التوبة: 9) . قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (التوبة: 29) .
وهناك أمر أخر ذكره كتاب السيرة أنه لما نزل قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا (التوبة: 28) ظن التجار الذين كانوا يقيمون المتاجر فى سوق عكاظ، وذوى المجاز ومجنة، وغيرها من الأسواق فى موسم الحج، ظنوا أن متاجرهم تكسد، فكان لهذا ولغيره غزوة الشام فى تبوك، وفى ذلك فتح لأبواب التجارة.
ذلك سبب ذكره كتاب السيرة، وما كنا لنذكره لولا أنهم ذكروه، فما كانت غزوات النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لتسهيل تجارة مادية، إنما كانت لتسهيل الدعوة الإسلامية، وإن هذه التجارة لن تبور، بل فيها مكسب أغلى وأعلى، وهو رضا الله سبحانه وتعالى.
وإن الرومان بعد غزوة مؤتة قد رأوا أن الدين الجديد يغزو النفوس بأحكامه. ويغزو البلاد برجاله، وأنهم يجب أن يعدوا العدة للقضاء عليه قبل أن يقضى على دولتهم، فكانوا يستعدون لغزو الإسلام، وما كان للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يتركهم حتى يغزوه فى داره، فما غزى قوم فى عقر دارهم إلا ذلوا.
وقد رأى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم الروم يجمعون الجموع وأن قيصر قد أعطى أرزاقهم لسنة، وإن فى غزو الرومان تقوية لبأس العرب الخاضعين للرومان فى الشام، إذ يجدونهم يتحفزون لرفع النير عنهم، وإخراجهم من سيطرة من يذلهم، إلى عز قومهم.
الحال عند الغزو:
640-
فى رجب من السنة التاسعة، ويظهر أنه فى آخره أى فى آخر الشهر الحرام، أمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الناس بالتهيؤ لحرب الروم الذى قد أعدوا له عدة لحربه، وكان ذلك فى
وقت حر شديد، والنبى صلى الله عليه وسلم ما كان يبين للناس اتجاهه إذا خرج لحرب إلا فى تبوك لبعد الشقة، ولعظم المهمة، وليستعد الناس لنوع من الجهاد شاق مرير، فى وقت شديد غليظ إذ كان الحر شديدا، وكانوا يجمعون ثمار حرثهم، وغلالهم، وفى بعض البلاد جدب. وقد طابت ثمار الأرض التى أنتجت، والإرادة المادية عندهم ربما تغالب النية المحتسبة عند بعضهم، ولقد أخذ صلى الله تعالى عليه وسلم يختبر النفوس، والغزوة كلها اختبار للمؤمنين، وأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ما اختار الزمان، إنما اختارته له العناية الإلهية، وإرادة الروم، وقد خاطب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بعض الرجال ليعرف ما فى بعض النفوس، قال للجد بن قيس: يا جد، هل لك فى جلاد بنى الأصفر (يريد الروم) .
فأجاب إجابة المتردد، غير المعتزم:«أو تأذن لى ولا تفتنى، فو الله لقد عرف أنه ما من رجل أشد عجبا بالنساء منى، وإنى أخشى إن رأيت نساء بنى الأصفر لا أصبر» .
اعتذار بغلبة هوى النفس عنده على الجهاد، وأنه لا يستطيع جهاد نفسه عن الإثم فهو، يخشى الفتنة وأى فتنة أشد على الرجال من أن يكون عبد هواه، وقد أذن له النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، لأنه لا جدوى فى رجل لا إرادة له، وإنما هى حرب ضروس تحتاج إلى صبر وجهاد نفسى، فالوصول إلى العدو ليس سهلا، والحر شديد، واللقاء مع عدو كبير.
وإن هذه الغزوة كان فيها الناس على أنواع شتى فى نفوسهم.
1-
فمنهم من قعدت بهم همتهم، فخلفوا عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، واعتذروا بالمعاذير، وهؤلاء يقولون مع المنافقين: وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ، قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ. فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا، وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ
(التوبة: 81، 82)
وهؤلاء منهم ضعفاء الإيمان ومنهم ضعفاء العزيمة وليست لديهم قوة نفسية يتحملون بها الشدائد، ولذلك كان فيهم جزع، وخوف من الإقدام.
2-
ومنهم المنافقون الذين يثبطون، ويريدون الفتنة ويبتغون تثبيط المؤمنين عن المجاهدين، ويقول سبحانه وتعالى فيهم: لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ، وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ، وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ، يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ.
إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ. وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً، وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ
انْبِعاثَهُمْ، فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ. لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا، وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ. لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ، وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ، حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ (التوبة: 42: 48) .
الصنف الثالث أهل الإيمان. وكلهم مجاهد بنفسه وماله، لا يدخرون جهدا ولا مالا، وهم الذين قال الله تعالى فيهم وقرنهم فى الذكر برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (التوبة: 117) .
هؤلاء هم الذين حملوا الدور الأول حتى صارت الكلمة العليا لله ولرسوله صلى الله تعالى عليه وسلم فى بلاد العرب، فهم أيضا الذين حملوا عبء الجهاد، عندما أخذ الإسلام ينتشر فى غير البلاد العربية، وخرج الجهاد إلى بنى الأصفر (الرومان) الذين كان اسمهم يرهب العرب.
641-
كان على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يحتاط من المنافقين وكان على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يحرض المؤمنين الذين كانوا معه ويجمع شملهم، وأن يكون بعضهم عونا لبعض فى هذه العسرة الشديدة.
أما بالنسبة للمنافقين فإنهم كانوا دائبى الحركة ليثبطوا المؤمنين، وهم يقولون لا تنفروا فى الحر، ليمنعوهم نفسيا من الجهاد، بل وصلت بهم الحال إلى أن يجتمعوا ببعض اليهود يأتمرون معهم.
حدث ابن هشام بسنده أن ناسا من المنافقين كانوا يجتمعون فى بيت سويلم اليهودى، وكان بيته فى موضع اسمه جاسوم، يثبطون الناس عن الجهاد، وعن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فى غزوة تبوك، فبعث إليهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم طلحة بن عبيد الله فى نفر من أصحابه وأمره أن يحرق عليهم بيت سويلم هذا، ففعل طلحة، فاقتحم الضحاك بن خلفة من ظهر البيت، فانكسرت ساقه وأفلت أصحاب البيت.
كانت عين رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم المجاهد تترصد أولئك المثبطين الذين بلغت حالهم، حد التامر، فرد الله كيدهم فى نحورهم.
والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم يأخذ حذره ممن يثبطون العزائم وهذه المعركة معركة عزائم، وقوة نفوس، وجلد وصبر وقوة احتمال.
كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى ذلك الوقت العصيب يثير عزائم أصحابه، ولا يكتفى بأن يحثهم على الخروج، بل يحثهم على أن يعين بعضهم بعضا، وأن ينفقوا فى الحرب ولا يلقوا بأيديهم إلى التهلكة، وأنه يحتاج إلى الزاد والراحلة والشقة بعيدة، ولم يكن له اختيار فى الأمان كما ذكرنا بل إنه إذ علم أن الروم يتجمعون لاقتلاع هذا الدين من الأرض العربية، وليستذلوا العرب ويقضوا على منبع العزة فيهم، فما كان له أن ينتظر، بل لا بد أن يبادرهم، ولا ينتظرهم، لقد أراد أن يخرج لهم بأكبر غزوة يغزوها، أن يخرج بثلاثين ألفا، فلا بد أن يكون فى يده ما يغزوهم به، وما يحملهم عليه، ولا يكون معه إلا القوى الأمين.
ذكر ابن إسحاق بسنده أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم جد فى سفره، وأمر الناس بالجهاد والانكماش (الإسراع) وحض أهل الغنى على النفقة، والحملان فى سبيل الله تعالى فحمل رجال من أهل الغنى، وكان لعثمان ذى النورين الحظ الأكبر من الإنفاق، حتى كاد يحمل الجيش كله.
روى الإمام أحمد أن عثمان ابتدأ بألف دينار فصبها فى حجر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وقال عبد الله بن أحمد فى مسند أبيه بسنده قام النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فحث على الإنفاق على جيش العسرة، فقال عثمان بن عفان عليّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها، ثم نزل مرقاة من المنبر، ثم حث، فقال عثمان على مائة أخرى بأحلاسها وأقتابها، فقال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم:«ما ضر عثمان عمل بعد هذا» ولقد قال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: «من جهز جيش العسرة غفر الله تعالى له» .
هؤلاء المؤمنون كان منهم من حمل نفسه وحمل معه زاده كعبد الرحمن بن عوف ومنهم من تبرع بزاد وحملان لغيره كأبى بكر وعمر، وغيرهما من ذوى اليسار من المهاجرين والأنصار.
ولكن كان من بين المؤمنين الصادقين البكاؤون، وأولئك أرادوا الجهاد وألا يتخلفوا عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فى نفير كهذا النفير، الفاصل بين نشر الإيمان فى الأرض وبين أن يقضى عليه فى مهده أهل القوة فيها.
كان هؤلاء النفر السبعة الذين سموا البكائين، وقد ذهبوا إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فاستحملوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بأن طلبوا منه ما يحملهم عليه، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم «لا أجد ما أحملكم عليه» .