الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الاستعداد للفتح
591-
كان لا بد إذن من اللقاء، وروى أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعد أن صنعت ما صنعت قريش بمن فى عهده اعتزم أن يذهب إلى مكة المكرمة بالفتح المبين، وقال صلى الله تعالى عليه وسلم: والله لأغزون قريشا، قالها ثلاث مرات، على ما روى.
أذن أصحابه بأن يتجهزوا للذهاب إلى مكة المكرمة، وأمرهم بالجد والتهيؤ وقال:«اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش، حتى نبغتها فى بلادها» .
ولقد أخطأ بعض الصحابة ممن حضروا بدرا، وله فى الجهاد مقام، خطأ يعد فى نظر الحرب والجهاد خيانة أو خطيئة، ولكن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم الحكيم الواسع العقل والصدر عفا عنه، بعد أن أبطل عمله.
بينما النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يضرع إلى ربه أن يأخذ العيون والأخبار عن قريش، أراد بعض الصحابة أن يكون عينا لقريش يخبرها.
كتب حاطب بن أبى بلتعة كتابا إلى قريش يخبرهم بالذى أجمع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من الأمر بالسير إليهم. وأعطى كتابه امرأة وأوصاها بإخفائه، وجعل لها جعلا حتى تبلغه قريشا، فجعلته فى رأسها وفتلت عليه ضفائرها فى قرونها، ثم خرجت به.
وأوحى إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بما فعل حاطب، وفعلت المرأة فبعث اثنين من أخلص حوارييه شابين نشا فى طاعة الله والجهاد فى سبيله، وهما على بن أبى طالب، والزبير بن العوام.
فخرجا حتى أدركاها بالحليفة، فاستنزلاها من فوق البعير الذى تركبه، فالتمسا الكتاب فى رحلها فلم يجداه، فقال على فى حزم: إنى أحلف بالله ما كذب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ولا كذبنا؛ ولتخرجن هذا الكتاب، أو لنكشفنك. فلما رأت منه الجد قالت لعلى: أعرض فأعرض، فحلت قرون رأسها، فاستخرجت الكتاب منها، فدفعته إليه.
فذهبا بالكتاب إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وهنا نجد الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم القوى يسأل عن مسوغ لهذه الخيانة، فيقول فى رفق القوي، ورحمة الحليم.
يا حاطب ما حملك على هذا- لم يجابهه بالخيانة، ولكن طلب إليه مسوغا، إن كان لمثل هذا مسوغ، ولكن الكريم الحليم القوى أراد أن يقدم اعتذارا عما فعل من غير أن يبادره باللوم والتعنيف.
أجاب حاطب عن هذا السؤال وقد أحس بالضمير يؤنبه: يا رسول الله أنا والله مؤمن بالله ورسوله ما غيرت، ولا بدلت. ولكنى كنت امرأ ليس لى فى القوم من أهل ولا عشيرة، وكان لى بين أظهرهم وفود وأهل فصانعتهم عليه.
لا شك أن الجواب لا يبرر العمل، ودل على شيء غير قليل من الضعف النفسي، فوفوده وأهله بينهم من قبل الحديبية، ولعلهم وصلوا إلى مكة المكرمة فى مدتها، وفى كلتا الحالين، ما كانت البواعث الشخصية تسوغ مخالفة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وهو القائد الأعلى صلى الله تعالى عليه وسلم ولا تعريض الجيش للأذى، والاستعداد له ومواجهته، وقد تدول الدولة لأعدائه.
ولذلك لم يستسغ عمر رضى الله عنه ذلك، بعد أن لم يستسغه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ولذلك قال عمر رضى الله تعالى عنه: يا رسول الله دعنى فلأضرب عنقه، فإن الرجل قد نافق، ولكن الرسول الكريم صلى الله تعالى عليه وسلم الذى لم يستسغ ذلك العذر، خالف عمر، وقال معتذرا عن حاضره بماضيه فى بدر: ما يدريك يا عمر، لعل الله قد اطلع على أصحاب يوم بدر، فقال اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم.
ما يرد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عن فعلته التى فعلها، ولكنه يلومه فى عبارات رقيقة عاطفة إن ماضيه ينهاه عن حاضره، وأظن أن ذلك القول، أروع من قول الفاروق عمر.
ولقد قالوا إنه نزل فيه قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ، وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ، يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ، أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ، إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي، وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي، تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ، وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ، وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ، فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ. إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً، وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ، وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ. لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ، يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ، إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ، وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، كَفَرْنا بِكُمْ، وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ، إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ، وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ، رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ
(الممتحنة- 1: 4) .
وإذا كان ثمة أمر يسهل أن يرتكب الصحابى البدرى ذلك، فليس هو النفاق، ولكن المدة التى سهلت الالتقاء أحيت ما كان من مودة قديمة، فسال سيله فى طريقها حتى وقع فى هذا الخطأ، بل الخطيئة، ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، قد جعل ماضى أمره مسقطا لذنب حاضره وهو الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم المؤلف بين القلوب، الجامع لها، وهو بالمؤمنين رؤف رحيم.