الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكتاب إلى ملك عمان
584-
لم يكن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ينى عن الدعوة إلى الإسلام فى الحواضر والبوادى، وأهل الوبر، وأهل المدر، كما رأيت فى كتابته للملوك.
لقد أرسل إلى عمان باليمن، وكان عليها أميران هما جيفر وعبد ابنا الجلندى وقد أرسل لهما كتابا حمله عمرو بن العاص، وهذا نص الكتاب:
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الله إلى جيفر وعبد ابنى الجلندى.
سلام على من اتبع الهدى. أما بعد، فإنى أدعوكم بدعاية الإسلام، أسلما تسلما فإنى رسول الله إلى الناس كافة لأنذر من كان حيا، ويحق القول على الكافرين، فإنكما إن أسلمتما، وليتكما، وإن أبيتما أن تقرا بالإسلام، فإن ملككما زائل عنكما وخيلى يحل بساحتكم وتظهر نبوتى على ملككما.
كتب الكتاب أبى بن كعب، وختم الكتاب.
يقول عمرو بن العاص، خرجت حتى انتهيت إلى عمان، فلما قدمنا عمد إلى عبد أحد الأخوين وكان أحلم الرجلين وأسهلهما خلقا، فقلت: إنى رسول من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إليك، وإلى أخيك. فقال: أخى المقدم على بالسن والملك، وأنا أوصلك إليه، حتى يقرأ كتابك.
ثم قال: وما تدعو إليه، قلت: أدعوك إلى الله وحده، لا شريك له، وتخلع ما عبد من دونه، وتشهد أن محمدا عبده ورسوله.
قال عبد: إنك ابن سيد قومك، فكيف صنع أبوك، فإن لنا فيه قدوة، قلت: مات ولم يؤمن بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم، ووددت أنه لو كان أسلم، وقد كنت أنا على مثل رأيه حتى هدانى الله تعالى إلى الإسلام.
فسألني: فمتي تبعته؟ قلت: قريبا، عند النجاشي، وأخبرته أن النجاشي قد أسلم، قال: فكيف صنع بملكه، فقلت أقروه واتبعوه. قال والأساقفة والرهبان تبعوه، قلت نعم.
قال: يا عمرو إنه ليس من خصلة فى الرجل، أفضح له من الكذب، قلت: ما كذبت، وما نستحله في ديننا.
قال: هل علم هرقل بإسلام النجاشى. قلت: بلي، قال بأى شيء علمت ذلك؟ قلت:
كان النجاشى يخرج خرجا له، فلما أسلم وصدق بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم منعه وقال: والله لو سألنى درهما واحدا ما أعطيته، فبلغ هرقل قوله، فقال له أخوه (أى هرقل) : أتدع عبدك لا يخرج لك خرجا ويدين بدين غيرك، دينا محدثا.
قال هرقل: رجل رغب فى دين، فاختار لنفسه ماذا أصنع به، والله لولا الضن بملكى لصنعت كما صنع.
قال: انظر ما تقول يا عمرو. قال عمرو: والله صدقتك.
قال عبد: فأخبرنى ما الذى يأمر به وينهى عنه.
قلت: يأمر بطاعة الله عز وجل، وينهى عن معصيته، ويأمر بالبر، وصلة الرحم، وينهى عن الظلم والعدوان وعن الزنا، وعن الخمر، وعن عبادة الحجر والوثن والصليب.
قال: ما أحسن هذا الذى يدعو إليه، لو كان أخى يتابعنى عليه، ركبنا حتى نؤمن بمحمد ونصدق به ولكن أخى أضن بملكه من أن يدعه، ويصير ذنبا.
قلت: إنه إن أسلم ملكه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على قومه فأخذ الصدقة من غنيهم، فيردها على فقيرهم. فقال: إن هذا لخلق حسن. ما الصدقة، فأخبرته بما فرض رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فى الصدقات فى الأموال، حتى إلى الإبل، قال: وتؤخذ من سوائم مواشينا التى ترعى الشجر، وترد على المياه فقلت نعم. فقال: والله ما أرى قومى فى بعد دارهم، وكثرة عددهم يطيعون هذا.
وبعد هذه المناظرة والتحريات التى قام بها الأخ الأصغر، ودلت على ميله للدخول فى الإسلام اتجه عمرو بن العاص إلى مقابلة الأخ الأكبر، وهو الأمير على هذه الديار، ولنترك القول لعمرو فإنه حسن الحكاية لما حصل.
مكثت ببابه أياما، وهو يصل إلى أخيه فيخبره بكل خبرى، ثم إنه دعانى (أى الأمير وهو الأخ الأكبر) دعانى، فدخلت عليه، فأخذ أعوانه بضبعى، فقال: دعوه، فأرسلت فذهبت، فذهبت لأجلس، فأبوا أن يدعونى أجلس، فنظرت إليه فقال: تكلم، فدفعت إليه الكتاب مختوما ففض خاتمه وقرأه حتى انتهى إلى آخره، ثم دفعه إلى أخيه، فقرأه مثل قراءته، إلا أنى رأيت أخاه أرق منه.
قال الأمير: ألا تخبرنى عن قريش كيف صنعت، فقلت اتبعوه، إما راغب فى الدين، وإما مقهور بالسيف. قال: ومن معه، قلت: الناس قد رغبوا فى الإسلام، واختاروه على غيره وعرفوا بعقولهم مع هدى الله تعالى إياهم أنهم كانوا فى ضلال، فما أحد منهم بقى غيرك فى هذه الخرجة، وإنك إن لم تسلم اليوم وتتبعه توطئك الخيل وتبيد خضراءك، فأسلم تسلم ويستعملك على قومك، ولا تدخل عليك الخيل والرجال.
قال الأمير: دعنى يومى هذا وارجع إليّ غدا.
فرجعت إلى أخيه فقال: يا عمرو إنى لأرجو أن يسلم إن لم يضن بملكه.
حتى إذا كان الغد أتيت إليه فأبى أن يأذن لى.
فانصرفت إلى أخيه، فأخبرته أنى لم أصل إليه، فأوصلنى إليه.
قال الأمير: إنى فكرت فيما دعوتنى إليه، فأنا أضعف العرب، إن ملكت رجلا ما فى يدى، وهو لا يبلغ خيله هاهنا، وإن بلغت خيله لقيت قتالا ليس كقتال من لاقى.
قلت: وأنا خارج غدا.
فلما أيقن بمخرجى، خلا به أخوه، فقال: ما نحن فيما ظهر عليه، وكل من أرسل إليه قد أجابه، فأصبح فأرسل إليّ، فأجاب إلى الإسلام هو وأخوه جميعا، وصدقا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وخليا بينى وبين الحكم فيما بينهم، وكانا لى عونا.
وقد نقلنا المحاورات التى كانت بين عمرو بن العاص، والأميرين، اللذين مال أحدهما إلى الإسلام ابتداء، ومال الثانى إليه انتهاء، وأسلما وحسن إسلامهما.
وإن هذه المحاورة والاستجابة لما فى الكتاب تدل على أن الإسلام قد تغلغل فى نفس العربى ما بين مؤمن به وناظر إليه، ومخادع فيه، وإنه كان موضع تفكير المفكرين.
وإن هذه المحاورة تدل على أنهم كانوا من النصارى، وأن هرقل لأنه ملك أكبر دولة مسيحية كان له هيمنة على نصارى الشرق، فمصر تابعة له، والحبشة له خرج على النجاشى ملكها.
ويدل أيضا على إيمان النجاشى بأنه لا ولاية لغير المسلم على المسلم، ولذلك رفض أن يرسل الذى كان عليه أن يؤديه، وقال له فى قوة وحزم: لا أدفع درهما.